لبنان أجمل كذبة أم أسوأ حقيقة؟… تساؤلات

لبنان أجمل كذبة أم أسوأ حقيقة؟… تساؤلات "هند أو أجمل امرأة في العالم"

ثقافة نحن والتنوّع

الاثنين 1 سبتمبر 20258 دقائق للقراءة

عندما قرأتُ عنوان رواية هدى بركات الأخيرة "هند أو أجمل امرأة في العالم" الصادرة عن دار الآداب، عام 2024، والحائزة على جائزة الشيخ زايد لعام 2025، حدستُ بأنّ هذا العنوان كأي خبرٍ من طبيعته أن يحتمل التصديق والتكذيب! أمّا هنادي، فلم تكن تملك هذا الخيار، فلقد كان عليها أن تصدّق أخبار أمّها عن أختها الكبرى (هند) ذات الجمال الخارق، ما دامت هي على النقيض منها غير جميلة أبداً. فما أصعب ألّا تملك حرّية التكذيب أو التصديق!

تضعنا بركات مبكراً في روايتها في خضم حلبة مفهوم الثنائيات لغاية في نفس يعقوب؛ بين الجمال والقباحة، والتاريخ والذاكرة، والمتن والهامش، والصدق والكذب، والجدلية غير المتكافئة لصالح إحدى هذه الثنائيات، وذلك من خلال شخصية هنادي التي تخبرنا عن سيرتها الذاتية وضمناً عائلتها/ وطنها، بعد عودتها من فرنسا، التي هربت إليها من فجيعة أو اضطهاد أمٍّ لم تكن قادرة على احتضانها بعد إصابتها بمرض الأكروميغاليا (اضطراب هرمون النموّ في الغدة النخامية الذي يسبّب تضخم الأطراف وملامح الوجه). وكأنّ الأمّ هي الأخرى قد أصيبت بنقص كبير في هرمون الأوكسيتوسين (هرمون الحبّ الذي له الدور الأكبر في عاطفة الأم نحو وليدها) فلفظت ابنتها.

تتساءل هنادي، لِمَ لا يتم حقن الأمهات بهذا الهرمون؟ فهو متوفّر في الصيدليات، حتى يتم تفادي اللحظة التي تتحوّل فيها الأم من الأم الحانية إلى الأم الجافية، وتحبس ابنتها في عليّة البيت هرباً من الفرانكشتاين الذي آلت إليه! ولا يختلف الوطن برأي هنادي عن ذلك، فهو مثل الأم يحتاج إلى حقنة أوكسيتوسين هو الآخر، حتى تتحابب طوائفه، ولا يطرد مواطنيه خارجاً عبر اللجوء والهجرة!

لبنان مثل الأم يحتاج إلى حقنة أوكسيتوسين هو الآخر، حتى تتحابب طوائفه ولا يطرد مواطنيه خارجاً… هكذا ترويه "هند أو أجمل امرأة في العالم"

كانت أمّ هنادي مثل كتَبة التاريخ تملأ سمع تلك الصغيرة عن جمال أختها هند أو عنها! والكتبة يملؤون سمع المواطنين، بأنّ لبنان قطعة من جنّة الله على الأرض! لقد صنعت الأم حلمَ يقظة تهرب إليه، كلّما أمعن المرض تفشياً في جسد طفلتها هنادي. كانت هنادي محاكاة لطفلة مثالية تُدعى هند، حاولت الأم بشتى الوسائل الإيمانية والطبية أن تطابق بين المثال والواقع. وعندما فشلت، كان الحلّ بالنسبة لها، أن تقصي الواقع إلى العليّة، وأن تهرب إلى أضغاث أحلامها المثالية. تعلّمت هنادي، مع الوقت، من هروب أمّها من الواقع، كيف تهرب هي الأخرى من عليّة أمّها وصولاً إلى فرنسا، لكن على أحدٍ ما أن يتم الحكاية!

ضمير المتكلم

لا يمكن أن تكون رواية هدى بركات، بأيّ صيغة أخرى نعرفها للسرد في الروايات، إلّا بضمير المتكلّم، ليس لأنّه المعبّر الأصدق عن الشخصية التي تسردها الرواية، بل لأنّه الأقدر على تمثّل الذاكرة؛ فالذاكرة بالنسبة لهنادي هي المفتاح والقفل. عادت هنادي من باريس بعد أن استنزفت هروبها حتى القطرة الأخيرة، فقد هجرت رشيداً، ذا الذراع المقطوعة، ذلك الجزائري الذي اتخذ من اسم فرانسوا لقباً له هرباً من ماضٍ يشبه الأكروميغاليا، فقد تضخّمت ذاته الفرنسية إبّان الاحتلال الفرنسي على حساب هويته الوطنية، فلجأ إلى فرنسا كي لا يتّهم بالخيانة، لذلك عندما رأى هنادي تقف في طابور المشرّدين تبناها/أحبّها، لأنّه رأى فيها عطباً يتآلف مع عطبه، لكنّه في النهاية وقع فريسة للمخدرات.

