"فرأوا فيها رجالاً شقراً"… هل اكتشف العربُ أمريكا قبل كولومبس؟

ثقافة نحن والتاريخ

الاثنين 13 أكتوبر 20259 دقائق للقراءة

في الثالث من آب/أغسطس عام 1492م بدأت رحلة البحار الإيطالي الأشهر كريستوفر كولومبوس باتجاه الأمريكتين. قاد كولومبس العشرات من رجاله على متن ثلاث سفن هي: نينيا، وبينتا، وسانتا ماريا. في تشرين الأول/أكتوبر من العام نفسه، وصلت السفن الثلاث إلى جزر الباهاما ليسجل التاريخ اكتشاف أرض جديدة واسعة، سيُطلق عليها في ما بعد اسم "العالم الجديد".

تؤكد المراجع التاريخية أن كولومبس كان يحلم بالوصول إلى قارة آسيا عبر المحيط الهادئ، وأنه عرض مشروعه مراراً على كل من البرتغاليين وتجار جنوة والبريطانيين، وقوبل بالرفض في كل مرة حتى تمكن أخيراً من إقناع الزوجين إيزابيلا ملكة قشتالة وفرديناند ملك أراغون.

تشير بعض المصادر الجغرافية الإسلامية لبعض المحاولات التي قام بها البحارة المسلمون لاجتياز المحيط الهادئ في أزمنة تسبق اكتشاف كولومبوس؛ على سبيل المثال يذكر الباحث المصري زكي محمد حسن في كتابه "الرحَّالة المسلمون في العصور الوسطى" أن هناك بعض القرائن التي تدل على أن المسلمين وصلوا إلى أمريكا قبل كولومبوس. من أهم تلك القرائن وجود كلمات عربية في لغة هنود أمريكا. من هنا يؤكد حسن: "لا نشك في أن العرب اتخذوا الأساطيل في المحيط الأطلسي للدفاع عن ملكهم في المغرب والأندلس. وطبيعي أنهم عرفوا شيئاً عن سواحل هذا المحيط وعن الجزائر غير البعيدة عنها. ولكن في بعض المصادر التاريخية العربية ما يشهد بأنهم حاولوا النفوذ إليه والتوغل فيه".

لم تكن الرحلات البحرية مجرد مساعٍ للاكتشاف، بل كانت جسوراً من الشجاعة والإصرار عبر المحيطات المظلمة، حيث تجرأ البعض على مواجهة المجهول حاملين أحلام حضارات بأكملها

ذكرت بعض المراجع أيضاً أن بعض الجغرافيين المسلمين وضعوا خرائط تظهر فيها الشواطئ الأمريكية قبل عصر كولومبوس؛ من تلك الخرائط الخريطة التي وضعها الجغرافي ابن الزيات الذي عاش في القرن الثاني عشر الميلادي، والتي يُقال إن نُسخَها محفوظة الآن في مكتبة قصر الإسكوريال في إسبانيا، وخريطة البحار الصيني تشنغ خه (ويسمى بالعربية حجّي محمود شمس الدين) التي وضعها في القرن الخامس عشر الميلادي. هذا فضلاً عن الخريطة المعروفة باسم خريطة أمير البحار العثماني بيري رئيس، والتي عُثر عليها من جانب بعض المستشرقين في مكتبة توب كابي سراي بإسطنبول، وتم نشرها سنة 1929.

رحلة خشخاش بن سعيد القرطبي

تحدث الجغرافي أبو الحسن علي بن الحسين المسعودي (ت 346هـ) في كتابه "مروج الذهب ومعادن الجوهر" عن المحيط الأطلنطي الذي سماه ببحر الظلمات، فقال واصفاً المحاولات الأولى لعبوره: "وقد ذهب قوم إلى أن هذا البحر أصل ماء سائر البحار، وله أخبار عجيبة قد أتينا على ذكرها في كتابنا أخبار الزمان في أخبار من غَررَ وخاطر بنفسه في ركوبه، ومن نجا منهم، ومن تَلِفَ، وما شاهدوا منه، وما رَأوْا، وأن منهم رجلاً من أهل الأندلس يُقال له خشخاش، وكان من فتيان قرطبة وأحْدَاثها فجمع جماعة من أحداثها، وركب بهم مراكب استعدها في هذا البحر المحيط، فغاب فيه مدة ثم انثنى بغنائم واسعة وخبَرُه مشهور عند أهل الأندلس".

لا نعرف الكثير عن رحلة خشخاش بن سعيد. تذكر المصادر أنه أبحر بسفينته من مدينة ولبة الواقعة جنوب غرب إسبانيا، وأنه اخترق المحيط الأطلنطي ووصل إلى بعض الجزر غير المعروفة ثم عاد مرة أخرى إلى بلاد الأندلس. ترجع أهمية رحلة خشخاش إلى أنها وقعت في القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي، أي أنها سبقت رحلة كولومبوس بما يقترب من ستة قرون كاملة.

