بين

بين "أكتوبر 73" و"السبت الأسود"... كيف أثّرت الحروب على أيديولوجيات الإسرائيليين؟

سياسة نحن والتنوّع

الجمعة 10 أكتوبر 202510 دقائق للقراءة

لا تغادر جدليات التديُّن في مواجهة العلمانية العقل الجمعي في إسرائيل. غير أنّ هذه السجالات تزداد احتداماً في أوقات الأزمات، كي يُعاد ترسيم العلاقة بين هذه الأيديولوجيات وأصحابها من جهة، وبينها وبين الواقع من جهة أخرى. بعد حرب السادس من تشرين الأول/ أكتوبر 1973، والتي تُعرف إسرائيلياً بـ"حرب يوم الغفران"، انجرفت الأيديولوجيات الإسرائيلية نحو تفكيك روح الصهيونية التقليدية، فازداد الاهتمام بقضايا اليهود المتدينين، وتراجعت في المقابل الأيديولوجيات العلمانية، التي تتطلّع إلى مجتمع مدني على النموذج الغربي، بحسب الأكاديمي الإسرائيلي المتخصّص في علم الاجتماع، أوري رام.

آنذاك، قاد تنامي صعود الأصولية اليهودية إلى سلسلة من الصراعات المجتمعية، التي كرّر بعضها إنتاج قضايا خلافية تعود إلى البدايات الأولى لإعلان تأسيس إسرائيل. وبرزت احتجاجات اليهود المتشدّدين على فتح أبواب الشركات أمام العمال وتشغيل وسائل النقل العام خلال أيام السبت والأعياد الدينية اليهودية، بالإضافة إلى الاعتراضات التي لا تقل حدَّةً على الزواج والطلاق المدنيين، في مقابل اعتراضات على ما عدّه علمانيون "امتيازات خاصةً" ومكتسبات لليهود المتشدّدين (الحريديم)، خاصةً الإعفاء من الخدمة العسكرية.

لماذا يزداد الميل إلى التطرّف الديني في إسرائيل في أوقات الحروب والأزمات؟ ولماذا يتكرّر السجال بين العلمانية والأصولية اليهودية على نحوٍ خاص في المشهد السياسي؟ وإلى أيّ مدى يخشى الساسة العلمانيون خوض هذه المواجهة؟

بعد مضي 50 عاماً، أي عقب 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، المعروف في إسرائيل بـ"السبت الأسود"، تجدَّد سجال التديُّن والعلمانية وأدّى -هذه المرة- إلى مزيد من المواقف المتطرّفة، في حين ترفض أكثرية المتدينين ربط اتساع دائرة الأيديولوجيات المتشدّدة بالحروب والأزمات، وتعدّه تطوّراً طبيعياً للمزاج العام، الذي يرشّح تركيبة إسرائيل السكانية لمزيد من التشدّد، ووصولها إلى الأغلبية في عام 2048، وفق ما يرى الحاخام هاغاي لوندين.

السابع من أكتوبر ومذهبية الأيديولوجيات اليهودية

يؤكد لوندين أنه بغض النظر عن تأثير 7 تشرين الأول/ أكتوبر، والأيام التي سبقته في مذهبية الأيديولوجيات اليهودية، يشيع في الخطاب العام الإسرائيلي، بما في ذلك خطابات المسؤولين وقادة الرأي، أنّ إسرائيل تشقّ طريقها نحو مفهوم الدولة الأكثر تديّناً وتطرفاً وفاشية، وصولاً إلى الذروة في العام 2048. وبينما تغيب دلالات ودواعي تحديد هذا التاريخ، تؤشر نتائج استقراء الواقع الإسرائيلي على تعمُّق التشدّد الديني بفعل الحرب، إذ تنامى ارتباط الجنود بالصلاة، وأصبح غطاء الرأس اليهودي (كيباه) منتجاً مطلوباً، حتى في المدارس الثانوية العلمانية.

