ضربُ ضابط، ضربُ الإمام الطبري...

ضربُ ضابط، ضربُ الإمام الطبري... "العيب في النظام يا بهايم"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والحرية

السبت 24 مايو 202508:16 ص

أحاول ترويض نفسي على تفادي حرق الدم. أن آخذ الأشياء، لو اضطررتُ، بالحد الأدنى من الجدية. بمبدأ "كأن"، أتأملها وأمضي. كأنها لم تحدث، كأنني لم أرها. نظرياً، يكفي الابتعاد عن الهموم العمومية وما أكثرها. إيثار السلامة النفسية أنانية، خلاص فردي، استسهال وتبسيط لسياق معقد. تجنُّب أسباب حرق الدم ترفٌ لم يعد ممكناً ولا مجدياً، فلأنسَ السياسة، وأنا لا أكتب في السياسة، لا أملك أدواتها ولا المعلومات اللازمة لبناء متماسك. ولأن لحظة 25 كانون الثاني/يناير 2011 الباهرة مستبعدٌ تكرارها في الأفق القريب، فلا أتمنى إلا خلوّ البال الذي يتيح لي كتابة قصة قصيرة.

لكن السياسة، حتى لو أعطيتها ظهرك، لا بدّ أن تلاحقك. وإذا قصَرْتَ وسائل التواصل الاجتماعي على مجاملات لطيفة، فسوف تفاجئك وسط المجاملات وقائعُ بلطجة تغضبك. حتى في رمضان لا يرتدع ممثلو السلطة. مكابح الجرافة لا تصوم عن شهوة الغطرسة. ثم نلتمس العدل بالرهان على سلطة القانون، فنفاجأ بوجود عدة قوانين. هناك قانون الإجراءات الجنائية المستند إلى أساس دستوري. وقانون عرفي يتسلط به بعض رجال الحكومة ورجال الدين، في غياب دولة القانون. نتساءل: أين العيب؟ وننسى حكمة المعلم برايز في الفيلم المصري "فيلم ثقافي"، عام 2000.

مسلسلات رمضان نافسها مقطع فيديو لمشاجرة في متجر بمحافظة قنا. الخبر الرسمي يقول إن النيابة العامة أمرت بحبس المتهمين بالتعدي على ضابط شرطة. تعنيني الإجابة عن سؤال تاريخي: كيف نطمئن للتاريخ؟ كيف تتأكد لنا حقيقة واقعة محددة، ليس لها بروفة سابقة، ولا إعادة لاحقة؟ في عهد الخليفة العباسي المعتصم جرت مناظرة أو استجواب للإمام أحمد بن حنبل. هناك روايتان مختلفتان، إحداهما لأنصار الإمام، والأخرى للجاحظ. حتى الحقيقة الثابتة يمكن التحايل عليها بالتأويل. قتلُ عمار بن ياسر حقيقة، والحديث النبوي عن طبيعة قاتليه حقيقة. لكن دهاء معاوية هداه إلى تأويل يخرجه من الورطة؛ لأنه لا يستطيع إنكار حديث متواتر، وقد أسمعه إياه عمرو بن العاص.

السياسة، حتى لو أعطيتها ظهرك، لا بدّ أن تلاحقك. وإذا قصَرْتَ وسائل التواصل الاجتماعي على مجاملات لطيفة، فسوف تفاجئك وسط المجاملات وقائعُ بلطجة تغضبك. حتى في رمضان لا يرتدع ممثلو السلطة. مكابح الجرافة لا تصوم عن شهوة الغطرسة

 في "سير أعلام النبلاء" يسجل شمس الدين الذهبي حواراً بين الشقيّين ابن العاص وابن هند، في موقعة صِفّين. علم عمرو بن العاص بقتل عمار، فقام فزعاً إلى معاوية، فسأله:

   ـ ما شأنك؟

  أجاب عمرو:

   ـ قتل عمار.

