من

من "لوليتا" إلى "صلاة القلق"… كيف تنتصر الرواية على رقابة النشر وخوف المجتمع؟

ثقافة نحن والتنوّع

الاثنين 27 أكتوبر 20259 دقائق للقراءة

"إنها مثيرة للغثيان إلى حدٍّ ساحق، حتى بالنسبة لقارئ فرويدي مستنير. وبالنسبة للجمهور، ستكون مثيرة للاشمئزاز. لن تُباع… أوصي بأن تُدفن تحت حجر لألف عام". تلك الرسالة تلقاها الكاتب الروسي الأمريكي فلاديمير نابوكوف من محرر دار النشر رداً على مخطوطه "لوليتا"، وهي الرواية التي نشرت في ما بعد في باريس عام 1955، وأعيد طبعها بنيويورك عام 1958، لتصبح واحدة من الروايات الأكثر مبيعاً في العالم.

"مزرعة الحيوان" والتي تعد واحدة من روائع الأدب العالمي للكاتب البريطاني جورج أورويل رُفضت كذلك من أربع دور نشر متتالية لانتقادها الحكم الشيوعي الشمولي، وعقب نشرها ذاع صيت كاتبها، فحصل على جائزة نوبل في الأدب. الكاتبة لجي كي رولينغ عانت أيضاً من رفض عملها الأول "هاري بوتر وحجر الفلاسفة" من 12 دور نشر، نظراً لما تحتويه الرواية من سحر وشعوذة. ومع ذلك صارت الرواية حدث عالمي وترجمت للغات عديدة، وبيع منها ملايين النسخ بالإضافة إلى تحويلها لسلسلة أفلام شهيرة بهوليوود.

ومع ذلك، تبقى الكاتبة مارغريت ميتشل صاحبة الرقم القياسي في رفض الأعمال الأدبية، حيث رفضت روايتها "ذهب مع الريح" لـ32 مرة. المفارقة أن الرواية عقب نشرها حصلت على جائزة الكتاب القومي عام 1936، ثم حازت بجائزة بوليتزر للأدب في الولايات المتحدة. حتى نيتشه لم يسلم من صعوبة النشر، وقد اضطر إلى نشر كتابه "ما وراء الخير والشر" على نفقته الخاصة وبالتعاون مع دار ناومان.

كثير من الروائع وُلدت من الرفض، وكأن الأبواب المغلقة كانت هي الطَرق الأول على باب الخلود. فالمبدع الحق لا ينتظر إذناً بالنشر، بل يخلق لنصّه طريقه حين تتخاذل الطرق

تلك التجارب -وهي أمثلة للأبرز، فالقائمة أطول من ذلك بكثير- توضح لنا العلاقة الطردية بين الناشر والمبدع، وتبين أن ذائقة ورأي دور النشر عادة ما يخالفه الصواب، وهذه العلاقة المعقدة والمركبة لم تقتصر على الأدب العالمي إنما لها صدى أيضاً في الكتابة العربية المعاصرة والقديمة. ولنا هنا نماذج أخرى على ذلك.

صاحب نوبل بين تواطؤ الناشر وهجوم الأزهر

حين انتهى نجيب محفوظ من كتابة روايته العملاقة "بين القصرين" توجه بها إلى ناشره سعيد جودة السحار، فإذا بالناشر يقول له: "إيه الداهية اللي انت جايبها دي يا نجيب؟!".

حول تلك الواقعة يصرح الناقد والصحافي محمد شعير قائلاً: "كانت الثلاثية في البداية عملاً واحداً ضخماً تحت عنوان 'بين القصرين'. وبسبب هذا الحجم الكبير للعمل، ركن الناشر المخطوط لمدة خمس سنوات كاملة. في تلك الفترة لجأ محفوظ إلى مجلة 'الرسالة الجديدة' التي بادرت بنشر حلقات من النص. لاقت الحلقات المنشورة إشادة وإقبال الجمهور، مما دفع الناشر لإعادة النظر إلى مخطوط نجيب، وجاء العرض بتقسيم الرواية إلى ثلاثة أجزاء: 'بين القصرين'، 'قصر الشوق'، و'السكرية'، لترى النور في عام 1956".

وفي حوار قديم لنجيب مع جمال الغيطاني، أشار إليه الكاتب محمد شُعير في كتابه "أولاد حارتنا... سيرة الرواية المحرمة"، قال محفوظ: "أخطأت خطأً كبيراً، لم أكرره فيما بعد أبداً في حياتي، وفي هذه الفترة تحدثت كثيراً عن هذا النوع من الروايات، وأفضت في شرح أفكاري، ونيتي في كتابتها. يوماً ما، أحد الأدباء الذين استمعوا إليّ ذهب وشرع في كتابة رواية من هذا النوع، أي رواية أجيال، وأصدرها بعد ستة أشهر".