كذلك، يشهد أسرى عائدون من قطاع غزة، بأنّ "أيادي الرب هي المنقذ الوحيد من الجحيم". الأسيرة أغام بيرغر، واحدة من بين هؤلاء ةقد أكدت بعد عودتها التزامها بعطلة يوم السبت، وبالصيام، وبالامتناع عن تناول اللحوم المذبوحة على غير الشريعة اليهودية. في حين أقر الجندي أوهاد بن عامي، بأنّ أزمة الأسر حفَّزته على الصلاة يومياً، وأداء طقوس الأعياد اليهودية، واعتمار الكيباه حتى بعد إطلاق سراحه. 

كذلك، اعترف الأسير ساشا تروبانوف، بأنه وضع الطاقية اليهودية على رأسه لأول مرة في حياته خلال الأسر وبعد تحريره، وبأنّ شريكته ورفيقته في الأسر سابير كوهين اعتادت تلاوة أحد المزامير المتعلّقة بالخلاص كل يوم في الأسر، بينما اتجهت إميلي ديماري إلى الصلاة أمام "حائط البراق" للصلاة وتلاوة مزامير الشكر لنجاتها.

انفتاح على التطرّف الديني متأثّر بآلة الحرب

تعكس الأمثلة السابقة غيضاً من فيض انفتاح واسع على أيديولوجيات دينية متشدّدة متأثّرة بآلة الحرب، وربما كان لذلك بالغ الأثر في فشل محاولات علمانية تغيير الواقع، أو حتى تحجيم انتشاره في المؤسسات التعليمية، أمام إصرار العقل الجمعي الإسرائيلي على جنوح جامح نحو اتجاه معاكس، أقوى من أي مقاومة، حتى لو كرَّس المنتوج في النهاية "دولةً دكتاتوريةً دينيةً"، حسب تقدير معارضين لهذا التوجّه في إسرائيل.

يدرك ساسة إسرائيل من اليسار والوسط، حقيقة تنامي النزعة الدينية في إسرائيل وسيطرتها على المشهد السياسي، لكنهم تفادوا الحديث عن هذه الإشكالية في برامجهم الانتخابية نظراً إلى حساسيتها.

وتتساءل الباحثة الإسرائيلية، تشين شاليتا، عن فرص تصدّي الساسة العلمانيين في الانتخابات القادمة للقضايا المتصلة بالتدين والعلمانية بما في ذلك الأسئلة مثل: هل ازداد النشاط الديني في السنوات الثلاث الأخيرة؟ هل تضاعفت صلاحيات المحاكم الحاخامية؟ هل تفاقم حجم المحتوى الديني في نظام التعليم الحكومي؟ هل هناك محاولات لتعزيز الفصل بين الجنسين في المجال العام؟ وهل هناك ميزانيات ضخمة للمؤسسات الدينية؟ 

مشهد اغتيال رابين كفل العزوف عن المواجهة 

مشهد اغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إسحاق رابين، في 4 تشرين الثاني/ نوفمبر 1995، ربما كفل عزوف الساسة العلمانيين عن مواجهة التيار المتطرّف. لمَ لا، وقد اغتال إسرائيلي متشدّد رابين بعد عام واحد من حصوله على جائزة نوبل للسلام، وقبل أيام من اغتياله حاصر 20 حاخاماً منزله، وأطلقوا دعوات تطالب بموته؟ 

بجانب نشر صور رابين وهو يرتدي الكوفية الفلسطينية ويعانق عرفات، دعا المتطرفون إلى عصيان مدني في كامل المرافق، بعد توقيع رابين اتفاق أوسلو مع ياسر عرفات في 13 أيلول/ سبتمبر 1993. وصل الأمر حدّ احتفاء متديّنين يهود باغتياله. وخلال التحقيق معه، اعترف إيغال عامير قاتل رابين، بأنه قرّر تصفية رئيس الوزراء آنذاك، بعد أن سمع من متديّنين يهود.

