منذ أن تمّ ابتكار الكاميرا، بات التاريخ يخضع بشكل كبير للمحتوى الموثّق بصرياً، فالتصوير يصنع فارقاً في إسناد سردية ما، ومعه أصبحت الصورة تحسم المحاججة؛ بالنفي، أو الإثبات، أو تترك انطباعاً مكثفاً عن مشهد ما، لا تكفيه الكلمات.
الصورة لم تعد مجرد صورة، بل دلالات لا حدّ لها، وبإمكان لقطة واحدة وعابرة، أن تصبح وثيقةً شبه رسمية لمستوى الإنسانية في العالم، ومن شأنها كشف زيف المثالية المرسومة عن تطور الحياة، وإسقاطها إلى الأبد، ويصبح بعدها على الفرد المطالع أن يتخلى عن وهم عدالة العصر، والتأقلم مع أنظمة ما زالت بنفسية بدائية للغاية، أو حصول العكس؛ كأن تستفز صورة ما النظام العالمي برمته، بحيث تحفزه على العمل في سبيل الحدّ من الوحشية، ودفع الإنسانية نحو مستوى أعلى.
غزارة صور الموت
لكن هذا نادراً ما يحدث، وبين هذا وذاك، هناك ألف لقطة من شأنها بعث الشعور بالفزع، للمعنى العميق التي تعكسه، إلا أنها تمرّ دون أن تتلقّى أيّ ردة فعل، وكأنّ غزارة المشاهد المنتشرة بشكل شبه يومي -على الخريطة العربية مثلاً- تعمل على تراجع مستوى الاستجابة البشرية، فأصبحت الصور المتوالية، يرافقها القليل من الضجيج الإعلامي، قبل أن تتلاشى دون صناعة فارق ما.
فعلى سبيل المثال، كم شخصاً يتذكر أولئك الذين تمسكوا بالطائرة الأمريكية المغادرة لأفغانستان في أواخر عام 2021؟ والمعنى هنا ليس المكان، ولا الحدث، بل النموذج في عدسة جسّدت صورةً مكتملةً للموت؛ من الأسباب حتى النتيجة، في وحشية مشهد يتكرر، ولا يعيش الاهتمام به طويلاً، ليس لأنه أخذ مداه في التناول، بل لأنّ هناك صورةً حديثةً للنزيف، وضحايا يتدفقون، بلا توقف. ترتفع كثافة المشهد، في شرق أوسط يراق دمه منذ زمن.
من تعلّقوا بالطائرة الأمريكية وهي تغادر أفغانستان، قالوا إما حياة كاملة أو لا شيء، بينما رضينا نحن بالحياة في حدّها الأدنى.
في التاريخ الحديث، هناك لقطات تعبيرية لا حصر لها، جسّدت مراحل بحدّ ذاتها، وكلّ صورة استطاعت في داخل إطارها إيصال العديد من المعاني، بينما بعضها ذهب أبعد من ذلك، وكان اختصاراً لحقبة كاملة، وفي حياتنا بالتحديد؛ أي في الوطن العربي، وخلال الخمسة عشر عاماً الأخيرة، والتي طغت فيها الحروب، والصراعات الأهلية، انتشرت الكثير من الصور الصادمة التي من الصعب نسيانها.
مغادرة الطائرة الأخيرة
شخصياً، أجد تلك المناظر المرعبة التي نقلتها لنا العدسات من كابول في نهاية عام 2021، في أثناء تسلّق مواطنين أفغان الجدار الخارجي للطائرة الأمريكية المغادرة من أفغانستان، هي الأكثر صدمةً بالنسبة لي، وسيبقى تحليق أجسادهم في الفضاء راسخاً في ذاكرتي إلى الأبد.
فلا يمكن نسيان أجسادهم الصغيرة، والمتضائلة، وهي تتلقّى النهاية بتلك الطريقة، المثيرة للفضول، فالبعض يرى فيها البطولة، وآخرون يجدونها تستحق الشجب، بينما كانت في خيالي أكبر حتى من اختزالها في مفردة ما؛ أي مفردة كانت، فالريح كانت تتكفل بتقديمهم كوجبة منتصف النهار للموت الذي يجد بقاءه في نفاد أجسادنا.
