كيف قدّم الإعلام الألماني

كيف قدّم الإعلام الألماني "العشائر العربية" كراعية للجريمة المنظمة؟

العالم العربي وأوروبا نحن والمهاجرون العرب

الجمعة 10 أكتوبر 202510 دقائق للقراءة

 تُعد العشائر العربية في برلين من أبرز الظواهر الاجتماعية المثيرة للجدل. ومن الغريب أن يستخدم الإعلام والشرطة الألمانيان هذا الاسم للإشارة إلى عائلات من أصول عربية أو غير عربية! 

في الحقيقة إن مصطلح "العشائر العربية في برلين" ليس توصيفاً دقيقاً للواقع الاجتماعي بالكامل، بل هو تسمية إعلامية/سياسية تركز على فكرة الانتماء العائلي الكبير، وغالباً ما تحمل إيحاءً سلبياً عند الحديث عن الجريمة أو التماسك المجتمعي. والغرض منها لفت الانتباه الى ما هو غريب ومختلف عن الفرد في المجتمع الألماني. 

 تتهم الشرطة والإعلام في ألمانيا  هذه "العشائر" بالتحكم ببعض المناطق، مثل نويكولن "Neukölln"، وموابيت "Moabit"، من خلال أنشطة غير قانونية تشمل الابتزاز، تجارة المخدرات، وغسيل الأموال. 

حي "نويكولن" هو أحد أحياء برلين الجنوبية الشرقية، بماضيه العمالي اليساري، ونمطه المتعدد ثقافياً، اليوم يعيش فيه مهاجرون أكراد وعرب وأتراك إلى جانب جيرانهم الألمان، لكن الحي كذلك يعاني من تمايز اجتماعي واضح، فبعض أجزائه تعد مهمشة وتعاني من الفقر وضعف البنى التحتية.

على سبيل المثال، اتُهم أفراد من عائلة "رمّو" بسرقة عملة ذهبية تزن 100 كيلوغرام من متحف بوده "Bode- Museum" في برلين عام 2017 وضُبطت أسلحة نارية خلال التحقيقات.

اتخذت السلطات الألمانية إجراءات قانونية صارمة ضد ممتلكات العشائر. وفي مارس/ آذار 2025، أصدرت محكمة برلين الإقليمية حكماً بمصادرة 58 عقاراً مملوكاً لعائلة رمّو، وذلك على خلفية مزاعم بغسيل الأموال. وقبل ذلك، عام 2023، قضت محكمة بإعادة بعض العقارات إلى العائلة بعد تقديم تبريرات حول مصادر تمويلها.

جولة صباحية في برلين

في صباح خريفي هادئ، ما إن تطأ قدمك حي "نويكولن" جنوبي برلين، وتسير بضع خطوات في شارع "سونينالي" حتى ترى من حولك عشرات المطاعم والمقاهي العربية وقد فتحت أبوابها إلى جانبي الطريق. غالباً ما يجتمع المهاجرون العرب القدامى من لبنانيين وفلسطينيين هنا للتبضع وتناول الغداء أيام السبت والأحد. 

يستخدم الإعلام والشرطة في ألمانيا مصطلح "العشائر العربية" كتسمية سياسية/إعلامية توحي بالجريمة والولاء العائلي الكبير، مع أنه توصيف غير دقيق لواقع متنوع للمهاجرين. والتركيز على أحياء مثل "نويكولن" و"موابيت" يصنع وصماً جماعياً يختزل الجاليات في صورة واحدة

وقد شهدت المنطقة، التي باتت تعرف بـ شارع العرب، توسعاً في افتتاح محالّ جديدة تعود بمعظمها للاجئين السوريين الجدد الذين يقدر عددهم في برلين حسب DW بنحو 100 ألف لاجئ، وهؤلاء نافسوا في طريقهم المطاعم التركية التقليدية التي خف الطلب عليها مع ازدياد المعروض السوري.

يمكن للمرء خلال دقائق قليلة التنقل من محلات البزورية والبهارات ذات الروائح النفاذة إلى آخر للأدوات المنزلية أو الملابس والحلويات، وإضافة إلى المطاعم السورية ترى بضع بقالات لبنانية ومحال بيع اللحوم كالمصطفى وأيوب. 

أثناء السير هناك تسمع موسيقى عربية من مقهى صغير يملكه فلسطيني جاء لاجئاً في الثمانينيات. 

فمن يتجوّل في حي نويكولن يرى لافتات عربية على واجهات محال البقالة، ويشم رائحة الفلافل الطازجة، ويسمع شباناً يتحدثون باللغتين الألمانية والعربية. هكذا أصبحت برلين منذ زمن موطنًا لإحدى أكبر الجاليات العربية في أوروبا. 

وبينما تسود حياة يومية مليئة بالتنوع والحيوية، تطغى في الإعلام والسياسة بخاصة في السنوات الأخيرة نبرة أخرى ومشهد آخر: صورة "العشائر". لقد صار هذا التناقض بين التصورات الإعلامية والواقع الاجتماعي من أبرز محاور النقاش حول الهجرة والاندماج.

