الغناء للأموات…

الغناء للأموات… "أنت هنا أغنّي لك لا بدّ تسمعني"

رأي نحن والتنوّع

الثلاثاء 16 سبتمبر 20257 دقائق للقراءة

أعترف بأنّ الموقف قد التبس عليّ، أنا ابن السادسة. كنت أراقب جارنا في مدخل القرية يتمايل برقصة غريبة، بينما زوجته تغصّ بالزغرودة ويتهدّج صوتها، والجميع يحمل دموعاً في عينيه، ويحاول الاقتراب من الرجل المتمايل طرباً، يقبّله ويطبطب على كتفه. 

ثمّة نسوة يغرقن في نحيب وعياط ونواحٍ وعويل وعقير. تعود الأم التي رشّوا على وجهها الماء وسنّدوها لتقف قليلاً، وفجأةً تتجه نحو زوجها، تشبك أصابعه بأصابعها ويرقصا معاً، تعلو وجهها ابتسامة مقتولة تشبه التي تجدها على وجوه المشرّدين أو مجانين الشوارع، فينتبه المغيّب في عالم مفارق وهو يؤدي وصلةً مولويةً، إلى زوجته كأنما يراها لأوّل مرّة، فينهار بكاءً وكلاماً لم أعِ منه سوى كلمة "عروستنا".

منذ ما يقرب الشهر، كانت تلك البقعة بالتحديد (مدخل وساحة القرية) تعجّ بالأشخاص أنفسهم، يرقصون ويبتسمون، ويباركون لأبوَي العريس متمنّين له الرفاء والبنين. الزغاريد ذاتها والرقص ذاته. 

سألت أمي وهي تستند إلى جدار قريب تراقب بعينين محمرّتين من شدّة البكاء: "عرس من؟!"، ضمّتني بحنان وقالت بصوت كاد أن يُسمع بين الشهقات: "عرس صبيّة حلوة ماتت اليوم".

البكاء والندب

أقف اليوم متذكراً ومتأملاً بأثر رجعي ذاك المشهد الذي أعادته إليّ فيديوهات عدة لأمهات مكلومات بسواد كالح وغطاء رأس مهمل، يتناوبن بأصواتهنّ على الأنين والغناء. لعلّك لا تقبض على الكلمات، لكنك ستدرك السياق أو المعنى حتماً. هو ذا فراق الأحبّة. حتى حركات اليدين تخبرك كيف يطرب الشخص أو يرقص في لحظة كتلك؟! والمفارقة أنّ المقلة نفسها تدمع لفرحٍ منتظر، ويبدو أنّ الأمر طبيعي طالما هي واقعية وحقيقية.  

تعود الأم التي رشّوا على وجهها الماء وسنّدوها لتقف قليلاً، وفجأةً تتجه نحو زوجها، تشبك أصابعه بأصابعها ويرقصا معاً، تعلو وجهها ابتسامة مقتولة ينظر إلى زوجته كأنما يراها لأوّل مرّة، فينهار بكاءً وكلاماً لم أعِ منه سوى كلمة "عروستنا"

يستجيب الجسد بطريقة ربما موحّدة إلى حدّ كبير مع بعض الاختلاف في التفاصيل؛ فكيف نكذّب الجسد؟ غناء وضحك وزغاريد في مواجهة الحزن، ودموع في مواجهة الفرح!

الغناء، التناويح، التعديد، الفراقيات، اللطميات، البكائيات والمسميات التي تخصّ طقس الموت، تلك السلوكيات التي اعتاد الناس في بلاد الشام وغيرها من شعوب المنطقة والعالم أن يمارسوها.

ثمّة سجلّ ليس بقليل من أغاني الفقد لدى ثقافات الشعوب. من أشهرها الأغاني الفلسطينية -فهم آلهة الفقد، يقاربهم في ذلك السوريون- تحضرني إحداها وهي أغنية تخصّ ليلة الحنّاء تروي تفاصيل الأفراح: 

"سبل عيونه… ومدّ إيده يحنونه… خصرو رقيّق… وبالمنديل يلفّونه"؛ الأكيد أنّ أمّاً شهقت بها فوق رأس ابنها الشهيد في إحدى جولات الموت.