لم يكن هناك أي إمكانية للخلاص من الموت، كان هناك ما هو أبعد من رحيل مجموعة أشخاص في منطقة ما، يعيشون حياةً معيّنةً، لقد كان إيحاءً كافياً بأنّ البشرية كلها تتلاشى، فتلك اللحظة عكست سوء الحياة برمتها؛ من وحشية الأنظمة، إلى المصير البائس للإنسانية، وانعدام قيمة البشر.
بينما رسوخها العميق في ذهني، قد يكون لأسباب عدة، من بينها أنّ اللقطة أُخذت، وانتشرت، ووصلت بطريقة خالية من قصدية التعاطف، أو الاستثارة والتهييج.
كانت تلك اللقطات، والأجساد تتسلق الطائرة من الخارج دون تفكير في ما قد يحدث في الدقيقة التالية، تمنح تجلّياً واضحاً عن أحلام تتوق إلى النجاة، دون أن تتلقّى اليد المنقذة، وبالرغم من جنون ما أقدموا عليه، لأنّ فرص البقاء فيه صفرية، إلا أنه بالإمكان الشعور بهم، فبمجرد تقمّص شخصياتهم لثوانٍ، يمكن الخروج بخلاصة مفادها أنّ ما قاموا به كان خلفه حب عميق للحياة، أكثر من كونه كراهيةً لها.
فأولئك لم يذهبوا نحو الموت، بل حاولوا الهروب منه، ولا أحد أكثر منهم يدرك ماذا ينتظرهم على الأرض، ولا أحد أكثر منّا كعرب، يدرك الجحيم الذي تجلبه الجماعات الدينية. أيضاً: لم يتخلّوا عن العيش بقناعة كما يتم النظر إليهم، بل بحثوا عنه، ولو بطريقة خطأ، أنهت وجودهم في أثناء المحاولة.
لتستمرّ أعمارنا المستسلمة للعدم، بينما تبقى تلك اللقطات، كإدانة في حق وجودنا، نحن جميعاً؛ من نعيش في ظل المليشيات المتشددة، والأنظمة القمعية، ونقبل الحياة بمستواها الأدنى، بينما هم صرخوا بوضوح؛ إما حياة كاملة، أو اللاشيء، وإن كان لا بدّ من نهاية، فلتكن على أيدينا نحن، لا على أيادي أعدائنا؛ فالمصير على يد الريح أقل سوءاً من أن تحدّده لحية ما، وفي مشهد كهذا، يفترض توجيه النقد إلى من دفعوهم نحو ذلك الفعل، لا لوم إنسان أراد النجاة ولم يحصل عليها.
ذلك التحليق في الفضاء، حيث التقاء الموت وانتقاؤه، يُعدّ أكثر صورة تجسد سوء الجماعات الدينية، وبالتحديد الإسلامية، فالتقارير مهما كانت حدّتها، وكل طريقة بإمكانها شرح السلوك السيئ لتلك الميليشيات، لا يمكنها عكس صورتهم بالشكل الذي يجب.
تفضيل الانتحار على الميليشيات
ومن بين كل وسائل الاحتجاج ضد التعصب الديني الذي عصف بحياتنا، كان ذلك الخيار هو أنسب تعبير عن الرعب الذي زرعته الميليشيات في مشاعر المجتمعات، فالاعتراض بالكلمات، والأفكار، والتوجهات، أو حتى استخدام الأيادي، والأسلحة، لا يمكنه مواجهة عقائد تجد وجودها في اقتلاع الآخر، ولديها قناعة عميقة بأنّ القتل وسيلة مناسبة للتقرب من الإله، بالرغم من أنّ ذلك الموت قد يكون هروباً، بينما الإرهاب الذي يدفعك نحو الهاوية، تجب مواجهته بشكل مختلف.
كم شخصاً يتذكر أولئك الذين تمسكوا بالطائرة الأمريكية المغادرة لأفغانستان في أواخر عام 2021؟ والمعنى هنا ليس المكان، ولا الحدث، بل النموذج في عدسة جسّدت صورةً مكتملةً للموت؛ من الأسباب حتى النتيجة
لكن، في بعض الأحيان، الفجاجة هي جزء من المواجهة، والقيام بشيء متوحش، لإظهار الوحشية، وتكثيفها، طريقة مناسبة لمناهضة الوحشية، فالمصير محسوم سلفاً، والنهاية حتمية، ولم يكونوا يملكون سوى تحديد نوعها، فالميليشيات حين تحضر، تنسحب الحياة، ولا تبقي لنا سوى المفاضلة بين طرق النهاية، وهم اختاروا؛ النجاة من الموت بالموت.