ربما كفل مشهد اغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إسحاق رابين، عام 1995، عزوف الساسة العلمانيين عن مواجهة التيار المتطرّف. لكن ماذا عن مصادر تغذية هذا التطرّف الديني في المجتمع الإسرائيلي؟ 

أما عن مصادر تغذية التطرّف اليهودي، وتعزيزها في العقل الجمعي الإسرائيلي، فتعود إلى موردين رئيسيين: "الحريديم" و"الصهيونية الدينية". وفيما يمثّل المورد الأخير تياراً أيديولوجياً في الحركة الصهيونية، يعمل على ترسيخ دعم القومية اليهودية، وإقامة دولة لليهود بما يتّسق ونصوص التوراة، ينتمي الأول إلى الحركة ذاتها، لكنه ينصِّب نفسه حارساً على تطبيق تعاليم وشعائر الديانة اليهودية. وخلافاً لأكثرية "الحريديم" التي ترهن خلاص الشعب اليهودي بمجيء المسيح، تدعم "الصهيونية الدينية" فعلاً بشرياً لتحقيق السيادة اليهودية، وترى غالبية هذا التيار أنّ إقامة إسرائيل هي بداية الخلاص.

ربط أدقّ تفاصيل الحياة بالحلال والحرام

وبرغم تلاقي الفريقين على مأسسة التطرّف الديني داخل إسرائيل، يزيد رصيد "الحريديم" في ربط أدق تفاصيل الحياة اليومية بالحلال والحرام، حتى إنّ لفظة "حريديم" اقتبسها هؤلاء من "سفر إشعياء 66: 5"، التي تقول: "اسمعوا كلام الرب أيها المرتعدون من كلامه".

كردّ فعل على حركة التنوير في أوروبا خلال القرن الثامن عشر، نشأ تيار "الحريديم" كمحاولة للحفاظ على الهوية والتراث اليهوديين في مواجهة العلمنة المتزايدة. لكن انتشاره ارتبط، كما في الوقت الراهن، بالحروب والأزمات فاتسعت دائرته إلى حدّ كبير بعد المحرقة النازية، وتركّزت تجمعاته الرئيسية في الولايات المتحدة، وبريطانيا، وبلجيكا، وفرنسا، وكندا.

وبموجب تعاليم دينية متشدّدة، انفرد "الحريديم" بخصال بالغة التعقيد، تحظر الاختلاط بين الرجال والنساء، وتمنع الاندماج بغير أبناء الطائفة، وتميل إلى الإقامة في مناطق خاصة كمجموعات، بداعي حماية أبناء هذه الشريحة المتطرّفة من تسلّل قيم تتعارض مع قيمها، وتلقّي الدراسة الدينية فقط في منظمات تعليمية فريدة، وعادةً عدم مشاهدة وسائل الإعلام بما في ذلك التلفزيون، أو تصفح الإنترنت، أو مطالعة الصحف غير الحريدية تفادياً للتأثيرات "السلبية" للحداثة، علماً أنّ هذا المنع لم يعد راسخاً في السنوات الأخيرة كما كان سابقاً.

الاحتفالات الوطنية ممنوعة 

وتمتنع غالبية "الحريديم" عن المشاركة في المناسبات مثل الاحتفالات الوطنية، ويحرصون بغالبيتهم على تبادل الحديث باللغة اليديشية، وهي خليط من الألمانية والعبرية، ويعود ذلك إلى حرصهم على الخصوصية والانعزال، وتفادي استخدام العبرية التي يضفون عليها رداء القدسية ويستخدمونها في الصلاة ودراسة التوراة.