جذور الهجرة

 تجلى الحضور العربي في برلين مع وصول موجات من الفلسطينيين واللبنانيين والمُحلَّمية "Mhallami" خلال الحرب الأهلية اللبنانية (1975–1990)، وبعضهم كان بلا جنسية واضحة لسنوات.

جذور المُحلَّمية تمتد تاريخياً إلى منطقة ماردين/مديات على الحدود التركية-السورية، وهؤلاء يتحدثون العربية مع تداخلات ثقافية/لغوية محلية؛ هذا التعقيد الهويّاتي انعكس لاحقاً على أنماط الاندماج. كثير منهم استقر في أحياء مثل نويكولن وڤيدينغ "Wedding" وكرويتسبيرغ "Kreuzberg".

الفروق داخل برلين لافتة: “كرويتسبيرغ” مشهد ثقافي متنوع، بينما أجزاء من “نويكولن” تعاني التهميش. هذا التباين يجعل التعميم على كل المهاجرين خطأً منهجياً يخفي أثر السياسات المحلية على الأحياء.

هناك أنشأوا روابط اجتماعية متينة، وأسسوا متاجر صغيرة، وكوّنوا عائلات، وأوجدوا شبكات تعاونية لا تزال قائمة حتى اليوم. ثم جاء عام 2015، حين فتحت ألمانيا أبوابها لمئات الآلاف من اللاجئين، بينهم عشرات الآلاف من السوريين حيث توسّعت الجالية العربية بشكل واضح لتضم اليوم أكثر من مئة ألف شخص على الأقل. 

فتح ذلك فصلاً جديداً في علاقة برلين بالعالم العربي، إذ أصبح العرب اليوم ثاني أكبر مجموعة مهاجرة في المدينة بعد الأتراك  التي تقدر بنحو 200 ألف، ممن قدموا إلى ألمانيا كعمال نهاية الحرب العالمية الثانية.

منذ 2015 أضافت موجة اللجوء السوري طبقة سكانية عربية جديدة إلى سونينالِه "Sonnenallee" إحدى المناطق الأساسية من حي نويكولن المعروفة بمطاعمها ومقاهيها العربية والسورية، إضافة إلى أحياء عربية-تركية تقليدية، وأتاحت شبكات العمل العائلية فرصاً سريعة للاندماج الاقتصادي. 

العشائر… من المقصود؟

يستخدم مصطلح Clan "عشيرة" من أجهزة الأمن الألمانية ووسائل الإعلام لوصف نظام قرابة أوسع لا يقوم على روابط الدم فحسب. غالباً ما يرتبط المصطلح ارتباطاً مباشراً بـ"العائلات العربية الكبيرة"، ويشير إلى قرابة خاصة تؤدي بسبب التضامن ووحدة النسب إلى نمط من المخاطرة أو النشاط الإجرامي لدى بعض الأفراد المتورطين في انتهاك القانون. وهو وصف غير دقيق يشمل جزءاً صغيراً من مجتمع عربي-لبناني-تركي-كردي/مُحَلَّمِي أوسع بكثير في العاصمة الألمانية.

من هذه الناحية يؤكد باحثون وإعلاميون، منتقدين للتسمية والوصف المستخدَمين، أن التعميم الإعلامي يُسهم على الأغلب في إلحاق العيب ووصم جماعات بأكملها من دون النظر الدقيق في مسؤولية بعض الأفراد الفعلية. 

جاء هذا التحليل على موقع التلفزيون الألماني القسم العربي  DW  بحسب الباحثين ألكسندر فيرنر، ودانيلا هونولد، حين أشارا إلى أن "الهياكل العائلية في الوسط الإجرامي تعود لذوي أصول مهاجرة". وهذا ما يشير إليه الباحث محمود جرابعة بوضوح، والذي يقول في دراسته، التي أشار إليها لنفس المصدر "قابلت أشخاصاً متورطين في أنشطة إجرامية أو يرونها - أي الجريمة- مهنة لهم. ويقول أحدهم بفخر أنا مجرم، ويرى بعض هؤلاء أن الابتزاز وأخذ المال مقابل (الحماية)، هو مثل الأجور التي تتقاضاها شركات الأمن الخاصة مقابل الحماية التي توفرها!".

 الأسماء البارزة في الإعلام وأبرز القضايا

تتكرر في الملفات الجنائية/الإعلامية أسماء عائلات مثل رمّو (Remmo) التي تعود بأصولها إلى عشيرة "المحلمية" نسبةً إلى قبائل قديمة في جنوب تركيا وشمال سوريا ذات الأغلبية الكردية. من هناك غادروا إلى لبنان بعد الحرب العالمية الأولى، وفي أثناء الحرب الأهلية اللبنانية بدأت هجرتهم إلى ألمانيا الغربية. 

كذلك الأمر يشار إلى عائلة أبو شاكر (Abou-Chaker)، آل زين (Al-Zein) وميري (Miri)، مع التشديد أن حمل اللقب العائلي لا يعني الجريمة، وأن غالبية المنتمين لهذه العائلات مواطنون ومقيمون عاديون.

