منذ التاسع من سبتمبر/أيلول 2025، عقب الهجوم الإسرائيلي على قطر، استهدافاً لوفد المفاوضات من حركة المقاومة الإسلامية الفلسطينية "حماس" في الدوحة، والإستراتيجيون العرب يتبادلون القصف التحليلي، استنكاراً أو شماتة. كشوف إنتاج هذا العدوان، في الفضائيات والصحف والمواقع الإخبارية ومنصات التواصل الاجتماعي، تكاد تزيد على حجم الاهتمام بعدو يصمم، منذ نحو سنتين، على إبادة أهل غزة، تجويعاً وقصفاً. الكوارث حظوظٌ، والمواساة أيضاً.
أحمد الله الذي سلبني حرفة الخبرة الإستراتيجية! قلة الحظ أيضاً نعمة. أنجاني الله وعافاني مما ابتلى به خبراء يتطاوسون بفوائض الهراء، كثرتهم تؤكد غيبوبة شعوب غارقة في كوارث بشرية وطبيعية، ويطيب لها سماع رطانات الإستراتيجيين باصطلاحات غامضة. لا يهم الفهم، فالأهم هو استمرار ضخّ الكلام الكبير، تماماً مثلما يحرصون على سماع القرآن وهم يتشاجرون ويتلاعنون.
أحمد الله ولا أنسى جرائم إسرائيل في استهداف دول عربية لا تربطها بها حدود: قصفت المفاعل العراقي عام 1981، وقبل الجريمة اغتالت في باريس عالم الذرة المصري يحيى المشد، لإشرافه على شحن وقود ذري إلى بغداد. في تونس اغتالت أبو جهاد عام 1988. وفي عام 2009 أغارت على قافلة أسلحة في السودان بزعم اتجاهها إلى غزة. وإلى اليوم يتواصل عدوانها على اليمن وسوريا وإيران ولبنان والضفة الغربية المحتلة. لا بلد عربيّاً يخلو من ثأر مع جيش الاحتلال. لم تنجُ إلا محميات الخليج، استثناء يؤكد القاعدة، حتى جاءت عملية الدوحة.
هذه القضايا، وما وراءها من خفايا يزهو بمعرفتها الخبراء، أتركها للخبراء. أعدهم بمتابعة كلامهم، في حدود الاستطاعة وما تحتمله المرارة. وللتدليل على متابعتي، ويقظتي بعد العدوان على قطر، أنني لاحظتُ إفاقة خبراء ينطقون بألسنة قادة، لإنعاش الذاكرة العربية بمشروع بدأ الكلام عنه عام 2016 تقريباً. وبعد عشر سنوات لا يزال الكلام يتجدد عن الشيء المسمى "الناتو العربي".
في عالم يغمره الصخب والتناقضات، يبقى استمرار تداول الكلام الكبير فارغاً من الفهم جوهر ظاهرة يستغلها البعض لملء الفراغ وتحقيق نفوذ على حساب الحقيقة
لا شأن لي بالترتيبات والإجراءات، ولا بقدرة هؤلاء على إعادة مضغ كلام مضغوه ومضغه غيرهم، حتى نفدت طاقته وفائدته. لكنهم لا يجتهدون مع نصٍّ يتم اختباره، أو يُراد له أن يعود إلى الحياة، حتى لو جهل مردّدو الاصطلاح الفرق بين "الناتو" و"النانو"، أو الفرق بين "الحلف" و"التحالف" قبل كلمتَي "الناتو العربي". الحلف كيان مؤسسي مستقر، يمتلك قوة الردع، ويستعد لتنفيذ مهام الدفاع عن أعضائه. أما التحالف فهو ترتيب مؤقت، ولعله انفعالي أحياناً، ويخضع غالباً إلى روح الاستدعاء عند وقوع كارثة، ثم يطوى طيّ السجل. قبل تحرير الكويت عام 1991، قادت الولايات المتحدة قوات "التحالف". وحين رفع مغاربة علم بلادهم على جزيرة ليلى المحتلة، عام 2002 بحجة منع التهريب، سارعت إسبانيا إلى طردهم، واستقوت بقوات "حلف" الأطلسي إذا لزم الأمر. هذا، باختصار آمل ألا يكون مخلّاً، الفرق بين الحلف والتحالف. وفي "الناتو العربي" لم يتفق الخبراء هل هو حلف أم تحالف؟