   ردّ معاوية:

   ـ قتل عمار فماذا؟

   قال عمرو:

   ـ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: تقتله الفئة الباغية.

 قال معاوية:

 ـ دحضتَ في بولك، أَوَنحن قتلناه؟ إنما قتله عليٌّ وأصحابه الذين ألقوه بين رماحنا. أو قال: بين سيوفنا.

 إذا كان لمعاوية بقية من ضمير فقد أراح نفسه بقوله: "إنما قتله مَن أخرجه". جملة لا تخلو من استعلاء طبقي ينفي أن يكون عمار قد خرج مختاراً، مؤمناً بقضية يدافع عنها الإمام علي. معاوية يشير إلى أن هناك "مَن أخرجه". ظني الخاص بميراث الطبقية في نفس معاوية يدعمه ما ينقله الذهبي، في "سير أعلام النبلاء"، عن الواقدي: "استلحَمَت الحرب بصفين، وكادوا يتفانون، فقال معاوية: هذا يوم تفانى فيه العرب إلا أن تدركهم خفة العبد، يعني عماراً".

 أما مناظرة الإمام أحمد والخليفة المعتصم فهي تحقيق جنائي. لا تكافؤ ولا ندية بين ملك ومعتقَـل تكبّله الأغلال، أعزل لم يرفع سلاحاً، ولا يتسلح إلا بالحجة. ورث المعتصم العباسي فتنة خلق القرآن عن أخيه المأمون. والمعتصم بإيمانه هو الإمام أحمد. سيق من سجنه في بغداد مقيداً، إلى الخليفة المأمون في طرطوس على الحدود مع بلاد الروم. مات المأمون قبل وصول الإمام، فأعادوه في قيوده إلى بغداد، وفي الطريق مات رفيقه ابن نوح، فصلى عليه ودفنه. جُلد الإمام أحمد، ومكث في السجن نحو ثمانية وعشرين شهراً. وتعددت جلسات المحاكمة، وهي ليست جلسات؛ فالإمام واقف مقيد، والخليفة الجالس على الكرسي، في حضور القاضي المعتزلي أحمد بن أبي دؤاد.

رواية الحنابلة للمحاكمة شهدها سليمان بن عبد الله السِّجزي، وسجلها القاضي أبو الحسين محمد بن أبي يعلَى الفرّاء في كتابه "طبقات الحنابلة" قال المعتصم: "هاتوا أحمد بن حنبل، فجيء به". قال الإمام إنه صلى بالليل، وأراد أن يقرأ "قل هو الله أحد"، فلم يقدر. واجتهد أن يقرأ غيرها فلم يقدر، وفي زاوية السجن رأى "القرآن مسجى ميتاً، فغسلته وكفنته، وصليت عليه ودفنته. فقال له: ويلك يا أَحمد، والقرآن يموت؟ فقال له أَحمد: فأنت كذا تقول: إنه مخلوق، وكل مخلوق يموت. قال المعتصم: قهرَنا أَحمد، قهرَنا أَحمد. فقال ابن أبي دؤاد وبشر المريسي: اقتله حتى نستريح منه". فأمر بجَلدِه. وفي الغد جيء به من السجن، امتد وقت كلام ابن حنبل، فحكى عن حلم، انتهى بقول الله يوم القيامة: "القرآن كلامي غير مخلوق". "قال سليمان السِّجزي: فوثب عند ذلك المعتصم، فقال: صدقت يا ابن حنبل، وتاب المعتصم، وأمر بضرب رقبة بشر المريسي وابن أبي دؤاد، وأكرم أحمد بن حنبل، وخلع عليه، فامتنع من ذلك، فأمر به فحمل إلى بيته".