خمس سنوات في انتظار العمل أثرت على حالة محفوظ النفسية والإنتاجية، وعاقت مسيرته الإبداعية لخمس سنوات كاملة. ومع ذلك، تظل واقعة "أولاد حارتنا" أشد عنفاً وتأثيراً.

في كتاب "أولاد حارتنا... سيرة الرواية المحرمة" يشير محمد شُعير إلى وقائع نشر المخطوط، والكلام هنا على لسان الكاتب محمد حسنين هيكل: "أخدتها معي إلى المنزل وقرأتها في ليلة واحدة، وفي الصباح قررت نشرها على الفور وبشكل يومي، لا كما كان يحدث من قبل أن تنشر الأعمال الأدبية بشكل أسبوعي، وهذا القرار اتخذته لسببين، الأول: لأن حجم الرواية كبير ونشرها أسبوعياً قد يستغرق ما يقارب عاماً كاملاً، وهي فترة طويلة قد تتيح لمن يريد أن يستغل الرواية دينياً أن يوقف نشرها، وثانياً لأنني أدركت رسالة الرواية وخطورتها".

وبالفعل ثار الأزهر على الرواية، وحاول البعض توقيف عملية النشر. غير أن هيكل واصل نشرها في "الأهرام" كاملة. بعدها امتنع الناشر جودة السحار عن نشر الرواية، فاضطر نجيب محفوظ إلى نشرها في بيروت عن دار الآداب. ولم تنشر في مصر بعدها إلا عبر النسخ المضروبة.

النشر في خارج الوطن ملاذ آمن

هذا العام (2025) فازت رواية "صلاة القلق" لمحمد سمير ندا بجائزة البوكر العربية. الرواية تم رفضها سابقاً من قبل عدة دور نشر مصرية ولبنانية وأماراتية. لم يكن الرفض يرجع إلى الأسلوب الأدبي، بل الفكرة التي تناقشها الرواية، والفترة الزمنية للأحداث عقب نكسة 67. يحكي سمير عن تجربته في النشر لموقع البوكر: "وفي الأخير تشجعت وأرسلته إلى أكثر من ناشر، لم يردّ عليّ بغير الصمت والنسيان. هل تألّمتُ؟ لا أذكر. ولعلّي كنت أستمتع بذلك النسيان".

الغريب أن دار مسكيلياني التونسية هي من تحمست للمخطوط وفضلت نشره. والأغرب أن بعض الكُتاب العرب، وهم أصحاب قامات كبيرة في الأدب أصبحوا يبحثون عن ناشرين خارج مصر لنشر أعمالهم. فالكاتب إبراهيم عبد المجيد، صاحب الروائع "لا أحد ينام في الإسكندرية"، "البلدة الأخرى"، و"طيور العنبر"، يحدثنا عن تجربة مع نشر روايته برج العذراء موضحاً: "دور النشر ليست كلها تخشى شيئاً معيناً. ما حدث معي في 'برج العذراء' كان عام 2003. داران أو ثلاثة امتنعت عن نشرها، فنشرتها في دار الآداب خارج مصر، ومنعت الرواية من دخول القاهرة لعام كامل، ثم سمح بدخولها بعد ذلك، وأعيد طبعها بدار الربيع العربي. لا مشكلة. لكن عموماً، الآن هناك تخوف عند دور النشر، لذلك صرت أنشر رواياتي في دار المتوسط أو مسكيلياني أو دار جداول. وبالمناسبة، كل الروايات تدخل مصر بشكل عادي جداً، ولكن هناك تخوف عند بعض دور النشر، وأنا أقدر ذلك خاصة بعد رواية 'قضية خالد لطفي'، فصاحب مكتبة تنمية، الذي نشر رواية 'الملاك الإسرائيلية' عن أشرف مروان، حكم عليه عسكرياً بخمس سنوات قضاها وخرج".

يضيف صاحب رواية "البلدة الأخرى": "هناك من يتطوع ويكتب عن رواية لم تعجبه، فتكون الكتابة أشبه بالبلاغ. أنا لا ألوم دور النشر وأقدرها، ودائماً أقول إنه يمكن لأي شخص أن ينشر في دار أخرى أو بلد آخر، فلا مشكلة، الأهم أن كل الروايات تدخل مصر دون مشاكل واعتراض".

