الرحلة

الرحلة "MS757"… هارلم-أمستردام ترانزيت طنطا

مدونة

السبت 6 سبتمبر 20256 دقائق للقراءة

وما راعه إلا اللون الأخضر يكسو كل شيء؛ أراضٍ زراعية تغطّي كل ما يراه من شبّاك الطائرة، ومحرّكات طاقة الرياح على أطراف المدن. حتى مدرج المطار الذي اعتاد أن يراه محاطاً برمال الصحراء، وجده مليئاً بالعشب والقنوات المائية. يبدو أنّ ما شاهده على "تيك توك" عن تلك البلاد ليس مبالغاً فيه. حطّت الرحلة "MS757" رحالها. مرحباً بك في بلد الخضرة والدراجات… مرحباً في أمستردام.

يعود بذاكرته إلى ما قبل هذا المشهد بأربع ساعات، حيث تقلع به الطائرة لأول مرة في حياته. ولأوّل مرة يرى القاهرة من الأعلى، المدينة التي قضى فيها من عمره سبع سنوات بدأت بالتحاقه بالكلية وما زالت مستمرةً إلى الآن، هو الشاب القادم من "الأقاليم"، الساذج الذي بهرته أضواء المدينة لكنها لم تنجح في استلاب عقله بالكامل. علاقته بالقاهرة تشبه علاقته بالكثير من تفاصيل حياته. "أحبّك أكرهك"؛ كما يقول عمرو دياب في أغنيته الشهيرة، فالنهار القاهري بصخبه وحرارة شمسه وترابه وزحامه تمحوه سهرة ليلية لطيفة في أحد المقاهي القاهرية. والاستنفار الكامل لدى كل أهاليها و"الجري" المحموم وراء لقمة العيش يورثانك توتراً لا تعرف له سبباً، و"بلوكات" العمائر المتراصة على طول الطريق الدائري تصيبه بالحسرة، لكنه لا يملك إلا أن يتعلّق بكل تلك التفاصيل.

مشاهد سينمائية

برغم ذلك، فإنّ حياته قبل أن تطأ قدماه أرض القاهرة لم تكن بذلك الصخب، فهو قادم من مدينة طنطا في دلتا النيل، حيث الحياة أهدأ وقعاً وأقل صخباً، لا تخلو من الزحام كباقي مصر، لكنه لا يقارن بزحام القاهرة. و"ممكن تلّفها في ساعة" على عكس العاصمة، التي لا تخلو من "بلوكات" العمائر لكن يكسرها لون أخضر لشجرة بين الحين والآخر. هدوء محبّب إلى النفس، لكنه قاتل له إذا عاش فيه فترةً طويلةً. يخيّل إليه أحياناً أنه تلوّث بصخب القاهرة، وأنّ المدينة التي لا تنام أورثته بعضاً من لوثتها وجنونها.

عندما رأى القاهرة من الأعلى لأول مرة، استحضر سنواته الجامعية فيها؛ مدينة أبهرته أضواؤها، دون أن تسلّب وعيه

بالعودة إلى الطائرة، فقد لامست الأرض معلنةً وصول الرحلة "MS757" إلى وجهتها، ومرّ صاحبنا بمكتب الجوازات وختم جواز سفره وأصبح رسمياً داخل الأراضي الهولندية. أثارت عجبه المسافة الكبيرة بين بوابة الخروج والحافلة التي ستقلّه إلى مقر إقامته، لكن لا مشكلة، أمامه عشرة أيام هي مدة الدورة التدريبية التي سيحضرها هنا، فليستمتع بهذا المنظر إلى الحد الأقصى، فلا يشغل باله بأيّ شيء آخر. الحافلة ستنقله من أمستردام إلى هارلم، المدينة الصغيرة في ضواحي العاصمة الهولندية حيث سيقضي الأيام العشرة لكن هذا لا يعني أنه سيفوّت زيارة العاصمة. سيحاول المرور بها مرةً أو مرتين ويختبر سحرها.