لقد مرّت أربعة أعوام على أكثر مشهد يعكس انفصام الحياة بشكل عام، بين مناطق وأخرى، فبينما يتم تعزيز الديمقراطية، والاحتكام إلى القوانين، وسيادة المؤسسات في دول بعينها، يتم تسليم دول أخرى إلى الميليشيات الإرهابية، وترسيخ نظام الفوضى، والحياة البدائية، أو التغاضي عن قتل فئة ما لأنها ليست منهم.
بالإضافة إلى التفاوت في الأهداف، بين جعل بعض المجتمعات تذهب كل يوم نحو مستوى أعلى من الرفاه، وإعادة أخرى نحو الحضيض، إلى درجة اعتبار الانتحار حلاً أفضل من البقاء.
أيضاً، لم تكن اللقطة تلك مختزلةً بين الأفغان والأمريكيين، فأولئك الشباب الذين مضوا نحو ذلك الخيار القاسي يمثلون الكثير من الشباب في المنطقة العربية، وبعضاً من دول إفريقيا، ممن لا يختلف وضعهم كثيراً عن وضعهم، فالميليشيات التي تحكم هناك متواجدة في كل مكان، والقوى التي تدعم سلوك إخضاع المجتمعات واحدة.
في تلك الصورة، تجسدت "بجاحة" العالم، وهو يتخلى عن قيمه دون أن يرفّ له جفن، فالأمريكيون، الذين لم يترددوا لحظة في التعظيم من فكرة الديمقراطية، وتقريباً لا يوجد مسؤول أمريكي رفيع في العشرين عاماً الأخيرة لم يسبق أن خرج بتصريح فيه الكثير من الابتزاز، عن التزام أمريكا بحماية الديمقراطية ومواجهة الإرهاب في كل العالم، إلا أنه، وفي لحظة صادمة لشدّة فجاجتها، توارى ذلك الخطاب في الدوحة، في أثناء توقيع اتفاق صريح مع طالبان في 29 شباط/ فبراير 2020، وكأنّ طالبان، النموذج الأكثر تشدداً وإرهاباً، لم تعد فجأةً، في نظر الأمريكيين، منظمةً إرهابيةً، ولا تناقض فكرة الديمقراطية، فقط لأنّ هناك إدراكاً أمريكياً متأخراً بأنّ موازنة الحرب قد فاقت التوقعات، وكأنّ القيم ادّعاء لا صحة لها؛ فالأموال أكثر أهميةً من الإنسان، وحياته، وحريته.
من خلال ولادتك في جغرافيا معيّنة، ستتحدد نوع حياتك؛ إما بالحصول على الحماية المطلقة، أو مكابدة نمو شجرة العناء في داخلك إلى الأبد.
لم نعد في هذا العالم بحاجة إلى تعزيز تفاوت قيمة الإنسان بحسب الجنسية، فكل ما حولنا يؤكد ذلك، ويعكس أنه، ومن خلال ولادتك في جغرافيا معيّنة، ستتحدد نوع حياتك؛ إما بالحصول على الحماية المطلقة، أو مكابدة نمو شجرة العناء في داخلك إلى الأبد.
لكن ذلك المشهد في أفغانستان أزال توافر خيار البقاء ضمن الحياة الشاقّة، ودفع الفرد الأفغاني إلى اختيار طريقته في الموت فقط، ليصبح من حق الأمريكي اختيار طريقة حياته، ومن حق الآخرين اختيار طريقة موتهم، بالإضافة إلى أنّ جزءاً كبيراً من ذلك التدافع نحو حتفهم، كانت خلفه أمريكا التي خدعت الأفغانيين بموعد استلام طالبان للدولة، ليتفاجأ الجميع بوصولهم إلى العاصمة قبل التاريخ المحدد، وبهذا تكون للولايات المتحدة يد، مباشرةً وغير مباشرةً، في ما جرى.
فقد تركت في العراء حتى حلفاءها من المعارضين لطالبان، تركتهم برفقة الشعب الأفغاني تحت رحمة عصابة متطرفة، بلا أيّ اعتبارات، فقط لأنهم لا يحملون الجنسية الأمريكية، والتي لو حصل أن مات أمريكي بتلك الطريقة، لاشتعلت حرب عالمية ثالثة في العالم.