وهناك أغنية أذربيجانية حزينة عن الأمّ شابنام توفوزلو: "كيف لي أن أعتاد على غيابك"، وثمّة أخرى مجرية شهيرة "الأحد الكئيب" (gloomy Sunday 1936)، كتبها الشاعر وعازف البيانو ريز سيريس: "الملائكة لا يخطر ببالها أن ترجعك أبداً، هل سيغضبون إذا لحقت بك يوم أحد كئيب؟". 

هذه الحالة سلوك أصيل وفطري حاولت البروتوكولات الدينية والاجتماعية تقنينها عبثاً، كما كانت النياحة من التقاليد الجاهلية التي منعها الإسلام. 

فقد كانت العرب قبل الإسلام تُظهر من الحزن والجزع على الميت، حيث النائحات يرثين الأموات بالقصائد. 

يقع شعر الندب والرثاء في قلب العادات والتقاليد الجاهلية، فقد ناحت الحرائر العربيات على قتلاهنّ، وناحت نساء قريش على قتلى بدر، وناحت هند أمّ معاوية على أبيها وأخيها، وفارعة بنت شدّاد على أخيها مسعود، وأم بسطام بن قيس الشيباني على ولدها بسطام، والخنساء بنت عمرو بن الشريد على أخوَيها صخر ومعاوية، وغيرهنّ كثيرات.

عدّ الدين الإسلامي هذا السلوك منحرفاً، حتى أنّ صوت المرأة يُعدّ عورةً فما بالك إن غنّت، وثمّة أحاديث تُحرّم (المعازف) الغناء عموماً، فكيف للمرأة أن تغنّي في المآتم؟!

الفطرة تغلب المكتسب في لحظة من أقسى لحظات المرء، في حضرة خبر الموت، لا يمكن لأحد فرض ردّة فعل الحزن.

إلا أنّ الفطرة تغلب المكتسب في لحظة من أقسى لحظات المرء، في حضرة خبر الموت، فإدراك الموت أمر شديد الخصوصية والذاتية، لا يمكن لأحد فرض ردّة فعل الفاقد، أو أن يرسم له خطوات الاستجابة بكذا وكذا، إنها عودة نقية وتامة إلى الذات، وعودة إلى المحاكاة الأولى من حياة الإنسان ربما إلى الأسلاف الأوائل ما قبل الشرائع والأعراف والبروتوكولات اللازمة والمقننة للسلوك. 

يورد الباحث الموسيقي جمال سامي عواد، في مقال له بعنوان "كيف تعبّر الموسيقى والغناء عن الحزن؟"، نقلاً عن كتاب "الأنواع الرمزية" للفيلسوف واللغوي الأمريكي تيرينس ديكون، حديثه عن أنّ الإنسان يمتلك ستة أصوات أساسية للتعبير عن حالته؛ الأنين أحدها، وتأتي بشكل غريزي، حيث يصبح الرابط بين الغناء والبكاء أكثر وضوحاً، ويغدو الغناء فعلاً وظيفياً مرتبطاً بغريزة أساسية عند الإنسان.

ويستعرض عوّاد لنا المقامات في الموسيقى الشرقية المحمّلة بنفحة الحزن، أشهرها مقام الصبا، ثم الحجاز، فالنهوند. ففي أغنية "سكابا" الشهيرة على سبيل المثال، نتلمّس ذلك الحزن الطاغي والمباشر عبر مقام الصبا. 