رحلة الفتية المغررين

أشار أبو عبد الله محمد الإدريسي (ت 559هـ) في كتابه "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق" إلى المخاطر العظيمة التي هددت كلَّ من حاول اجتياز المحيط الأطلنطي باتجاه الغرب. يقول الإدريسي عارضاً تلك المخاطر: "ولا يعلم أحد ما خلف هذا البحر المظلم، ولا وقف بشر منه على خبر صحيح لصعوبة عبوره وظلام أنواره وتعاظم موجه وكثرة أهواله وتسلط دوابه وهيجان رياحه، وبه جزائر كثيرة ومنها معمورة ومغمورة وليس أحد من الربانيين يركبه عرضاً ولا ملججاً، وإنما يمر منه بطول الساحل لا يفارقه وأمواج هذا البحر تندفع منغلقة كالجبال لا ينكسر ماؤها وإلا فلو تكسر موجه لما قدر أحد على سلوكه".

رغم تلك المصاعب، ذكر الإدريسي قصة بعض البحارة الذين جرؤوا على الإبحار في المحيط الأطلنطي، ويسميهم باسم "الفتية المغررين"؛ يقول الإدريسي إن هؤلاء الفتية كانوا ثمانية، وأنهم قد خرجوا من مدينة لشبونة الأندلسية على ظهر مركب كبيرة شحنوها بالماء والطعام. ثم أبحروا مع هبوب الرياح الشرقية لأيام طويلة، حتى وصلوا إلى جزيرة كبيرة مملوءة بالأغنام، فمكثوا فيها بعض الوقت. ثم أبحروا مرة أخرى حتى وصلوا إلى جزيرة معمورة: "فرأوا فيها رجالاً شقراً زعراً شعور رؤوسهم سبطة -أي أن شعرهم مسترسل وطويل- وهم طوال القدود ولنسائهم جمال عجيب".

بحسب رواية الإدريسي، فإن أهل الجزيرة اعتقلوا الفتية لمدة ثلاثة أيام، ثم اقتيدوا إلى ملك الجزيرة في اليوم الرابع، وحضر الجلسة مترجم يحسن اللغة العربية وطمأنهم على مصيرهم. ومع هبوب الريح الغربية حُمل الفتية وقُيدت أياديهم وعُصبت أعينهم، ووُضعوا على متن سفينة متجهة إلى بلادهم. وظل الفتية على هذا الحال حتى اقتربوا من السواحل المغربية. يرجح الكثير من الباحثين أن "الفتية المغررين" الذين تحدث عنهم الإدريسي تمكنوا من الوصول إلى بعض الجزر الأمريكية التي أكتشفها كولومبوس في ما بعد. استند هؤلاء الباحثون إلى الأوصاف التي وصف بها أهل تلك الجزر والتي تتشابه كثيراً مع أوصاف أهل البلاد الأصليين الذين لقيتهم البعثات الاستكشافية الأوروبية في عصر الكشوف الجغرافية.

رحلة أبي بكر الثاني ملك مالي

تحدث الجغرافي المسلم ابن فضل الله العمري (ت 749هـ) في كتابه "مسالك الأبصار في ممالك الأمصار" عن إحدى المحاولات الإسلامية المهمة لاستكشاف المحيط الأطلنطي. بطل تلك المحاولة هو أبو بكر الثاني -الذي يُعرف أحياناً باسم مانسا محمد- أحد أباطرة مالي في القرن الرابع عشر الميلادي.

ينقل العمري قصة تلك الرحلة عن مانسا موسى (الأخ الأصغر لأبي بكر) الذي سافر إلى مكة لأداء فريضة الحج. تحدث موسى عن كيفية وصول المُلك إليه سنة 710هـ/1311م، بعدما قرر أخوه الأكبر أن يتخلى عن السلطة في سبيل استكشاف المحيط الأطلنطي. ينقل العمري على لسان موسى القصة كاملة فيقول: "نحن أهل بيت نتوارث المُلك، وكان الذي قبلي لا يصدق أنّ البحر المحيط لا يمكن الوقوف على آخره، وأحبّ الوقوف على هذا وولع به، فجهّز مئَين المراكب -200 مركب- مملوءة من الرجال وأمثالها مملوءة من الذّهب والماء والزّاد ما يكفيهم سنين، وقال للمسفّرين فيها: لا ترجعوا حتى تبلغوا نهايته أو تنفد أزوادكم وماؤكم".

بحسب رواية العمري، فإن غيبة هؤلاء المسافرين طالت، وبعد مدة عاد مركب واحد فقط، وحكى ربان المركب للسلطان أن الأسطول البحري الاستكشافي الذي أبحر في المحيط قد عثر على وادٍ عظيم، وبينما اختفت جميع السفن عند اقترابها من الوادي فإن ربان تلك السفينة قد خاف ورجع إلى بلاده. على إثر تلك الحكاية، قام سلطان مالي بتجهيز ألفي مركب وأبحر قاصداً هذا الوادي العجيب، ولم تُسمع أخباره بعدها.