سرقة العملة الذهبية العملاقة (100 كغ) من متحف بوده عام 2017، حيث اتُهم أفراد من عائلة رمّو وحُكم على بعضهم لاحقًا. 

خلف العناوين المثيرة توجد شبكة اقتصاد يومي، متاجر صغيرة، مطاعم، حرف، وتعليم لأجيال ثانية وثالثة. شبكات القرابة تُستخدم أحياناً كرافعة اندماج اقتصادي مشروع، لكنها تُختزل في المخيال العام إلى غطاء مخالفة، فتُطمس قصص نجاح التي تصنع جزءاً من برلين اليوم

كما ارتبطت أسماء أخرى بملفات تتعلق بالمخدرات أو الابتزاز. لكن هذه العناوين، رغم جاذبيتها الإعلامية، تحجب واقع آلاف العائلات العربية الأخرى التي لا علاقة لها بالجريمة، بل تدير متاجر، وتعمل في المهن الحرة، أو تتابع تعليمها. 

الأرقام والحقائق وفق إحصاءات شرطة برلين تظهر أن الجرائم المصنفة تحت بند "جريمة العشائر" لا تشكل سوى نسبة صغيرة جداً من إجمالي الجريمة في المدينة. 

ورغم ذلك، تخصص الشرطة وحدات كاملة لهذا الملف. بينما يرى كثيرون أن هناك "مبالغة سياسية" – إذ يسهل تسويق خطاب "الحزم ضد العشائر" في الحملات الانتخابية أكثر من الحديث عن الجرائم الرقمية أو العنف الأسري. 

الجغرافيا تكشف بدورها عن تركز العرب في أحياء مثل "نويكولن"، "كرويتسبيرغ" و"تمبلهوف". لكن الاختلافات بين هذه الأحياء كبيرة: ففي "كرويتسبيرغ" يسود مشهد ثقافي شبابي، حيوي ومتنوع، بينما تعاني أسر أخرى في "نويكولن" من الفقر والتهميش. 

الصور النمطية للمهاجرين

ربط كلمة "عرب" تلقائياً بـ"الجريمة العشائرية" يترك آثاراً ملموسة. فهناك من يواجه تمييزًا في سوق العمل أو أحكاماً مسبقة في المدارس فقط بسبب الاسم أو المظهر. يقول الناشط الاجتماعي زكي أحمد وهو كردي تركي من نويكولن: "المشكلة ليست في وجود بعض العائلات المتورطة بالجرائم، بل في أن الإعلام والسياسة يعممان صورتها على كل الجالية". 

الجالية العربية في برلين ليست كتلة واحدة، ولا هي مجرد "عشائر إجرامية" كما قد توحي العناوين المتداولة إعلامياً والتي يجري تضخيمها خدمة لسياسات معينة أو بغرض الجذب الجماهيري.

هذه النظرة تعيق الاندماج وتحجب قصص النجاح، فالخطاب السائد هو أن العشائر العربية خطر أمني. أما الواقع فهو أنها جالية متنوعة، متعددة الأجيال، تساهم في تشكيل الحياة اليومية في برلين، ولا يمكن حصرها في قوالب إعلامية ضيقة.

تقول مديرة المركز الألماني لأبحاث الهجرة والاندماج، والباحثة في شؤون الهجرة نايكا فوروتان في كتابها الصادر سنة 2020 "مجتمع الآخرين"، بالألمانية "die Gesellschaft der Anderen" بأن الحديث عن جريمة العشائر يعني ربط الانتماء الأسري بالذنب. والواقع أن كثيراً من الجرائم يمكن تصنيفها ببساطة ضمن "الجريمة المنظمة"، دون ربطها بالأصل أو العائلة. والنتيجة أننا اليوم نجد أسماءً معروفة وقضايا مثيرة مثل عائلة رمّو، وعائلة أبو شاكر، وآل زين، أصبحت مألوفة ومتداولة في الصحافة الألمانية. 

الجالية العربية في برلين ليست كتلة واحدة، ولا هي مجرد "عشائر إجرامية" كما قد توحي العناوين المتداولة إعلامياً والتي يجري تضخيمها خدمة لسياسات معينة أو بغرض الجذب الجماهيري.

ثمة تعدد في الأجيال واختلاف في الطبقات الاجتماعية، وهي تعيش مدركة تحديات الاندماج وفرص المشاركة الأوسع في المجتمع البرليني الكبير الشديد التنوع والتنافس. 

إنهم لاجئون، تجار، طلاب، فنانون، وعمال. هم أبناء الجيل الثاني والثالث الذين نشأوا في ألمانيا. والاختزال في صورة العشيرة الإجرامية قد يجذب الانتباه الإعلامي، لكنه بعيد من واقع الحال.



رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

منذ 12 سنةً، مشينا سوا.

كنّا منبر لناس صوتها ما كان يوصل،

وكنتم أنتم جزء من هالمعركة، من هالصوت.

اليوم، الطريق أصعب من أي وقت.

وصرنا بحاجة إلكن.

Website by WhiteBeard
Popup Image