ما بين رقابة الناشر وخوف المجتمع، تتعثر الكلمة، لكنها لا تموت. فالفكرة التي تُحاصَر اليوم، تُحلّق غداً في فضاءٍ أرحب، لتثبت أن الحرية ليست مكاناً يُمنح، بل جوهرٌ لا يُكتم

هذا الرأي يتوافق مع رأي الناقد محمد شُعير، الذي يؤمن بأن الدور من حقها الرفض أو القبول طبقاً لسياسات النشر والمعايير المختصة لكل ناشر. يؤكد شُعير أن اليوم يوجد أكثر من 300 دار نشر، وهناك تنوع في السياسات، كما أن النشر مفتوح بالخارج، بعكس جيل الستينيات، حيث لجأ الكُتاب وقتها للنشر ببيروت ودمشق لقلة الدور بمصر، وتدخلات السلطة.

المجتمع أيضاً يحجب الإبداع

نشر الكاتب السوداني حمور زيادة قصة قصيرة عن طفلة تعرضت للاغتصاب، فتعرض هو إلى التحقيقات من جانب لجنة الصحافة والمطبوعات. وبسبب تلك الوقعة سافر حمور إلى مصر للبحث عن حرية الإبداع.

يقول زيادة: "حين جئتُ إلى مصر تعرفت على دار ميريت. رحب بي محمد هاشم، مدير وصاحب الدار، وتحمس لنشر روايتي الأولى 'الكونج'، وكنتُ حينها لا أزال غريباً عن الوسط الثقافي. بعدها عرفت دار العين، ونشرت لي الدكتورة فاطمة البودي رواية 'شوق الدرويش' التي وصلت للقائمة القصيرة للبوكر، وفازت بجائزة نجيب محفوظ التي تنظمها الجامعة الأمريكية بالقاهرة، ومن وقتها وأنا أنشر معها أعمالي".

وعن ظروف النشر وتحدياته في السودان، يصرح صاحب رواية "الغرق": "في عهد جعفر نميري كانت هناك نهضة أدبية أشبه بالنهضة الثقافية المصرية، حيث كانت وزارة الثقافة تنشر للأدباء، وكان هناك عدد قليل للغاية من دور النشر الخاصة، أذكر منها دار شُهدي التي نشرت رواية 'تلك الرائحة' لصنع الله إبراهيم كاملة لأول مرة، حيث رفضت تلك الرواية من قبل الدور المصرية والعربية تخوفاً من غضب السلطات. وهي دار تتسم بالاتجاه اليساري. غير أن صعود التيار الاسلامي للحكم قضى على حركة النشر بالسودان، لذلك كان البحث عن الحرية دون اعتقال أو اتهام يستوجب النشر خارج السودان".

يضيف صاحب رواية "الكونج": "مشكلة المجتمع السوداني حالياً أنه مجتمع انتقالي؛ لا هو تقليدي ولا حديث. لذلك يتسم بالنزعة الدينية الأصولية؛ تلك النزعة التي لا تسمح للأعمال الأدبية بأن تزعزع الثوابت أو تخرج عن التابوهات. لذلك لا بد أن يكون الإبداع ملتزماً بقواعد المجتمع".

يستطرد حمور: "ثقافة 'العيب' سائدة في السودان، ومن ضمن هذا العيب أن يطلب المبدع أجراً نظير إبداعه. ربما لسيطرة سياسة الفقر المناقضة للرأسمالية، كما أنه ليس حراً في ما يبدع".

يؤمن زيادة أن الفقر والثقافة الإسلامية الرجعية ووعي المجتمع المتزمت هو العائق الحقيقي أمام المبدع والإبداع. لذلك فمن حق الكاتب أن يبحث عن دور نشر بدول أخرى تقدر المبدع مادياً ومعنوياً، ولا تحجب أعماله وتقلل من قدره.

ويحضرني في انتهاء المقال، المشهدُ الأخير من فيلم "المصير" ليوسف شاهين، حيث تشتعل النيران في كتب ابن رشد في الأندلس، بينما تستقبل القاهرة أعمال الفيلسوف، وتوضع بين أمهات الكتب الهامة، فقد عانى ابن رشد سابقاً مما يعاني منه الكُتّاب اليوم. ثم المقولة التي أنهى بها الشاعر والفنان صلاح جاهين فيلمه "الأفكار ليها أجنحة" (1979): "الأفكار ليها أجنحة، ماحدش يقدر يمنعها من الطيران" كأنه بتلك المقولة يحسم الصراع الدائم بين المبدع وحاجب الإبداع، معلناً أن النصر حليف الأفكار العظيمة دوماً.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

وراء كل تقرير في رصيف22، أيام من العمل: من التفكير والتحرير إلى التحقق والإنتاج البصري.

نحن نراهن على النوع، والصدق، والانحياز إلى الحقيقة والناس.

وحتى يستمرّ هذا العمل، نحتاج إلى من يؤمن بأنّ الجودة والحرية تستحقان الاستثمار.

Website by WhiteBeard
Popup Image