بدأت رحلتي في البحث عن الجدّات في مدينة صنعاء القديمة، من "بحر رَجَرج"، أحد أشهر أحيائها وأندرها، للاستماع إلى حكاياتهنّ المغمورة، ليس بدافع الحنين إلى الماضي، بل لفهم كيف تشكلت أدوارهنّ الاجتماعية، وكيف واجهن قيوداً صارمةً فُرض عليهنّ الانصياع لها.
قبل عقدٍ أو أكثر من الزمن، كان مألوفاً أن ترى الجدّات يجلسن عند حواف "المقاشم" -أي البساتين الصغيرة المتناثرة بين أحياء صنعاء القديمة- أو على عتبات البيوت وفي الدهاليز، يتبادلن أحاديث تلمس فيها حبّهنّ للأرض، والديار، والتفاريط (مجالس القات النسائية)، وللحياة نفسها.

كانت النساء في صنعاء القديمة يتخذن مجالس القات ملاذاً يخلّصهنّ من ضنك الحياة، فقد كانت -دون مبالغة- مصدر رفاهيتهنّ الوحيد آنذاك، وكانت تُعقد بمناسبات مثل الأعراس والموالد، أو من دون مناسبة، لكنها دوماً كانت مساحةً للفضفضة وتبادل الأحاديث، وفيها يستمعن إلى الأغاني الشعبية ويتراقصن على أنغامها، وأبرزها أعمال الفنان علي بن علي الآنسي، والفنانة نجاح أحمد "ثابتة"، وتقيه الطويلية، وأحمد السنيدار، وعلي السمة.
اليوم، تغيّر المشهد تماماً؛ لم تعد الجدّات في الواجهة، ولم نعد نراهنّ كما كنا نفعل سابقاً، ولم يعد الوصول إليهنّ سهلاً. عن سبب هذا الغياب، يقول منصور الوليدي، أحد أبناء مدينة صنعاء القديمة، منطقة بستان "شارب": "الوضع المعيشي نكّد على الناس، والحياة المدنية غلبت على المعيشة حق زمان"، أي أنّ الأوضاع الاقتصادية الصعب، وتغيّر نمط الحياة دفعا الناس إلى الانزواء في منازلهم، وغيّبا المشاهد الاجتماعية التي كانت تميّز أحياء صنعاء القديمة.
"زمان كانت المرأة إذا أحرقت ستارتها (عباءتها)، تنتصر لها القبائل. لكن اليوم الوضع تغيّر"... عمّا ترويه جدّات صنعاء القديمة عن حياتهنّ ومجالس القات النسائية و"المقاشم" و"الكرابس" وغيرها
وتعبيراً عن الحال الذي تعيشه المدينة، يقول: "قلبي تغلّق، ومفتاح السلى (الفرح) ضايع... يا مشتري للضجر، ها منّي أنا بايع". مع ذلك، لم نفقد الأمل في البحث عن الجدّات اللواتي يحملن حكاياتٍ ترسم ملامح وضع المرأة الاجتماعي في الزمن الماضي. وقد وصلنا إليهنّ عبر أبناء المدينة أنفسهم، وباحثين في التاريخ والتراث.
"إذا ما ربّيته في الدنيا... أرباه في الآخرة"
أمّ محمد (55 عاماً)، من حارة الفليحي، تزوجت وهي في الثالثة عشرة من عمرها، وانتقلت إلى بيت أهل زوجها. لم يكن ذلك غريباً آنذاك، فزواج الفتيات في عمر مبكر، والسكن في بيت العائلة، كانا شكلاً شائعاً لحياة النساء في صنعاء القديمة. وهو مستمر في بعض المناطق اليمنية إلى الآن.
لم تكن حياتها الزوجية سوى عمل دائم. كانت تعدّ خبزاً بالتنك (الفرن)، يكفي ليومين، وتغسل "شوائل من الثياب"، أي كميات كبيرةً، توضع في أكياس قماشية ليتم نشرها بعد ذلك، وبقيت على هذا الحال 13 عاماً، دون أن تبدي أي تذمّر.
تحمّلت أيضاً نوعاً آخر من المسؤولية، بعد وفاة سِلفتها (زوجة شقيق زوجها)؛ قامت بتربية أبنائها بجانب أولادها، لمدة خمس سنوات. لكنها لم تلقَ شكراً أو امتناناً، بل خضعت لرقابة وتحكّم شديدين من والدهم. تقول: "كان يتسلّط عليّ، يسألني فين رحتي؟ ومن فين جيتي؟ وهو لا يحقّ له ذلك"، ما دفعها في النهاية إلى مغادرة بيت العائلة والانتقال إلى منزل صغير في حارة "الزمر".
