من عبدِ

من عبدِ "المحرقة" إلى سيّد الاحتلال… الشرّ كإدمان وجودي

رأي نحن والحرية

السبت 25 أكتوبر 20256 دقائق للقراءة


"حين يعجز التاريخ عن التعلّم، لا يتوقّف، بل يعيد نفسه. العبد يصبح سيّداً، والسيّد يولد من جديدٍ في شكلِ عبدٍ جديد". 


يبدو أنّ التاريخ، حين يعجز عن التعلّم، يكتفي بالإعادة. كأنّنا عالقون في مسرحٍ دائريّ، تتبدّل فيه الأدوار لكن تبقى الحكاية نفسها: العبد يصبح سيّداً، والسيّد يولد من جديدٍ في شكلِ عبدٍ جديد.

هكذا تتكرّر سرديّة الألم، لا لتمنح الخلاص، بل لتعيد إنتاج الجرح بوجه آخر.

من المحرقةِ النازية إلى غزّة اليوم، تتكرّر الدائرة. إسرائيل التي خرجت من رمادِ الضحيّة، تمارس اليوم الدور نفسه الذي كانت تهرب منه. كأنّ العادة، كما وصفها ديفيد هيوم، صارت إدماناً وجودياً على الخوف والعنف. عادة تُنتج الإدراك نفسه، والخطاب نفسه، والعنف نفسه، حتى لو تغيّر المكان والزمان.

الروتين كبدايةٍ للفهم

الروتين هو أن أحلق شعري كلّ أسبوعين… فأستعيد جرأة وقوفي أمام المرآة، وأرى شعري المنسدل على كتفيّ يتساقط على الأرض. الروتين هو أن أرمي جسدي على سريري آخر اليوم، فأجد من يحمل عنّي ثقل نهاري… أريح رجليّ وقلبي وعقلي، حتى أعود وأكمل الحرب مع شروق الشمس.

تصوّراتنا عن الخير والشرّ، وعمن هو ضحيّة ومن هو جانٍ، تُبنى على العادة لا على الحقيقة. فالذي اعتاد الخوف يرى العالم كتهديد، ومن اعتاد الاضطهاد يبحث عن أمان مطلق ولو على حساب حرية الآخرين. بهذا المعنى، يمكن فهم التحوّل الصهيونيّ: من ضحيّةٍ تعيش رعب الفناء، إلى قوّةٍ تمارس عنفها باسماً للبقاء

لكن هناك روتيناً ساخراً أيضاً: أن أضغط زرّ المصعد مرّتين لأتوهّم أنّه سيأتي أسرع، أو أن أفتح الثلاجة عشر مرّات دون أن آخذ شيئاً. وهناك روتين عبثي حين أرى دموع الأطفال تحت الأنقاض، وأكمل الـ"scrolling".

العادة تبدأ بما هو بسيط، ثم تتضخّم لتصبح شكلاً من أشكال الوجود المكرّر، تماماً كما تتحوّل الشعوب التي اعتادت الخوف إلى شعوب تمارس القهر، خشية أن تُقهَر مجدداً.

هيوم… حين يصبح الإدراك عادةً

في كتابه "Treatise of Human Nature"، الصادر عام 1739، كتب هيوم: "العادة هي المبدأ العظيم الذي يجعل التجربة نافعةً لنا، وهي دليل للحياةِ البشرية بأكملها".

فالعقل لا يفكّر من فراغ، بل ممّا اعتاد عليه. حتى تصوّراتنا عن الخير والشرّ، وعمن هو ضحيّة ومن هو جانٍ، تُبنى على العادة لا على الحقيقة. فالذي اعتاد الخوف يرى العالم كتهديد، ومن اعتاد الاضطهاد يبحث عن أمان مطلق ولو على حساب حرية الآخرين. بهذا المعنى، يمكن فهم التحوّل الصهيونيّ: من ضحيّةٍ تعيش رعب الفناء، إلى قوّةٍ تمارس عنفها باسماً للبقاء.

العبد يخاف الموت، فيخضع. السيّد ينتصر، لكنّه يفقد إنسانيته لأنّ الآخر لم يعُد ندّاً بل أداة. وهكذا يبدأ التكرار: عبدُ الأمس حين يملك القوّة يعيد تمثيل مشهد سيّدِ الأمس، مدفوعاً بالرغبة في ألّا يعود إلى خوفه الأوّل.

فالعنف صار عادةً، والخوف صار مبرّراً وجودياً. وما كان بالأمس ردَّ فعل على الإبادة، صار اليوم نظاماً سياسياً مكرّراً.

هيغل… جدليّة السيّد والعبد تتكرّر

في "فينومينولوجيا الروح" الصادر في 1807، يرى هيغل أنّ الإنسان لا يعي ذاته إلا عبر الآخر. لكنّ الاعتراف لا يتحقّق إلا من خلال الصراع.