لم يمضِ الكثير حتى استولى الطريق على كل حواسّه. يتذكر "الميم" من فيلم "أفريكانو" لأحمد السقا، مخاطباً حسن حسني وأحمد عيد: "سبحان الله على المناظر الطبيعية. بص يا عصام، بص يا متر". العشب والقنوات على طول الطريق السريع ولا وجود لأصوات أبواق السيارات. مع الوصول إلى هارلم، أصبح الانبهار أكبر؛ النظافة والنظام هما السائدان. هنا مسار الدراجات مقدّس لا يمكن لك المرور منه، وعبور الطريق لا يتم إلا بالضغط على زرّ بإشارة مرور، لكنها خاصة بالراجلين لا بالسيارات. الطريق ممهد تماماً، فلا "مطبات" ولا كسور فيه. ولم يلجأ إلى تنظيف حذائه الأبيض طوال الأيام العشر. تضايقه رائحة مخدّر الحشيش التي تفوح من البيوت والطرقات، لكنه ماضٍ في تنفيذ عهده بألا يضايقه شيء.

لقاء مع العاصمة

"هنا الدرّاجات أكثر من المواطنين"، يقول له أحد الأصدقاء المقيمين في البلد منذ مدة: "وعموماً هارلم تمتاز بالهدوء، الصخب كله في أمستردام"، يضيف ويتابع: "ما أن تحلّ الساعة السادسة حتى تغلق المحال أبوابها، وتقلّ الحركة في الشوارع، وتنام المدينة"، على عكس أمستردام التي تظل ساهرةً حتى الثانية عشرة". "بالطبع هذا دون احتساب المنطقة الحمراء"، يقاطعه صاحبنا بسخرية.

تبدو الحياة هنا مثالية؛ رياضة صباحية، عمل من دون استنزاف أو ملاحقة بعد الدوام، وعودة هادئة للبيت، ليقفز السؤال: هل نعيش حقّاً في أوطاننا؟

باستثناء رائحة "الحشيش"، تبدو الأمور مثاليةً هنا. الناس يستيقظون مبكراً ليمارسوا الجري، أو يقومون بـ"تمشية" مع الكلب، ثم يعودون إلى منازلهم لتناول الفطور وارتداء ملابسهم والذهاب إلى أعمالهم، ثم يعودون من العمل في الخامسة. هنا لا أحد مجبراً على العمل لدوامين لتأمين احتياجاته، ولا يحق لمديره ملاحقته بعد انتهاء ساعات العمل. "إحنا مش عايشين"؛ يتوصل صاحبنا إلى تلك القناعة.

مرت أيام عدة حتى جاءت اللحظة المنتظرة؛ الذهاب إلى سحر العاصمة. ركب القطار ونزل إلى العاصمة، الزحام كثيف والأرض مليئة بالقمامة والناس لا تحترم قواعد المرور هنا. ما زالت الخضرة وقنوات الماء موجودةً في كل مكان، لكن العاصمة ليست بالجمال الذي كان يظنّه؛ الكثير من الشحاذين يطلبون منه المال، وشخص يحدّثه حديثاً غير مفهوم ليفاجأ بأنه يحاول مغافلته و"نشل" حقيبته!

هل كان السبب أنه زار المناطق السياحية، ولم يزُر مناطق معيشة السكان اليومية؟ وهل كان الانبهار بهارلم أكبر لأنها لم تكن مدينة سيّاح؟ لا يعلم صاحبنا على وجه التحديد، لكن الاختلاف بين هارلم وأمستردام يذكّره بالاختلاف بين مسقط رأسه في طنطا، وإقامته في القاهرة. لا فرقاً كبيراً بين هارلم وطنطا. يفكّر في أنّ "المثالية الأوروبية" في المعيشة ليست إلا نسبية. فما انبهر به في المدينة الصغيرة وجد نقيضه في العاصمة، لكن لا مشكلة. ما زالت أمامه أيام عدة قبل انقضاء مدة الدورة التدريبية التي سيحضرها هنا. فليستمتع بهذا المنظر إلى الحد الأقصى فلا يشغل باله بأي شيء آخر.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image