هناك، بدأت تبني حياتها من جديد. التحقت بمركز محو الأمية وتعلّمت القراءة، ثم بدأت العمل في الحياكة لتساعد زوجها في إعالة أبنائهما. كان يعمل في النجارة، لكنه كما وصفته: "راقد أغلب الوقت"، أي قليل العمل.
ازدادت الأعباء على أم محمد، بعد أن تركها زوجها إثر خلاف وقع بينهما، مسافراً إلى مدينة عدن حيث استقر فيها عشر سنوات. ولأنّ الحياة لا تتوقّف، ومسؤولية العيش وإعالة الأبناء لا تُنتظر، عملت بجهد مضاعف، ودعمت ابنها الأكبر حتى بدأ يبيع "الشيبس" و"الآيس كريم" في مدرسته.
بعد عشر سنوات، عاد الزوج، وبالطبع لم يكن من السهل تقبّل أمر عودته ومسامحته، لكنّها فعلت، لا ضعفاً، بل نتيجة قرار. تقول: "كانت علاقتي به قويةً، كنت أحبّه، وفي أثناء غيابه كنت أدعو: 'إذا ما ربيته (التقيت به) في الدنيا يا الله، أربّاه في الآخرة'". وعاشا معاً بعد عودته 12 عاماً، حتى توفّي في أيام كورونا.
"ما كانش معه حتى حق الأكل"
لم تكن أم محمد وحيدةً في ذلك. في حيّ آخر في صنعاء القديمة، حي "القاسمي"، تروي الجدّة، زوجة شائف الكدس (60 عاماً)، حكايتها عن "التضحية من أجل الحب"، برغم الفقر والتهميش الطبقي. تذكر الجدّة اليمنية اسم زوجها، وهذا جزء من التقاليد المفروضة على نساء زمانها حيث كانت هوية المرأة الاجتماعية في صنعاء القديمة تُختزل في علاقتها بالرجل.

تزوجت في سنّ السادسة عشرة، وعاشت في منزل يضمّ خمس أسر، كل أسرة في غرفة، وكان كل شيء يُقتسم، حتى أنّ "الفردة"، أي بساط الأرض، اقتُسمت بينها وبين والد زوجها.
كذلك، سكنت مع زوجها في غرفة ضيقة وبسيطة بالكاد تسعهما، لكنها لم تشتكِ يوماً برغم شدة الفقر. تستحضر تلك المرحلة وهي تبكي: "ما كانش معه حتى حق الأكل، بس أنا كنت راضية".
احتفظ زوجها بشيء واحد فقط من الدنيا: "الموقد النحاس"، وهو وعاء تقليدي دائري الشكل، مصنوع من النحاس الثقيل، يُملأ بالفحم المشتعل ويُستخدم لطهي الطعام أو تسخينه، وكان يُعدّ بمثابة "البوتاغاز الشعبي" في بيوت صنعاء القديمة. ورث زوجها "الموقد النحاس"، عن والده. فكّر في بيعه بخمسة قروش، أي ما يعادل تقريباً اليوم أقلّ من 0.01 دولار أمريكي، لكنها رفضت بشدة، وأصرّت على أن يبقى لأبنائهما ذكرى لا تُباع بثمن الحاجة، حيث لم يكن الموقد بالنسبة لهم مجرد غرض مادي بل حمل قيمةً عاطفيةً وتاريخيةً وروحيةً للعائلة.
وفوق مشقّة الفقر، واجهت أمّ محمد، التمييز الطبقي داخل أسرة زوجها. فهي من أصول قبلية، بينما تنتمي عائلته إلى طبقة "الشيوخ"، التي لم تتوانَ في النظر إليها باستخفاف واحتقار. كانوا يعاملونها كأنها "بَزِيّة" -تعبير مسيء يشير إلى المعينة المنزلية- ملزمة بكل مهام وأعمال المنزل، دون اعتبار لمكانتها كزوجة أو إنسانة.
كثيراً ما كان يُردَّد على مسامعها المثل الشعبي الجارح: "بخت المليح منحوس، ما يسعدين إلا البهايم الحوس"، وهو مثل يُقال عندما يُحرَم الطيب أو الجميل من الحظ والسعادة، بينما ينالهما من لا يُتوقّع له ذلك، كنايةً عن قلب الموازين وظلم الواقع.