"الوعي بالذات لا يتحقّق إلا حين يواجه ذاته في الآخر".

العبد يخاف الموت، فيخضع. السيّد ينتصر، لكنّه يفقد إنسانيته لأنّ الآخر لم يعُد ندّاً بل أداة. وهكذا يبدأ التكرار: عبدُ الأمس حين يملك القوّة يعيد تمثيل مشهد سيّدِ الأمس، مدفوعاً بالرغبة في ألّا يعود إلى خوفه الأوّل.

هذه الجدليّة ليست مجرّد فلسفة، بل هي واقع يومي نراه في كلّ حرب. كلّ طرفٍ يريد أن يُثبت أنّه موجود، حتى لو كان الثمن إلغاء الآخر. لكنّ هيغل يذكّرنا أنّ الخلاص لا يأتي من الغلبة، بل من الاعتراف المتبادل: حين يرى كلّ طرفٍ في الآخر مرآةً لذاته، لا تهديداً لوجوده.

أرندت… تفاهة الشرّ حين يصبح العنف روتيناً

حنة أرندت، التي عاشت المحرقة كيهوديةٍ ألمانية، رأت الشرّ في صورته العادية، في كتابها الصادر عام 1963، "Eichmann in Jerusalem"، قالت إنّ الشرّ ليس دائماً ناتجاً عن كراهية، بل عن الاعتياد.

آيخمان لم يكن وحشاً، بل موظّفاً عادياً، ينفّذ الأوامر ويُدير الموت كأنّه ملفّ إداري. الشرّ هنا فقد عمقه، صار تفاهةً منظّمة، وروتيناً قاتلاً.

اليوم، تتكرّر الصورة على شاشاتنا: حرب تُبثّ مباشرةً، أرقام تتصاعد، بيانات، مبرّرات، ومؤتمرات… كأنّ القتل صار وظيفةً لا مأساة. تماماً كما قالت أرندت: "حين نفقد الحسّ بالآخر، نفقد معنى الشرّ نفسه".

ريكور… من إعادة السرد إلى شفاء الذاكرة

يقدّم بول ريكور، في "La mémoire, l’histoire, l’oubli"، الصادر عام 2000، خريطةً للخلاص من التكرار: لا بالنسيان، بل بإعادة كتابة السرد.

"إنّ الذاكرة الممجّدة تصبح سجناً، أمّا الذاكرة المتصالحة فتصنع مستقبلاً". 

ربّما الخلاص، كما حلم هيغل وريكور وأرندت، لن يأتي من نصر عسكري أو تسوية سياسية، بل من شجاعة إنسانية نادرة: أن نكسر العادة، أن نكتب سرديّة الألم لا كضحايا، بل ككائنات قادرة على الاعتراف والحبّ. عندها فقط، تتوقّف العادة عن أن تكون إدماناً، وتصبح بداية وعي جديد بالإنسان

الأمم التي تعيش على مجدِ ألمها تبقى سجينة تاريخه. وما تفعله إسرائيل اليوم هو كتابة سرديّةٍ جديدة، لكن بلغةٍ قديمة، بلغة الخوف من الآخر.

أمّا الفلسطينيّ، فيُمنع من سرد قصّته بحرّية، ويبقى أسيراً لردِّ الفعل لا الفعل. ريكور يذكّرنا بأنّ الاعتراف بالألم المشترك هو الطريق الوحيد لتجاوز الشرّ وتفاهته. ليس المطلوب نسيان الجراح، بل تحويلها إلى ذاكرةٍ خلاقةٍ تكتب سرديّةً جديدة لا تعيد إنتاج الجرح نفسه.

نحو كسر الإدمان

العادة، كما قال هيوم، هي ما يجعل التجربة نافعةً. لكن حين تتحوّل إلى إدمان وجودي، تصبح لعنة. الإدمان على الخوف، وعلى الردّ بالعنف، وعلى إعادة تمثيل الماضي، هو ما يجعلنا عالقين في حلقةٍ لا تنكسر.

ربّما الخلاص، كما حلم هيغل وريكور وأرندت، لن يأتي من نصر عسكري أو تسوية سياسية، بل من شجاعةٍ إنسانيةٍ نادرة: أن نكسر العادة، أن نكتب سرديّة الألم لا كضحايا، بل ككائناتٍ قادرةٍ على الاعتراف والحبّ.

عندها فقط، تتوقّف العادة عن أن تكون إدماناً، وتصبح بداية وعي جديد بالإنسان.




رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

وراء كل تحقيق، قصة بحث طويلة، وفريق يراهن على الدقة، لا السرعة.

نحن لا نبيع محتوى... نحن نحكي الواقع بمسؤولية.

ولأنّ الجودة والاستقلال مكلفان، فإنّ الشراكة تعني البقاء.

Website by WhiteBeard
Popup Image