من مساخر الخبراء أنهم يتوجهون إلى جمهور عربي يتابع، على الشاشات نفسها وفي وسائط أخرى، حروباً أهلية في أكثر من بلد عربي. في هذه النزاعات الدامية تتباين الأنصبة في القوات البشرية والأسلحة والدعم العربي المعلن والمستتر. أيّاً كانت الصفة، حلفاً أو تحالفاً، كيف تتوزع حصص قيادة الشيء المسمى "الناتو العربي"؟ الخريطة العربية مهترئة، أكثر من جيش تتناهبه ميليشيات عسكرية وميلشيات دينية وميسلشيات عسكردينية، أكثر من بلد تحكمه حكومتان. والخبراء يتجاهلون الشروط السابقة على تأسيس الحلف أو التحالف، يتعاموْن عن شرط "الدولة"، كيف تستقر بحكومة غير منتخبة؟ يختص العالم العربي بخلوّه من رئيس سابق، رئيس واحد على الأقل، يحيا من دون خوف، بعيداً عن خيار المصير الثنائي: القصر أو القبر.
سمعت مقابلة تلفزيونية للقيادي السابق في منظمة التحرير الفلسطينية بسام أبو شريف، قال إن الجيوش العربية توقفت عام 1948 عند حدود مرسومة، اتفق عليها الأمريكان والبريطانيون ودول عربية. لكن قائد معركة القدس عبد الله التل عبَر باب الخليل، ولاحق قوات أرييل شارون، حتى وصل إلى اللِّد، وكان بإمكانه أن يصل إلى تل أبيب، لولا أن الأمير عبد الله بن الشريف حسين، حاكم إمارة شرق الأردن، "توجّه بنفسه" إلى عبد الله التل الذي قال لبسام أبو شريف إن عبد الله سأل عن الضابط الذي قاد هذه القوة إلى هنا؟ فتقدم إليه التل، وأدى التحية، متوقعاً تهنئة، فبصق الحاكم في وجه القائد الذي ثبت ولم يتحرك، وسالت البصقة حتى لامست فمه. قال له: "ارجع يا كلب على باب الخليل".
كأنني، بهذا الكلام، أخوض في ما لا أحب الخوض فيه. كأني أنازع الخبراء كهانتهم. أنساهم وأتذكر الشاب "جوفان" في فيلم "تحت الأرض". في الليلة الأولى لخروجه من القبو، الذي ولد فيه وكبر وتزوج، رأى طائراً. سأله عنه فأخبره أبوه "بلاكي" أن اسمه وطواط. الابن المذهول سأل: هل هو خطر؟ والأب ابتسم في أسى، وأوضح أنه مجرد دجاج بري، وليس خطرًا. اطمأن الابن ونظر إلى السماء بدهشة الاكتشاف: "الشمس!". فصحح الأب: "هذا قمرٌ يا بني، قمر". فتساءل الشاب: أين الشمس؟ وأتى الرد: "نائمةٌ، تستريح". مشهد دالٌّ في فيلم "تحت الأرض" للبوسني أمير كوستوريتسا، أتذكره كلما غابت العلاقة بين الدال والمدلول.
لا هيئة ولا تصور ذهنيّاً للمدلول، فما فائدة الإلحاح على الدالّ؟ أحياناً توجد للمدلول هيئة أنتجها سياق حضاري ومعرفي وجغرافي لا يدل إلا عليه، فكيف ننقل هذا الدال، ونستنسخه بزهو من اكتشف جديداً؟ يحق للأب أن يمنح ابنه ما شاء من الأسماء. أما الذي نستهلكه من ثمار الغير فلا يصير ابنًا إلا لأبيه، مخترعه.