باستخدامها مصطلح "بزيّة"، تعكس الجدّة كيف كانت ملزمةً بكل المهام في منزل الزوج دون اعتبار لمكانتها كزوجة أو إنسانة. في المقابل، كانت طبقة "الشيوخ" طبقةً مرموقةً تمثّل الزعامات المحلية ومن ينتمي إليها في صنعاء القديمة. هذه الطبقة عادةً تعدّ الزواج من فتاة من طبقة أدنى، مثل القبائل أو المزاينة، غير متكافئ اجتماعياً. لكن كثيرين من أبناء الشيوخ لم يكن لديهم مانع شخصياً من الزواج من طبقات أقل، برغم أنهم كانوا يواجهون صعوبات من أسرهم التي تنظر إلى الزوجة بازدراء أو احتقار بسبب اختلاف الطبقات.
كذلك، لم يكن انتماء المرأة إلى أصول قبليّة عيباً أو نقصاً في حد ذاته، لكن بعض الطبقات الاجتماعية الأعلى (مثل الشيوخ والسادة)، كان شيوخها وسادتها يرونها دون مستواهم الاجتماعي لأنّ المجتمع اليمني كان -ولا يزال- مقسّماً طبقياً إلى السادة/ آل البيت (أعلى الهرم)، ثم الشيوخ، فالقبائل، ثم المزاينة "أهل الخمس".
كثيراً ما كان يُردّد على مسامعها المثل الشعبي الجارح: "بخت المليح منحوس، ما يسعدين إلا البهايم الحوس"... عن سبل "المقاومة اليومية" للنساء في صنعاء القديمة عبر القات والغناء والعمل وأشياء أخرى
إزاء كل ما سبق، اختارت الجدّة أن تصبر، وتخدم، وتعطي، لا خضوعاً بل وفاءً لزوجها. تقول: "ضحّيت من أجل محبّة الحاج". بادلها هو الآخر الحبّ، برغم فقره، ومنحها ما هو أثمن من المال: الثقة والحرية. حتى عندما قالت له شقيقته ممازحةً: "زوجتك تشتري التفرطة شراءً!" -في إشارة إلى كثرة ذهابها إلى جلسات القات النسائية- أجاب ببساطة: "دعيها على راحتها".
وكان يسألها دوماً: "هل أكلتِ؟ هل أنتِ مرتاحة؟"، وردّد عليها:"احنجي نفسش"، أي اعتني بنفسك. لا تنسى كلمته التي لطالما كرّرها على مسامعها: "إذا أنتِ مرتاحة، فأنا مرتاح". وحتى في أيامه الأخيرة، وهو يصارع السرطان، ظلّ اهتمامه بها كما هو، بل صار أشدّ، وكأنّه يوصيها بحياتها بعد رحيله.
رحل، لكنها التزمت بعدّتها التزاماً نابعاً من الحب، لا من الواجب الديني فحسب. وعندما سألناها عن شعورها بعد وفاته، قالت بصوت منكسر: "طفى البيت... سار روحي الغالي".
"سلبوا مني بناتي... حتى الميراث"
فتحية القطاع (55 عاماً)، من حي "زبارة"، في سوق الملح، لم تبدأ معاناتها بعد الزواج، بل منذ أن كانت طفلةً في السابعة من عمرها. وُلدت في عائلة غنية من كبار تجّار صنعاء القديمة، لكن غِناهم لم يمنحها شيئاً من حقوقها، فقط لأنها "فتاة".
تقول فتحية بحسرة: "كلهم تعلّموا، إلا أنا، قالوا: البنت الوحيدة كاملة، ما بش لها تعليم". كررت على مسامعهم مراراً رغبتها في الذهاب إلى المدرسة، وكان الردّ دائماً نفسه: يضعون في يدها مكنسةً و"لَجَناً"، أي الوعاء الذي تُغسل فيه الثياب.
وفي الوقت الذي كان فيه إخوتها وأبناء الجيران يتعلّمون، كانت فتحية في سنّ السابعة، تنظّف المنزل وتغسل الثياب، لا لشيء سوى لأنها أنثى. ثم زُوّجت حين بلغت السادسة عشرة إلى رجل من الريف، من قِبل إخوتها، دون أن تُستشار أو يُؤخذ برأيها، ولم يُراعوا أنها وحيدة والدتها، ولا مكانتها في قلبها.
أنجبت فتحية بنتَين، لكنها لم تلبث أن وجدت نفسها وسط تآمر من إخوتها. والدتها أصبحت طاعنةً في السن وتحتاج إلى الرعاية، وإخوتها -بدلاً من تحمّل مسؤوليتها- دبّروا خطةً لقطع علاقتها بزوجها، حتى طلّقها، ثم انتزعوا منها ابنتَيها وسلّموهما لطليقها.
