شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
وثيقة نادرة تنزف دماءً... كشفها رفيق رحلة كولومبس

وثيقة نادرة تنزف دماءً... كشفها رفيق رحلة كولومبس

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رود تريب نحن والتاريخ

الأحد 30 أكتوبر 202201:03 م

"إن المياه اللامعة في الغدران، ليست مجرد مياه، بل هي دماء أجدادنا. كلّ وهج في مياه البحيرات الصافية، يروي أحداثاً وحكايات من حياة شعبي، أما همهمة الماء فهو صوت أجدادي". هذه العبارات التي ربما تبدو لنا اليوم، ذات نزعة رومانسية وشاعرية، هي جزء من خطبة الزعيم الهندي الأحمر "سياتل"، ألقاها في اجتماع لزعماء القبائل عام 1855 قبيل عقد الاتفاقيات مع حكومة الولايات المتحدة، وبعد أن دعا الرئيس الأمريكي الرابع عشر (فرانكلين بيرس) الهنودَ الحمر إلى بيع أراضيهم والعيش في مجتمعات معزولة شبيهة بالمعتقلات "المفتوحة الأبواب".

وإذا رجعنا بالتاريخ إلى ما يقرب من ثلاثة قرون، وقرأنا خطبة سياتل الشهيرة في سياقها التاريخي، ستتوارى هذه النزعة الرومانسية الشاعرية، التي اتسمت بها رسالة سياتل، ونرى بوضوح مروع صورَ المجازر والمذابح التي ارتكبها الرجل الأبيض في حق الهنود الحمر.

غير أننا إذا اطلعنا على الشهادة التاريخية النادرة للراهب الإسباني، المطران الثائر، بارتولوميه دي لاس كازاس، رفيق رحلة كريستوفر كولومبس إلى القارة الأمريكية، ونصير الهنودِ الحمر، سنفهم هذا التضافر في خطبة سياتل بين النهب والدمار والمذابح، حيث "مياه الأنهار التي هي دماء الأجداد"، وبين الحس الرومانسي الشاعري الذي تجسد في هيامه بالطبيعة وعشقه لأرضه وما عليها من إنسان ونبات وحيوان، هذه الكائنات الحية التي اجتثها الرجلُ الأبيض من جذورها لتنفتح شلالات الدّم، وتغطي أكثر من ثلاثة قرون من تاريخ البشرية، كأبشع عملية إبادة في التاريخ الإنساني، تأسست على أشلائها الولايات المتحدة الأمريكية، التي ما زالت تُجاهد في كتم صوت المذابح، ومحو صورتها من الذاكرة، وتغطية هذا العار البشري، برداء مرقع يُسمى بـ"الديمقراطية الأمريكية"، وما تشتمل عليه من قيم "العدالة والمساواة". كما أنها تُمرر مصطلح "الصوابية السياسية" على جثث ملايين الموتى من الهنود الحمر، ليصبحوا "السكان الأصليين"، وبذلك تكون قد غسلت ضميرها عبر تبديل مصطلح بآخر.

الوثيقة النادرة للمطران بارتولوميه دي لاس كازاس

أضاءت الوثيقة النادرة للمطران بارتولوميه دي لاس كازاس، التي كانت الكتاب الثاني في سلسلة "من أجل الحقيقة"، وقد صدر بعنوان "المسيحية والسيف"، ضمن منشورات المعهد الدولي للدراسات الإنسانية، ترجمة سميرة عزمي الزين، الجزءَ المظلم من الاجتياحات الإسبانية أو –بتعبير الكاتب نفسه- "الاجتياحات المسيحية" لأرض الهنود الحمر، وكشفت عن الجوانب التي أخفاها الغربُ عن أعين البشرية، وكذلك عصفت بالروايات الزائفة التي رددها الغرب حول وحشية الهنود الحمر، ووضاعتهم، وجنسهم المنحط، وأكلهم للحوم البشر.

أظهرت شهادة بارتولومية أن هذه الروايات الوحشية، تخص الرجل الأبيض وحده، وعلى النقيض منها كان الهنود الحمر كما وصفهم بارتولوميه: "إن هذه الشعوب أسعد أهل الأرض، وبلادهم أسلم بلاد الله وأكثرها طمأنينة... إنهم شعوب رضية لا تعرف الشر، طيبة بالغة الوفاء، بل إنها أكثر الشعوب تواضعاً وصبراً ومسالمةً وسكينة، إنها لا تعرف الضغينة ولا الصخب ولا العنف والخصام. شعوب مرهفة ناحلة هزيلة لا تطيق أجسادها الرهق، وسرعان ما يُهلكها المرض... ولقد غشي الإسبان هذه الخراف الوديعة غشيان الذئاب والنمور والأسود الوحشية التي لم تجد طعاماً أياماً وأياماً".