في طيّ صفحات التاريخ، تبرز محاولات الملاحين العرب وغيرهم كأنوارٍ خافتة تنير درب العصور، تذكّرنا أن كل اكتشاف عظيم له جذور عميقة تمتد خلف الأفق

على الرغم من غرائبية تلك الرواية، فهناك احتمال لتصديقها؛ كانت مملكة مالي في القرن الرابع عشر الميلادي مملكة غنية قوية. وتمكنت من فرض سيطرتها على عدد من الموانئ المُطلة على المحيط الأطلنطي. من الأمور التي تؤيد صدق تلك الرواية أيضاً أن كولومبوس رأى في بعض رحلاته مجموعة من الأفارقة من ذوي البشرة السمراء؛ الأمر الذي يمكن تفسيره بأنهم كانوا أحفاداً للرجال الذين قدموا بصحبة أبي بكر الثاني.

حنّا الموصلي ورحلته إلى الأمريكَتَين

بعيداً عن المحاولات السابقة، تُعد رحلة القس العراقي حنّا بن إلياس الموصلي إلى القارة الأمريكية في القرن السابع عشر الميلادي، والتي دون تفاصيلها في كتاب "رحلة أول شرقي إلى أمركة"، أول محاولة موثقة يقوم بها رحالة مشرقي لزيارة "العالم الجديد" ووَصفِه، في وقت كانت المعلومات عنه حكراً على الرحالة الأوروبيين.

وُلد حنّا الموصلي في أسرة مسيحية كلدانية بمدينة الموصل، وتلقى تعليمه الديني ثم انخرط في سلك الكهنوت. دفعه فضوله ورغبته في خدمة الكنيسة إلى السفر نحو الغرب، فانتقل إلى حلب ثم انطلق في سنة 1668م إلى إيطاليا وفرنسا وإسبانيا، قبل أن يرافق بعثة إرسالية إسبانية متوجهة إلى أمريكا اللاتينية. بدأت الرحلة من ميناء قادش الإسباني نحو المحيط الأطلسي، وبعد أسابيع من الإبحار وصل الموصلي إلى سواحل أمريكا الجنوبية، وتحديداً فنزويلا. تظهر كتاباته انبهاره بالطبيعة الاستوائية والجبال المكسوة بالغابات، فسجّل قائلاً: "كشفنا على أرض أمركة، وماؤها ينخلط بالبحر لعظمة النهر المنحدر منها، ولا يوجد في الدنيا نهر مثله". كما وصف التماسيح والطيور الملونة واللآلئ التي كان السكان يستخرجونها من أعماق البحر.

بعدها، تابع القس العراقي رحلته عبر الساحل الكاريبي حتى كولومبيا، وهناك احتك بالمسؤولين الإسبان، ولاحظ صرامة القوانين والضرائب. ثم عبر إلى بنما التي كانت محطة رئيسية لنقل الفضة المستخرجة من جبال بيرو. يذكر في كتابه: "خزينة الملك تُنزَّل إلى بورتو بلو، ومنها يحملونها على البغال ثمانية عشر فرسخاً، حتى يودعوها في أسكلة -يقصد ميناء- باناما".

أقام الموصلي في بنما لما يقرب من عشر سنوات. وفي تلك الفترة، زار مدينة ليما ووصف عمرانها وأسواقها وكنائسها، ودوّن عادات أهلها وتنوعهم العرقي بين الإسبان والهنود والسود. كما أولى عناية خاصة بمناجم الفضة في بوتوسي، حيث وقف على ظروف العمل القاسية التي عاشها الهنود المستعبدون. ووصف ذلك بقوله: "رأيت بعيني كيف يُدخلون المسكين إلى المعدن، فيبقى فيه أيّاماً بلياليها لا يرى نور الشمس".

من جهة أخرى، شارك الموصلي في النشاط الديني الكاثوليكي بالمستعمرات الأمريكية. حيث التقى بالعديد من المطارنة والأساقفة؛ على سبيل المثال، قال في أحد مواضع كتابه: "اجتمعت بأسقف ليما، وكان رجلاً محبّاً، فأعطاني خاتمه وأعطيته خاتمي عربون صداقة". بعد سنوات من الترحال والسفر، غادر الموصلي بيرو وعاد عبر المكسيك إلى إسبانيا، ومنها إلى روما حيث استقبله البابا إينوسنسيوس الحادي عشر. ثم رجع إلى الشرق ليستقر بين الموصل وحلب، وتوفى سنة 1699م.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

من 12 سنة لهلّق، ما سايرنا ولا سلطة، ولا سوق، ولا تراند.

نحنا منحازين… للناس، للحقيقة، وللتغيير.

وبظلّ كل الحاصل من حولنا، ما فينا نكمّل بلا شراكة واعية.


Website by WhiteBeard
Popup Image