تقول: "جابوهن لطليقي، بورقة مزوّرة، قالوا إنه هو طلبهن... وهو ما طلبش".
تتوقف لحظةً، ثم تكمل باكيةً: "سلبوا مني بناتي وعمرهن ثلاث سنوات، وحُرمت منهنّ خمسة عشر سنةً". بعد هذه السنوات الطويلة، عادت إلى زوجها على أمل أن تلمّ شملها مع بناتها، لكن العودة كما تقول، "كانت جفاء". عاشت معه ستة أشهر فقط، ثم طلّقها مجدداً. أما ابنتاها، فحُرمت منهما بسبب الطلاق للمرة الثانية، عشر سنوات أخرى، حيث بقيتا مع والدهما. تقول: "ما بكاش أحد مثل بكائي... ولا قُهِر أحد مثل قهري".
تحمّلت فتحية حياة المطلّقة في بيت إخوتها، فعاملوها كعبء، وأجبروها على خدمة زوجاتهم. تعرّضت لكل أشكال العنف، ولم يكن يُصرف عليها، وهو ما اعتادت عليه منذ طفولتها، حيث كانت والدتها تقوم بتمزيق ثيابها القديمة وتخيطها مجدداً كي ترتديها فتحية.
حُرمت أيضاً من ميراث والدها، لأنّ إخوتها رأوا أنها لا تستحقه كونها بلا ولد. قالوا لها بوضوح: "ما بش معش ولد". كما حُرمت من ميراث والدتها، لأنّ الأخيرة وزّعت ما تملك بين أولادها وهي حيّة، لدعمهم وتمكينهم من ممارسة التجارة. وبذلك استولوا على حق فتحية وهي لا تزال على قيد الحياة.
استقلّت فتحية مع والدتها في منزل خاص بهما، وقررت أن تعتمد على نفسها. بدأت تتعلّم الحياكة، وعملت في حياكة الثياب في سوق المبساطة أو القملة (الملابس القديمة). وكان هذا السوق يُعرف بين الناس أيضاً بسوق القملة، نسبةً إلى بعض الملابس المستعملة التي كان يُعثر فيها أحياناً على القمل، كما يروي محمد الثور، أحد سكان صنعاء القديمة.

خيّطت "الكرابس"، وهو ثوب غليظ من القطن، وابتكرت مع باقي النساء حيلةً قديمةً لإشهار أعمالهنّ: "كنّا نرمِي بقايا القماش تحت البيت، عشان الناس يعرفوا إننا نخيط". لم تكن تقرأ ولا تكتب، لكن بعد الأربعين بدأت تتعلّم. اللافت أنّ "طليقة أخيها" هي من علّمتها.
واليوم، في هذا العمر، لا تزال تطالب بحقوقها، وتُرافع عن نفسها في المحاكم، بعد أن عجزت عن دفع أجرة محامٍ. تحفظ دفوعاتها برموز على قصاصات ورقية، وتقول: "إذا ما سمع لي القاضي، أجلس قدّامه على الأرض حتى يسمعني".

تقول إنها لجأت حتى إلى القبائل، وأحرقت "ستارتها" (عباءتها) كما كانت تفعل النساء المظلومات قديماً، في إشارة إلى استغاثة قصوى، ولم ينصفها أحد. "زمان كانت المرأة إذا حرقت ستارتها (نوع من اللباس التقليدي للمرأة عند الخروج)، تنتصر لها القبائل، لكن اليوم الوضع تغيّر"، تشرح.
تعبّر عن كل هذا الظلم بالشعر الحميني (الشعر الشعبي المغنّى)؛ تحفظه وتلقيه. تقول إنها لجأت إليه لا كغناء، بل كوسيلة مباحة للتعبير: "الغناء كان وصمة عار في صنعاء، لكن الشعر الحميني لا". بهذا تحدثت فتحية؛ حرمان من التعليم، ووصمة الطلاق، وانتزاع البنات، والإقصاء من الإرث، والعنف من القريب قبل الغريب، لكنها -رغم ذلك- لا تزال واقفةً، تخيط لتعيش، وتحمل القصاصات وتعلّقها على رفوف منزلها، أملاً في أن تنال حقها يوماً ما.
"تمنّيت المكياج… فحصدت العنف"
سيدة (62 عاماً)، وهو اسم مستعار بناءً على طلبها، من صنعاء القديمة، لم تدفعها للحياة الزوجية مشاعر الحب أو رغبة الأهل، بل أمر بسيط ظاهرياً... حبّها للمكياج.