"لولا هذا المطران الثائر على مسيحيي عصره وما ارتكبوه من فظائع ومذابح في القارة الأمريكية، لضاع جزء كبير من تاريخ البشرية"... بارتولوميه دي لاس كازاس رفيق رحلة كولومبس

هزت هذه الوثيقة لـكازاس أعماقَ الكثيرين من أبناء الغرب، وراحوا يُفندون الروايات التاريخية التي سُجلت عن الفتوحات والرحلات الاستكشافية للقارة الأمريكية. أما الفيلسوف الفرنسي مارسيل باتييون، فقد أقرّ أن بارتولوميه هو أهم شخصية في تاريخ القارة الأمريكية بعد مكتشفها كريستوفر كولومبس، ورأى أن الراهب الإسباني هو "الشاهد الوحيد الباقي على أنه كانت في هذه القارة عشرات الملايين من البشر الذين أفناهم الغزاة بوحشية لا يستطيع أن يقف أمامها إلا مستنكراً لها، شاكاً في إنسانية البشر الذين ارتكبوها. لولا هذا المطران الثائر على مسيحيي عصره وما ارتكبوه من فظائع ومذابح في القارة الأمريكية، لضاع جزء كبير من تاريخ البشرية".

ووفقاً لمقدمة الكتاب، فإن بارتولوميه دي لاس كازاس ولد في عام 1474 في قشتالة الإسبانية، من أسرة اشتهرت بالتجارة البحرية، وكان والده قد رافق كولومبس في رحلته الثانية إلى القارة الجديدة عام 1493، أي بعد سقوط غرناطة بعام. وقد اصطحب والده معه عبداً هندياً، فتعرف بارتولوميه على هذا العبد، ومن هنا بدأت قصته مع بلاد الهند وهو ما يزال صبياً في قشتالة.

وبعد أن أنهى لاس كازاس دراسة اللاهوت، أبحر إلى جزيرة سان دومينغو (وكان يطلق عليها في ذلك الزمن "الجزيرة الإسبانية") عام 1502. ثم عُيّن كاهناً في عام 1513، وكان بذلك أول راهب إسباني يعين رسمياً في بلاد الهند الغربية التي اجتاحها الإسبان.

شهادة تنزف دماءً وجثثاً وأشلاءً

الشهادة التاريخية لـبارتولوميه، هي وثيقة نادرة، بالأحرى دموية، تنزف دماءً وجثثاً وأشلاءً، وتُصوِّر كافة صنوف التعذيب التي مورست ضد الهنود الحمر، كما أنها تنقل لنا المراحل الوحشية التي نفذها المستعمرون الإسبان، لإبادة شعوب هذه البلاد الغنية بالذهب والمعادن.

كانت القرارات البابوية هي التي منحت لملوك إسبانيا الحقَّ في غزو هذه البلاد، عبر طريقين: التبشير، ثم الاستعمار، على أن يتم اقتسام الغنائم بالتساوي بين الكنيسة والعسكر

وكانت القرارات البابوية هي التي منحت لملوك إسبانيا الحق في غزو هذه البلاد، عبر طريقين: التبشير، ثم الاستعمار، على أن يتم اقتسام الغنائم بالتساوي بين الكنيسة والعسكر. وكان الذهب هو الغنيمة التي تلمع في عيون الغزاة، ومن أجله سفكوا الدماء، وأحرقوا القرى، وأكلوا الأطفال، واصطادوا الهاربين في الغابات بكلابهم السلوقية، بل أنهم كانوا –بحسب المطران- لا يتورعون في إشباع هذه الكلاب بأطفال الهنود، وكانوا يبقرون بطون الأمهات، ويتلذذون بالقتل، وتقطيع الأيادي، وشوي الزعماء الهنود على نار هادئة على أرضهم وعلى مرأى من أبناء قبيلتهم.