 رواية الجاحظ تميل إلى نصرة المعتزلة، واستسلام ابن حنبل. في كتاب "خلق القرآن" قال الجاحظ إن المعتصم "ما زال به رفيقاً، وعليه رقيقاً، ويقول: لأن أستحييك بحق أحب إلي من أن أقتلك بحق، حتى رآه يعاند الحجة ويكذب صراحاً عند الجواب. وكان آخر ما عاند فيه، وأنكر الحق وهو يراه، أن أحمد بن أبي دؤاد قال له: أليس لا شيء إلا قديم أو حديث؟ قال: نعم. قال: أوَليس القرآن شيئاً؟ قال: نعم. قال: أوَليس لا قديم إلا الله؟ قال: نعم. قال: فالقرآن إذن حديث؟ قال: ليس أنا بمتكلم. وكذلك يصنع في جميع مسائله، حتى كان يجيبه في كل ما سأل عنه، حتى إذا بلغ المُنخَنَق، والموضع الذي إن قال فيه كلمة واحدة، برئ منه صاحبه قال: ليس أنا بمتكلم. فلا هو قال في أول الأمر: لا علم لي بالكلام، ولا هو حين تكلم فبلغ موضع ظهور الحجة، خضع للحق، فمقته الخليفة وقال عند ذلك: أفٍّ لهذا الجاهل مرة والمعاند مرة".

 يضيف الجاحظ: "وأما الموضع الذي واجه فيه الخليفة بالكذب، والجماعة بالقُّحة، وقلة الاكتراث، وشدة التصميم، فهو حين قال له أحمد بن أبي دؤاد: أتزعم أن الله تعالى رب القرآن؟ قال: لو سمعت أحداً يقول ذلك لقلت. قال: أفما سمعت ذلك قط من خالف ولا سائل، ولا من قاص، ولا في شعر، ولا في حديث؟ قال: فعرف الخليفة كذبه عند المسألة، كما عرف عنوده عند الحجة. وأحمد بن أبي دؤاد حفظك الله تعالى أعلم بهذا الكلام، وبغيره من أجناس العلم، من أن يجعل هذا الاستفهام مسألة، ويعتمد عليها في مثل تلك الجماعة، ولكنه أراد أن يكشف لهم جرأته على الكذب، كما كشف لهم جرأته في المعاندة. فعند ذلك ضربه الخليفة". في نهاية رواية الجاحظ أن ابن حنبل "كان ينازع بألين الكلام، ويجيب بأغلظ الجواب، ويرزنون ويخف ويحلمون ويطيش".

 هل كان الجاحظ صاحب هوى في تلك الواقعة؟

 لا تتبين لي الحقيقة بين طرفين تعوزهما الموضوعية. هل تاب المعتصم، وأكرم ابن حنبل؟ كما جاء في "طبقات الحنابلة"، أم مقته واتهمه بالجهل والعناد، كما كتب الجاحظ؟



لو أراد الخليفة لمنع الأذى عن الإمام الطبري، ولعاقب معتدين لا يجرؤون على التجاوز في حق السلطة الحاكمة. تركهم للقانون العرفي. هذا القانون العرفي أكثر رسوخاً في مصر الآن. ومن نتائجه واقعة ضرب ضابط الشرطة

 الأهواء بدّدت الحقيقة، لكن هناك حقيقة تاريخية تؤكد أن الدائرة دارت على المعتزلة، وذاقوا من كأس أذاقوها غيرهم. بل إن غيرهم، من أهل السنة وخصوصا الحنابلة، مارسوا إرهاباً كانت ضحيته الإمام ابن جرير الطبري.