في ثمانينيات القرن العشرين، حين كانت لا تتجاوز السادسة عشرة من عمرها، كان والدها يشجّع أبناءه جميعاً على التعليم، بمن فيهم هي، وفعلاً أكملت المرحلة الابتدائية، وهو أمر نادر وقتها. لكنها كانت تتوق إلى شيء آخر: أن تضع المكياج بحرية. ففي صنعاء آنذاك، كما في معظم اليمن، كانت الفتاة العزباء ممنوعةً من وضع الزينة، حتى إن بلغت.
تقول: "كنت أشوف المتزوجات يضعن المكياج، وكنت أتمنّى أجرّبه… ظنّيت الزواج فرح وضحك وجلسات، ما كنت أعرف إيش يعني زواج فعلاً". دخلت عش الزوجية محمّلةً بالأمل، لكن المعاناة بدأت منذ اليوم الثالث. فقد كان زوجها متسلّطاً وعنيفاً، لا يسمح لها بزيارة أحد، ولا يطيق تواصلها مع أهلها، حتى الهاتف الأرضي لم يكن متاحاً لها.
تقول: "كنت أحتاج أفضفض، أتكلم مع أحد ... لكن ما كان في أحد". عاشت عشر سنوات من العنف الجسدي واللفظي، بلا حماية ولا سند. وذات مرة، ضربها زوجها بمنشار -من جهته غير الحادّة- على ظهرها. وعن موقفها من العنف لم تكن صامتةً دائماً. "أحياناً أردّ، وأحياناً أهجع لي"، تقول.
ازداد عنف الزوج يوماً بعد يوم، حتى هدّدها أكثر من مرة برشّ مادة الأسيد الحارقة عليها. تقول بصوت موجع: "قال لي با أرش عليش أسيد… بس أنا ما خفت... بالعكس كنت أتمنى الموت، خلاص تعبت وكنت يائسة".
من المواقف التي تقول إنها لم ولن تنساها: حين حان موعد وضعها في ولادتها الثامنة. لم تطلب منه أن يأخذها إلى المستشفى. انتظرت أن يبادر هو، لكنه تجاهلها. ولدت بنفسها، وبعد الولادة، طلبت منه كوب حليب لأنها كانت جائعةً، فأجابها: "ما بش معي"، برغم أنه كان يملك المال. قالتها وبكت: "رقدت وأنا جاوعة… مستحيل أنسى هذاك اليوم".
"ما تنازلتش أبداً، كنت أدافع عن نفسي، وكان يهددني بالسلاح، بس ما خفت، وأولادي عوّضوني"... رصيف22 يكشف عبر قصص مجموعة من الجدّات واقع النساء في صنعاء القديمة
استمرت معاناتها معه عشر سنوات، تحمّلت فيها القسوة والإهمال دون أي دعم من عائلتها، فزاد إحساسها بالخذلان. لكنها تخلّصت من كل ذلك بعد وفاته، وبدأت حياتها من جديد.
عَمِلت الجدّة سيدة في الحرف اليدوية، وركّزت على التطريز وبيع المنتجات التقليدية للسياح. كانت السياحة في صنعاء القديمة حينها مزدهرةً، وظلّت كذلك حتى 2011. ساعدها ذلك على تربية أبنائها الثمانية ومنحهم حياةً كريمةً. عندما سألناها: لماذا لم تلجأ إلى القانون؟ أجابت: "في ذاك الوقت، ما كنت أعرف إن في قانون يحمي المرأة أصلاً، ما حد كان يعرف، وما كان في وعي".
اليوم، وبعد كل ما مرّت به، تقول بثقة وملامحها تملؤها القوة والرضا: "ما تنازلتش أبداً... كنت أدافع عن نفسي، وكان يهددني بالسلاح، بس ما خفت"، و"أولادي عوّضوني، معي ثمانية، ومعي خمسة عشر حفيداً".
لم تكن حكايات الجدّات عن ماضٍ مؤلم أو ذاكرة مجروحة، بل عن نفسٍ طويل وقامةٍ لم تنحنِ. نساءٌ قهرن الفقر، وواجهن التمييز الطبقي، وتحمّلن العنف الأسري وضيق العيش.
تكشف هذه الشهادات كيف أن حياة النساء في صنعاء القديمة لم تكن عادلةً دوماً، وأنهنّ برغم ذلك نهضن، وعشن، وروين حكاياتهنّ كناجيات لا ضحايا. أهمية الذاكرة لا تكمن في حنينها فحسب، بل في توثيق المقاومة اليومية وكشف جذور الواقع الاجتماعي للمرأة اليمنية، حيث لا تزال التحديات والظروف التي عاشتها الجدّات حاضرةً ومستمرّةً حتى اليوم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.