بغض النظر، لست هنا بصدد المحترفات المتخصصات بالتناويح، فهذا بحث آخر وإن كان ذا صلة، كما لست بصدد الموسيقى الشرقية ومقاماتها الحزينة، وثمّة من أثبت ما يُدعى العلاج بالغناء والموسيقى منذ أبقراط وأرسطو مروراً بالفارابي والكثير من الدارسين الغربيين المعاصرين، كذلك لسنا بصدده على أهميته واتصاله، بل أناقش هنا الجانب الذاتي وردود الأفعال على صدمة الفقد.

من يصادر انفعلاتنا؟

نعم ثمة ردة فعل ذاتية وإن تقاطعت مع أخريات شبيهة، ثمة رجوع إلى أناي وكيف تلقّيت هذا الخبر الصاعق. ارتباك كبير في استجابتي وفي ردود أفعالي، ازدحام واضح لكل أساليب التعبير، الوقوع الحتميّ في النكران، كآلية دفاعية فنّد تفاصيلها علم النفس؛ يُلزمني النكران أن أتصرف باحتجاج واضح، قد أضحك أو أرقص أو أتكلم مفردات لا تعبّر عن المشهد، كأن أقول: "أهلاً بالمعازيم" بينما هم معزّون في مأتم ولدي. 

يمتلك الإنسان ستة أصوات أساسية للتعبير عن حالته؛ الأنين أحدها، وتأتي بشكل غريزي، حيث يصبح الرابط بين الغناء والبكاء أكثر وضوحاً، ويغدو الغناء فعلاً وظيفياً مرتبطاً بغريزة أساسية عند الإنسان

من يستطيع مصادرة ما يصدر عنّي من انفعالات؟ من يقدر على تقنين انفعالي ووضع خطة وخطوات وإتيكيت؟! أليست تلك لحظة تجعل المجتمع والناس والأعراف والتقاليد والدين باهتين وحتى في حالة تلاشٍ كلّي؟ 

وما الذي يدوم بعد ذهاب الجميع إلى أعمالهم، سوى مجالسة الفقد شخصياً بكل هوله، ولا بدّ للصوت أن يصدر سواء كان أنيناً أم نشيجاً أم غناء ومناجاةً لعودة الفقيد. أليس الصوت أحد أشهر وسائلنا في التواصل نحن البشر؟ هل نحن في شكّ من أن يسمعنا من مات، لا بدّ من النداء كما تفعل الذئاب، في بحث أعدّته غريس فرح حول تأثير الغناء في النفس (وتجربة الغناء عرفها الإنسان منذ القدم، منذ أن رفع صوته بداعي الخوف والحزن والتواصل مع الغير عبر المسافات. آنذاك لامست أنفاسه أعماق نفسه المضطربة فهدّأتها، وخفّفت من حدّة وحدته وضياعه في عالمه البدائي).

في تلك اللحظة، لسنا من نحن عليه من مدنيّة وحضارة. يغدو النكوص إلى أسلافنا طبيعياً. ها هي أمّ تمزج البكاء بالكلمات وتغني:

"علواّه ترجع يا حبيبي وأفرشلك الدار

وعلواّه ترجع يا ماما وأفرشلك الدار

وكل يوم بشوفو بمنامي ويا ريتها تصدق أحلامي

غمّض عين وفتّح عين وشوفو ماشي قدامي".

أو تلك التي تضع في حجرها قبعةً عسكريةً، ما تبقّى لها من رائحة ابنها إذ وصل خبره المؤكّد ولم يصل جثمانه، تمسّد بأصابعها عليها بحنان بالغ، وتغنّي بصوت خفيض ومذبوح:

"يلا تنام… يلا تنام…"، ثم تنظر فجأةً إلى الجمع المتحلّق حولها وتشير بسبابة فوق شفاهها وعيون محذّرة: "هس… أكيد غفي حبيبي".



رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

من 12 سنة لهلّق، ما سايرنا ولا سلطة، ولا سوق، ولا تراند.

نحنا منحازين… للناس، للحقيقة، وللتغيير.

وبظلّ كل الحاصل من حولنا، ما فينا نكمّل بلا شراكة واعية.


Website by WhiteBeard
Popup Image