الحنابلة لا يقنعون بأن شيخهم إمام المحدّثين، وأستاذ شيخي الحديث البخاري ومسلم. هكذا يراه بعض الفقهاء والمؤرخين، ولا يعتبرونه فقيها. من هؤلاء الطبري في كتابه "اختلاف الفقهاء". قال مصحح الكتاب المستشرق الألماني فريدريك كِرن، في المقدمة، إن الطبري ذكر الفقهاء في القرنين الأول والثاني ولم يذكر ابن حنبل؛ لأنه "لم يكن فقيها، وإنما كان محدّثاً، فأساء ذلك الحنابلة فرموه بالرفض وأهاجوا عليه العامة يوم وفاته فمنع دفنه نهاراً". نقل الدكتور كِرن من نسخة في المكتبة الملكية ببرلين: "وقصده الحنابلة فسألوه عن أحمد بن حنبل يوم الجمعة في الجامع... فقال أبو جعفر (الطبري): ما رأيته رُويَ عنه ولا رأيت له أصحاباً يعول عليهم... فلما سمعوا ذلك وثبوا فرموه بمحابرهم... فقام بنفسه ودخل داره فردموا داره بالحجارة حتى صار على بابه كالتل العظيم"، وتدخلت الشرطة لمنع العامة، ورفْع الحجارة.

انتقام الحنابلة من الطبري استمر بعد موته. وفي كتابه "إسلام بلا مذاهب" كتب الدكتور مصطفى الشكعة: "واضطر الرجل حفاظاً على نفسه أن يعتذر لهم، وعندما مات الطبري مُنع الاحتفال به ودُفن في داره ليلاً".

لو أراد الخليفة لمنع الأذى عن الإمام الطبري، ولعاقب معتدين لا يجرؤون على التجاوز في حق السلطة الحاكمة. تركهم للقانون العرفي. هذا القانون العرفي أكثر رسوخاً في مصر الآن. ومن نتائجه واقعة ضرب ضابط الشرطة. وزارة الداخلية قالت في بيان إن الضابط، يوم 13 آذار/مارس 2025، دخل المحل لشراء مواد غذائية، ولم يفصح عن هويته، واكتشف أن البيع بأعلى من السعر المعلن عنه، فحدثت المشاجرة. وقررت النيابة حبس عاملين بالمحل على ذمة التحقيق.

لست سلطة تحقيق، وحدود علمي أن الضباط، خارج محل العمل، لا سلطة لهم سلطة ولا حصانة. بالطبع يمتازون عن غيرهم من أشباه المواطنين. في الفيديو يسخر أحدهم من الضابط بأنه "حكومة". وكان على الضابط أن يلتزم بالقانون؛ فيبلغ جهاز حماية المستهلك. ويبقى لي سؤال عن الكاميرا الثابتة في المتجر، لماذا حاول الضابط نزعها وإتلافها؟ لعل الإجابة تغيّر مسار التحقيق في القضية، إلا إذا تذكرنا مقولة برايز في "فيلم ثقافي"، للشباب قليلي الخبرة في فهم أنظمة التشغيل: "النظام يا بهايم، العيب في النظام".

   حكمة بسيطة لا يستوعبها المغفلون.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها…

لكن رصيف22، هو صوت الشعوب المضطهدة، وصوت الشجعان والمغامرين. لا نخاف من كشف الحقيقة، مهما كانت قبيحةً، أو قاسيةً، أو غير مريحة. ليست لدينا أي أجندات سياسية أو اقتصادية. نحن هنا لنكون صوتكم الحرّ.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها، ولكنك بضمّك صوتك إلينا، ستكون جزءاً من التغيير الذي ترغب في رؤيته في العالم.

في "ناس رصيف"، لن تستمتع بموقعنا من دون إعلانات فحسب، بل سيكون لصوتك ورأيك الأولوية في فعالياتنا، وفي ورش العمل التي ننظمها، وفي النقاشات مع فريق التحرير، وستتمكن من المساهمة في تشكيل رؤيتنا للتغيير ومهمتنا لتحدّي الوضع الحالي.

شاركنا رحلتنا من خلال انضمامك إلى "ناسنا"، لنواجه الرقابة والترهيب السياسي والديني والمجتمعي، ونخوض في القضايا التي لا يجرؤ أحد على الخوض فيها.

Website by WhiteBeard
Popup Image