تجلس هنادي تحت ظل شجرة صفصاف باكٍ على حافة مجرى نهر يابس، أو سيل عقيم، أو مجرور! وهي مثل هذه الصفصافة التي يبس قسمها الأكبر، لكنّها ما زالت تحتفي بغصن أخضر تستجلب له الماء، لربما من رطوبة البحر في بيروت أو دمع الجالسة تحتها. تجلس هنادي مثل بوذا تحت شجرتها وتنير ماضياً تخلطه بالحاضر لتشكّل عصيراً من ذكريات مؤلمة وفرحة عاشتها، ومحاولات فاشلة وناجحة لرسم بورتريه لأمّها وأبيها، على الأقل بطريقتها، لا كما سردت أمّها.

أرادت هنادي إعادة كتابة ذاتها وضمناً عائلتها/وطنها بقصد أو غير قصد، فتارة تعود إلى طفولتها، طفولة هند ،وتسرد عن ذكريات اهتمام أمّها بها، وكيف كانت قادرة على أن تخرج من جلباب مجتمعها الطائفي الذي يعبد المسيح، وينسى في الوقت نفسه، بأنّ المسيح فلسطيني، فلماذا يُكره الفلسطيني في لبنان؟

هذا التناقض في شخصية الأمّ بأن تقبل الفلسطيني وتنكر ابنة بطنها، لم تكن هنادي قادرة على فهمه. لقد نجت هنادي، في قبولها للآخر، من تحيزات أمّها الغريبة، بدءاً بأختها الخيالية، مرورا بأكروميغاليتها، فلن تضن بعد ذلك، بحبّ إلى آخر جمعها به هذا الوطن، أو الحي الذي عاشت به. لقد صادقت هنادي نبيل ذلك الشيعي الفقير الذي يعمل مع ميكانيكي سيارات في حيّها، رافضة الاتهامات بحقّه، بعدما جاءها صاحب المحل ليريها صورة، تخبر بأنّه قتل أو استشهد في بلد جار للبنان، أو أن تجد في أحمد الباكستاني ذلك المهاجر نحو الجنّة الأوروبية، لكنّه استقر في لبنان، صديقاً آخر يفتح لها منافذ الكون عبر الإنترنت لتلتقي بأمّ منصور في العالم الافتراضي في وطنها الجديد ألمانيا، تلك النازحة من سورية أو فلسطين جارتها في البناية التي سكنتها بعد عودتها. تلك الجارة التي لم تهلع من قباحة هنادي وساعدتها حتى تتعافى من إصابتها بعد الانفجار الكبير الذي ضرب مرفأ بيروت. وأن تبحث مع أحمد عن أبيها؛ ذلك الشاب الذي هرب إلى فلسطين/إسرائيل مع جيش لحد وحاول الرجوع في ما بعد.


هند تبدو جميلة كالكذبة؛ قد تكون من اختراع الأم لمواجهة قباحة الواقع، أو طفلة حقيقية فقدتها، فتحوّلت إلى رمز يختلط فيه الوهم بالحقيقة

لكن الأمور لم تتيسّر سياسياً، فتزوج هناك وأنجب أخاً لها هاجر إلى أمريكا، وعندما اتصلت هنادي بأخيها من أبيها، حضر الأمن على إثر ذلك، ليقبض عليها ويحقّق معها بسبب التواصل مع العدو. لقد انتهت أمّ هنادي مصابة بمرض ألزهايمر، لربما بسبب فصامها المستمر بين الواقع والخيال، فماتت لا تدري شيئاً عن صراعاتها التي خاضتها في حياتها لتجعل الواقع كالمثال. أمّا هنادي، فقد كانت أكثر ديمقراطية، إنْ صحّ التعبير، ممّن هم حولها، فقد تصالحت مع الأكروميغاليا بأسهل الطرق، وذلك بأن تستبدل حذاءً رجالياً يمنحها الراحة في المشي بحذائها النسائي الضاغط على قدمها.

إنّها تشبه قطتها زكية العوراء والمقطوعة اليد التي التجأت إليها من عنف شارع القطط أو البشر وعاشتا سوية. وفي مشهد أخير تسدل هدى بركات به الستار على بطلتها تكون هنادي وزكية فيه على حافة مجرى النهر: "هذه السنة كانت ثلوج المرتفعات أكثر كرماً من سابقاتها. فهناك جدول رقيق، فتيلة من الماء تتلوى في المجرى العريض وقد تصل إلى البحر. لكن الصفصاقة لم تعد هنا." لقد كانت هنادي سيدة القفل والمفتاح، لأنّهما يمثلان باب الحياة والموت، فعبرها تآلفت الثنائيات، فالجميل ابن للقبيح، والهامش أب للمتن، والتاريخ أخ للذاكرة، والصدق توأم سيامي مع الكذب. وكبوذا أنهت هنادي تعالقها مع هذا الوجود أو تعلّقها وأصبحت حرّة كقطط الأزقّة.