كتب بارتولوميه شهادته في شكل رسالةٍ أرسلها إلى أمير بلاد إسبانيا دون فيليب، وجاء في مطلع الرسالة: "إن المرء لا يستطيع أن يتخيل أبداً أن في قدرة البشر أن يقوموا بمثل هذا التخريب. لقد عشت في بلاد هذه الشعوب الهندية أكثر من خمسين عاماً وشاهدت بأمّ عيني ما ارتكبوه من فظائع وجور. ولو أن سموّكم علم بالنذر اليسير من هذه الفظائع لتوسل إلى جلالتها أن تمنع الطغاة من طغيانهم باسم الفتوحات".

وتحت عنوان "رواية موجزة لدمار بلاد الهند"، فتح بارتولوميه خزائنَ الدمار والوحشية التي ارتكبها الغزاة في حق الهنود الحمر، فجاءت صفحات روايته، مروعةً، نازفةً، مدمغةً بالعار والخزي الإسباني.

كانت الجزيرة الإسبانية هي أول بقعة يغزوها الإسبان، وظلوا يتدفقون عليها لتسعة وأربعين عاما، ومن هذه البقعة بدأت أولى المجازر؛ فقد أباد الغزاة في هذه المنطقة -بحسب بارتولوميه- أكثر من ثلاثة ملايين إنسان، ويورد الكاتبُ الكثيرَ من صور التعذيب، حيث يقول: "كانوا يدخلون على القرى، فلا يتركون طفلاً أو حاملاً أو امرأةً تلد إلا ويبقرون بطونهم ويقطعون أوصالهم كما يقطعون الخراف في الحظيرة. وكانوا يراهنون على من يشقّ رجلًا بطعنة سكين، أو يقطع رأسه، أو يدلق أحشاءه بضربة سيف. كانوا ينتزعون الرضّع من أمهاتهم ويمسكونهم من أقدامهم ويرطمون رؤوسهم بالصخور، أو يلقون بهم في الأنهار ساخرين. وحين يسقط في الماء يقولون عجباً: إنه يختلج. بعضهم كان يلتقط الأحياء فيقطع أيديهم قطعاً ناقصاً لتبدو كأنها معلقة بأجسادهم. ثم يقولون لهم: هيا احملوا الرسائل، أي أذيعوا الخبر بين من هربوا إلى الغابات".

"كانوا يدخلون على القرى، فلا يتركون طفلاً أو حاملاً أو امرأة تلد إلا ويبقرون بطونهم ويقطعون أوصالهم... كانوا ينتزعون الرضع من أمهاتهم ويمسكونهم من أقدامهم ويرطمون رؤوسهم بالصخور"

وثمة مشاهد حُفرت بالأسود في ذاكرة بارتولوميه، يحكيها كمن ينزف دماً من مسام جسده، ومن بينها وسائل تعذيب زعماء القبائل الهندية، حيث كان يتمّ شويهم كالخراف على النار. وذات مرة، شاهد الكاتبُ أربعةً من هؤلاء الأسياد فوق المشواة، وكان صراخهم قد أزعج مفوض الشرطة الإسبانية الذي كان نائماً "أعرف اسمه، بل أعرف أسرته بقشتاله"، فقد وضعوا في حلوقهم قطعاً من الخشب أخرستهم. ثم أضرموا النار الهادئة تحتهم، ليحترقوا في هدوءٍ دون أن يزعجهم صوتُ ألمِهم.

كانت طرق التعذيب والوحشية هذه تُطبّق في جميع البلدان الجديدة التي يغزوها الإسبان، وكان ثمة تفنين في هذه الطرق يبتكرها الرهبان المبشرين قبل العسكر. أما الهنود -بحسب قول الكاتب-: "كانوا ودودين، عطوفين، يستقبلون الغزاة المسيحيين بالودّ والترحاب، ويعطونهم طعامهم. لم يحدث أن قام أحد الهنود بإلحاق الأذى بأحد من الإسبان. إنهم لم يعرفوا أبداً ما هو القتل. وليس بداخلهم أي ضغينة. وعندما عرفوا مع الوقت أن الإسبان يريدون الذهب، ويقتلونهم من أجله، فكانوا يستقبلونهم بصفائح الذهب، يأخذها الغزاة، ثم يقتلونهم ويحرقونهم. لقد أباد الإسبان هذه البلاد التي كانت صاخبة ومليئة بالبشر الذين يعشقون أرضهم وحيواناتهم. لقد كان الهدف واضحاً وهو اجتثاث جذور الهندي الأحمر من هذه الأرض".