بالإضافة إلى أنّ إمبراطورية العصر، والبلد الأعظم في المجرّة، لا ترى في ثلثي مليون كيلومتر مربع، واثنين وأربعين مليون نسمة، أي قيمة، فقط ساحة لصراعاتها، ووقوداً لها، من أجل إسقاط الاتحاد السوفياتي، أو كردة فعل على قصف أبراجها، وهي ردّة فعل انتهت بتعميق وجود تلك الجماعات المتطرفة، وتسليمها المجتمع بالكامل، المجتمع الذي رفض بعض أفراده البقاء الذليل، من أجل الحرية لبضع ثوانٍ على الغلاف الخارجي للطائرة الأمريكية المغادرة.
نهاية ماذا؟
منذ قرابة ألف وخمسمئة يوم، وأنا أفكّر بشكل جادّ: هل أبالغ في العاطفة تجاه ما حدث آنذاك، أو أنّ الوقائع ذاتها تعطي مشاعر حادّةً، إلى درجة أنه من الصعب استيعابها، لكنني أخلص إلى نتيجة ذاتية واحدة؛ ذلك الموت، هو أقسى طريقة ممكنة للنهاية التي عُرضت علينا منذ أن وُجدت العدسات، فكلّ الصور المعروضة لمن لقوا حتفهم، كانت متشابهةً إلى حدّ الاعتياد عليها، سواء الموت تحت القصف، أو الغرق، أو الحرائق، أو المجاعة، وغيرها، بمن فيهم من ينتحر.
كل أولئك الذين انتهت حياتهم، ولو كانت وحشيةً، لكنها مكررة، حتى لو تقارب بعض السياقات، كالموت في أثناء محاولة النجاة منه، لكن ذلك تمّ سابقاً، عبر وسائل؛ كانت نسبة النجاح فيها عالية.
لم تكن اللقطة تلك مختزلةً بين الأفغان والأمريكيين، فأولئك الشباب يمثلون الكثير من الشباب في المنطقة العربية، وبعضاً من دول إفريقيا، ممن لا يختلف وضعهم كثيراً، فالميليشيات التي تحكم هناك متواجدة في كل مكان
بينما أولئك الذين سقطوا من على غلاف الطائرة الخارجي، يشيح عن التمسك بالقشة المنعدمة، وخلف تلك الخطوة -من الدافع إلى الخلاصة- اجتمعت كل الأبعاد في مشهد واحد، لتمنح المتابع صورةً مرعبةً، عن إنسان وحيد في العراء، تُرك من عالم خارجي متواطئ، وأطراف داخلية مجرمة، وهما يعملان على الدفع نحو تقويض أسس الحياة.
لم تنتهِ حياة بضعة أشخاص بما حدث ذلك اليوم، بل انتهت تطلعات الملايين الذين يجدون في العالم المعاصر وسيلةً لحمايتهم، فالنهاية بتلك الطريقة، كانت تعكس وجهَين؛ الأول: الجسارة في سلك سبيل النهاية دون تردد، أو الحيرة، والثاني: "بجاحة" من دفعهم نحو الفناء؛ القاتل الذي ملّ من مداهمة الأفراد في الطرقات، أو بعثرتهم في الأماكن، أو طمرهم تحت الأنقاض، أراد هذه المرة استبدال مسرح الجريمة، ليشرب نخبه على مشاهدة احتضار الأجساد في الأعلى، أو بكوميديا سوداء؛ تملكته رغبة في التخفيف عن الخريطة التي تضجّ بضحاياه.
ذلك المشهد كان يرسم الإجرام الذي نتجاهل رؤيته، وجعله يظهر إلى الحد الذي لا نستطيع مشاهدة شيء غيره، وكأنّه يقول؛ ما لا ترغبوا فيه، بات يملأ الأرجاء. لقد كان تحليق تلك الأجساد النحيلة في الفضاء، نداءً لما لا يردّ، كأنّ الصوت الأخير قد أنقسم إلى نصفين؛ نصف وصل إلى الجناة، والنصف الآخر إلى هالكين بطرق مختلفة، فلا أحد منهم سينقذه، وعليه أن يحصل على مصرعه بصمت؛ بعيداً عن ادعاء الأصدقاء، أو ترصّد الأعداء.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.