يقول عالم الإعاقة ليونارد كريجل بأنّ الإعاقة استعارة سلبية، في الأعم الأغلب من سرديات البشر عنها، من الأسطورة انتهاءً بالأدب. وعندما غصت في هذه الرواية أكثر فأكثر تداعت إلى ذهني رواية "فرانكشتاين" لماري شيللي، وكيف أصبح ذلك المخلوق رمزاً للقرن التاسع عشر بماديته العقلية الباردة الكئيبة الوحشية. فهل أنا أمام استعارة سلبية للإعاقة في رواية بركات؟ والسبب في هذا الشعور هو تنامي التشابه بين لبنان بثنائيته: الجميل والقبيح، فلبنان جميل في الخيال، قبيح في الواقع، يتقاطع مع هند/الجميلة وهنادي/القبيحة في الرواية، بحيث يصبح من السهولة إسقاط تاريخ لبنان وحاضره على شخصية هند/هنادي.

هند جميلة كالكذبة، ولن نستطيع أن نحسم، طوال صفحات الرواية، صدقَ هذه الكذبة من عدمها، فهل اخترعتها أمّ هنادي عندما بدأ حلمها يتحوّل إلى كابوس على إثر إصابة طفلتها هنادي بمرض الأكروميغاليا كنوع من التأقلم، فأبدعت عالم المثال لتجابهَ به بشاعة الواقع، عالم المحاكاة وفق الفلسفة الأفلاطونية، أم أنّه حقيقة كان لها طفلة تُسمى هند إن شربت الماء بان من حلقومها، وعندما فقدتها، لعبت صولد كامل على طاولة الأمنيات، بأن يهبها الله ابنة أخرى لها كعب يشبه حلوى "راحة الحلقوم" كما قال الطبيب، الذي فضّل كي لا يخدش ذلك الجمال لتلك الطفلة الجميلة أن يزرق الأطعوم الذي سيحميها من مرض الجدري في كعبها، فلا يبقى من أثره إلّا شامة أو بالأحرى طالع كطالع أخيل في الإلياذة الهوميرية؟

ليست الإجابة من السهولة بمكان عن سوء استخدام استعارة الإعاقة، أو حسن استخدامها في رواية هدى بركات، فهذا يعود إلى القارئ، ففي رواية ماري شيللي تذكر في إحدى فقراتها بأنّ فرانكشتاين لم يقتل فلاحاً أعمى التقاه في بحثه عن خالقه لكي يقتله. والسبب في ذلك بأنّ الفلاح الأعمى لم ير قبح فرانكشتاين فعامله كإنسان، فأحبّه فرانكشتاين، لكن عندما دعاه الفلاح إلى بيته هلعت عائلة الأعمى خوفاً من الوحش، فقتلهم فرانكشتاين أجمعين.

هذه الفقرة الصغيرة نادراً ما اقتبست عندما يتم الاستشهاد برواية ماري شيللي، فدومًا كانت الاستعارة تتعلّق بوحشية فرانكشتاين. وعلى نفس المنوال وقعت أنا في ذات المطب، وأسقطت شخصية هند/هنادي على لبنان، وسيقع غيري من القرّاء أيضًا في المطب نفسه، لكن مع تدافع صفحات الرواية تباعًا تحت ناظري كأحجار الدومينو بدأت جماليات قباحة هنادي تتبدّى، أجمل من هند في عالم المثل وإذا كان من المفروض أن أقيم مشابهة بين لبنان وهند/هنادي في الرواية والواقع، فسأختار هنادي، هنادي الجميلة جداً حتى القداسة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

نرفض أن نكون نسخاً مكررةً ومتشابهة. مجتمعاتنا فسيفسائية وتحتضن جماعات كثيرةً متنوّعةً إثنياً ولغوياً ودينياً، ناهيك عن التنوّعات الكثيرة داخل كل واحدة من هذه الجماعات، ولذلك لا سبيل إلى الاستقرار من دون الانطلاق من احترام كل الثقافات والخصوصيات وتقبّل الآخر كما هو! لا تكونوا مجرد زوّار عاديين، وانزلوا عن الرصيف معنا، بل قودوا مسيرتنا/ رحلتنا في إحداث الفرق. اكتبوا قصصكم، فكل تجربة جديرة بأن تُروى. أخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا.

Website by WhiteBeard
Popup Image