في القرن الثامن عشر وضع خادم اللورد الاسكتلندي "ساندويتش" شريحة من لحم بين طبقتي خبز، فأتاح لسيده مرونة أن يتناول طعامه بدون طقوس المائدة، في رحلة أو أثناء لعب الورق. هذا الساندويتش تحول على لسان ساخرين إلى جملة مفيدة "شاطر ومشطور وبينهما طازج". واجتهد مجمع اللغة العربية بالقاهرة، في المعجم الوسيط، وعرّف "الشطيرة" بأنها "خُبزة تُشق ويوضع فيها الإدام". لكن الساندويتش تمرّد على التعريب، واحتفظ باسم اللورد، وضاعت حقوق الملكية على الخادم المسكين مجهول الاسم.
حين تُختزل الروح الوطنية إلى مجرد تحالفات سياسية هشة، تتلاشى الفرص الحقيقية للتغيير، ويغدو الخوف من المستقبل هو القيد الأكبر الذي يحول دون تقدم الشعوب
في الفنون، استعصت السينما على التعريب، رفضت الترجمة إلى أي لغة، وربما يرى الجيل الحالي في تعريبها القديم "دار الخيّالة" بعض الفكاهة. أما التليفون المكون من مقطعَين يدلان على إمكانية الاستماع عن بعد، فعُرّب إلى "المسرّة"، ونسينا الاسم العربي؛ لأنه دال لا يدل على هذا مدلول قد لا يأتي بأي مسرّة. ولا تضيف إلى اللغة العربية أن يكون التلفزيون هو التلفاز أو المرئيّ، ففي تصريف التلفاز بعض من الفذلكة، أما المرئي فلا يقتصر على هذا الجهاز المنزلي، ويمكن أن نضيف إليه شاشة الكمبيوتر والموبايل الذي أصبح نهبًا لاجتهادات التعريب، فسمي "النقال" و"الجوال" و"المحمول".
إخراج المدلولات من بيئاتها لا يقتصر على الاختراعات، فحافظ إبرهيم استنسخ صورة بدوية صحراوية لا تعرفها مصر المحروسة بالنيل، بقوله "أمِن العدل أنهم يردون الماء صفوًا وأن يُكدر وردي". كان يكفينا البيت الأكثر صدقاً لعمرو بن كلثوم "ونشرب إن أردنا الماء صفواً/ويشرب غيرنا كدراً وطينا".
لم يعش حافظ إبراهيم ليشهد استلاباً لغوياً لا ينتهي. مثقفون عرب يتفذلكون بالقول إن مشكلة ما "مثل كرة الثلج تكبر بمرور الوقت"، وهم يعيشون في بيئات فقيرة المطر، ولا يرون الثلج. هناك شخص مجهول قرأ تعبير "كرة الثلج التي تكبر" فاستحسنه وترجمه، وردده غيره من غير تفكير، كما يردد الكثيرون مقولة "وضع النقاط على الحروف"، وهي تناسب لغات نقاطها فوق الحروف، أما العربية فلا يخجلها وجود نقاط تحت الحروف أيضاً.
فقراء الخيال يجيدون فنون الاستعارة، ويزيد النهم في اقتباس أسماء عربية لمتاحف وجامعات ومهرجانات سينمائية. وفي مصر، مثلاً، أنشطة واحتفالات تحمل أسماء "أوسكار الأغنية"، و"أوسكار السينما المصرية"، وأضافوا "أوسكار السينما العربية" عام 2016 الذي كان موسماً لإطلاق اصطلاح "الناتو العربي"، بمناسبة القمة العربية الإسلامية الأمريكية في الرياض في مايو/أيار 2016.
الحضور الأمريكي، في قمة عربية إسلامية، أعجز وفود أكثر من خمسين دولة عن ابتكار اسم لحلف مفترض، فأسعفهم حلف تأسس في واشنطن، لضبط الإيقاع الدولي بعد الحرب العالمية الثانية. حلف شمال الأطلسي، "الناتو" الأصلي، يضم دولاً غير أطلسية، تركيا والعدو الصهيوني الذي يحتل فلسطين العربية الآسيوية. ولا يزال الشيء المسمى الناتو "العربي" يعاني استلاباً أكبر من اللغة.
القادة العرب في القرن الحادي والعشرين مساكين يستحقون الشفقة، دخلوا مرحلة في "تحت الأرض"، وأمامهم وقت يؤهلهم ليكونوا من أهل الكهف.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.