ويمحو الكاتب الصورة التي روّجها الغرب عن وحشية الهنود الحمر؛ يمحوها بدماء الهنود أنفسهم التي أريقت على يد الغزاة الإسبان، ويقول إن الهنود لم يكن لديهم أسلحة، وكانوا يرتعبون من الحصان، بل كان عدوهم الأول. ويضيف أنهم في المرة التي حاولوا فيها الدفاع عن أنفسهم، جاءوا إلى الغزاة بأسلحة تشبه لعب الأطفال. وبسخرية يحكي الكاتب عن أحد الرهبان، الذي ظل يجري وراء أحد الهنود وهو ينزف بعد ذبحه بالسيف، حيث كان يريد أن يهديه إلى الدين المسيحي قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة.

وينقل لنا الكاتب صوراً تبرز براءة الهنود الحمر؛ فأثناء غزو الإسبان لأحد البلدان، قال أحد مساعدي رئيس القبيلة: إنهم يريدوننا أن نؤمن بإلههم. فقال آخر: إن ربهم هو الذهب. فقام رئيس القبيلة بجمع الذهب، وحين جاء الغزاة، قام بتقديم الذهب إليهم: هذا إلهكم فخذوه، ولا تقتلونا. وبعد أن أخذ الغزاة صفائح الذهب، قاموا بإحراق البلدة وما فيها. أما مشاهد العبودية وعمليات المقايضة، فقد تركت أثراً عميقاً ومدمراً في نفس الكاتب، وتحديداً ذلك الطفل الذي تم بيعه أمامه، مقابل قطعه من الجبن.

تاريخ الممالك الخمس

ويسرد الكاتب تاريخ الممالك الخمس -التي تكونت منها الجزيرة الإسبانية- قبل إفنائها، ويصفها بأنها من أجمل ممالك العالم. ويستفيض في وصف خيراتها وسهولها وأرضها الخصبة، وطبيعتها الساحرة، وهذه الممالك هي: "ماغوا، مارين، ماغوانا، كراراغوا، هيغواي".

ويحكي أنه حين انتهت الحروب في هذه الجزيرة، وتم إفناء رجالها، لم يبق فيها إلا بعض النساء والأطفال، وحينذاك قرر الغزاة أن يقتسموهم بحجة أنهم سيهديهم إلى الدين المسيحي. فكانوا يسوقونهم إلى العمل طوال النهار، ويمنعون عنهم الطعام، وشيئاً فشيئاً مات الأطفال، وماتت النساء في الحقول والمزارع، وبذلك أخليت الجزيرة من أهلها في غضون سنوات.

بعد سان دومينغو، انتقل لاس كازاس إلى كوبا، وكانت الجرائم التي ارتكبها الغزاة هناك، سبباً في الدمار النفسي الذي أصاب الكاتب، وفي حالة الصحو والثورة التي قادها على بني جنسه ودينه، حتى صار ملعوناً بينهم. وظل على مدار فترة طويلة يُرسل الرسائل إلى ملك إسبانيا، يحكي له فيها عن المجازر التي ارتكبت في حق الشعب الأعزل، ولكن دون جدوى. وبعد هذا الفشل المرّ، عاد من المكسيك إلى وطنه وكان ذلك عام 1546، وباع جميع أملاكه، وأمضى السنوات الأخيرة من عمره وحيداً مع ذاكرته المتفحمة بنار الحروب والمجازر، ولم يكن أمامه سوى أن يفتح هذه الذاكرة، ويُفرغ ما بها على الورق، لنقرأ نحن وثيقته النادرة، التي هي عنوان جاسم وفاضح لجزء كبير من تاريخ الإنسانية، وبالأحرى، تاريخ الرجل الأبيض.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

‎من يكتب تاريخنا؟

من يسيطر على ماضيه، هو الذي يقود الحاضر ويشكّل المستقبل. لبرهةٍ زمنيّة تمتد كتثاؤبٍ طويل، لم نكن نكتب تاريخنا بأيدينا، بل تمّت كتابته على يد من تغلّب علينا. تاريخٌ مُشوّه، حيك على قياس الحكّام والسّلطة.

وهنا يأتي دور رصيف22، لعكس الضرر الجسيم الذي أُلحق بثقافاتنا وذاكرتنا الجماعية، واسترجاع حقّنا المشروع في كتابة مستقبلنا ومستقبل منطقتنا العربية جمعاء.

Website by WhiteBeard
Popup Image