يحافظ الرجل الحريدي على ارتداء ملابس تقليدية سوداء وبيضاء مع مظهر محافظ نسبياً، يضاهي زي اليهود الأوروبيين في النصف الأول من القرن العشرين؛ يعتمر قبعةً سوداء، وتتدلّى من شعر رأسه خصلات معقوصة (مضفّرة) على الجانبين. أما المرأة، فلا تغادر بيتها كثيراً، وإن فعلت فلدواعي اقتصادية، ولا بد من وضع غطاء الرأس، ويُحظر عليها ركوب المواصلات العامة، أو حتى قيادة السيارات، أو العمل وسط الرجال، وتنحصر مهمتها الرئيسية في إنجاب ورعاية أكبر عدد ممكن من الأطفال، وعادةً ما يتزوج شباب وفتيات "الحريديم" في سنّ مبكرة. 

ارتفاع معدل هجرة "الحريديم" من المدن الرئيسية

حتى بداية 2023، شكَّل "الحريديم" نسبةً تناهز 13.5% من إجمال سكان إسرائيل، أي نحو 1.3 ملايين من إجمالي 9،849 مليون نسمة، مع توقعات بزيادة معدّل النمو السكاني لأبناء هذه الشريحة حتى تصل إلى 16% بنهاية العقد الحالي.

بين "الصهيونية الدينية" و"الحريدية"... ما الذي تكشفه توجّهات وتوقّعات تنامي التيار الأصولي في إسرائيل؟ وإلى أي مدى تؤثّر على مستقبل المنطقة وتلاحق الصراعات فيها؟

ولفت تقرير "معهد الإستراتيجية والسياسة الحريدية" لعام 2024، إلى ارتفاع معدل هجرة "الحريديم" من المدن الرئيسية في إسرائيل، ولا سيّما القدس المحتلة التي غادرها 75 ألفاً، وبني براك 42 ألفاً، وإن بقيت المدينتان الأعلى اكتظاظاً بالسكان "الحريديم". وبحسب توزيع الفئة ذاتها على خريطة إسرائيل عام 2023، كان 70% منهم يسكنون المدن على النحو التالي: القدس 292 ألف نسمة، وبني براك 210 آلاف، وبيت شيمش 108 آلاف، ومستوطنة موديعين عيليت 87 ألفاً، وبيتار عيليت 67 ألفاً، وأشدود 53 ألفاً، وإلعاد 49 ألفاً، وبِتاح تكفا 24 ألف نسمة.

وبينما قلّصت النساء "الحريديات" الفجوة بينهنّ وبين النساء غير الحريديات في مجال التوظيف إلى نقطتين بدلاً من 10 نقاط، حدث انخفاض طفيف في توظيف الرجال "الحريديم" في 2024، مقارنةً بعام 2023، وفق تقرير المعهد، من 55% إلى 54%. ويبدو أنّ ذلك يعود إلى عاملين رئيسيين: الأول يتمثل في الآثار الاقتصادية المترتبة على الوضع الأمني، وحرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة وحروب إسرائيل في لبنان وإيران وسوريا. أما العامل الثاني الذي لا يقل أهميةً، فقضية حظر تجنيد "الحريديم" في الجيش الإسرائيلي، وهي الإشكالية التي فرضت نفسها مجدداً على دوائر الجدل السياسي والأمني في ظل الحرب خلال العام ذاته.

ووفقاً لتحليل بيانات تقرير المعهد، فإنّ الإقبال الأكاديمي في المجتمع الحريدي في إسرائيل "منخفض جداً" إذ لا يتجاوز 4% فقط من الرجال الحريديين الذين تتراوح أعمارهم بين 25 و49 عاماً في عام 2024، مقارنةً بـ31% بين اليهود غير الحريديين.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

فلنتشارك في إثراء مسيرة رصيف22

هل ترغب/ ين في:

  • الدخول إلى غرفة عمليّات محرّرينا ومحرراتنا، والاطلاع على ما يدور خلف الستارة؟
  • الاستمتاع بقراءاتٍ لا تشوبها الإعلانات؟
  • حضور ورشات وجلسات نقاش مقالات رصيف22؟
  • الانخراط في مجتمعٍ يشاركك ناسه قيمك ومبادئك؟

إذا أجبت بنعم، فماذا تنتظر/ ين؟

    Website by WhiteBeard
    Popup Image