القناديل تغزو شاطئ نويبع والبيانات غائبة… أين اختفت السلاحف؟

القناديل تغزو شاطئ نويبع والبيانات غائبة… أين اختفت السلاحف؟

بيئة ومناخ نحن والبيئة

السبت 23 أغسطس 20259 دقائق للقراءة

في أحد الصباحات الهادئة في مدينة نويبع، كانت الرمال تلمع على غير العادة، والبحر يبدو ساكناً. لكن على سطحه، وعلى امتداد الشاطئ، كانت هناك حركة غريبة: مئات من قناديل البحر الصغيرة ظهرت طافية بإعياء، تتلوى مع الموج بلا مقاومة، بينما تجمّعت أخرى على الرمال بلا حراك.

وبحسب السكان المحليين، يُعدّ هذا المشهد معتاداً في هذا الموسم من العام. في المقابل، يوضح أحد الصيادين المحليين في حديثه إلى رصيف22، إلى أنّ "ما يحدث مرتبط بموسم القناديل المعروف في المنطقة وفي البحر الأحمر عموماً، مضيفاً أنّ "وجود السلاحف البحرية سابقاً كان يمنع وصول القناديل إلى الشاطئ"، في إشارة إلى الدور البيئي المهم الذي تلعبه السلاحف في الحفاظ على التوازن البحري وأثر قلة أعدادها حالياً.

أين اختفت سلاحف البحر الأحمر؟

تلتهم السلاحف البحرية القناديل كوجبة مفضّلة، فهي غذاؤها الأساسي. سلحفاة واحدة يمكنها أن تأكل أكثر من 100 قنديل في اليوم، وغيابها يعني أنّ القناديل طليقة تزدهر، ومع ارتفاع درجة حرارة البحر، تتهيأ بيئتها أكثر فتتكاثر، ويزدحم البحر بالآلاف منها؛ فلا يعترضها أي كائن خوفاً منها، وتستمر في التزايد.

للأسف، لا تتوافر دراسات دورية أو بيانات رسمية توثّق أنماط ظهور قناديل البحر أو طبيعة وجودها أو أسباب كثافتها في سواحل البحر الأحمر، ما يجعل التفسيرات المتعلقة بظهورها محلّ تباين. 

غياب السلحفاة ليس تفصيلاً بيئياً عادياً، بل خلل في معادلة حياة كاملة؛ سلحفاة واحدة يمكنها ابتلاع مئة قنديل يومياً، والسلحفاة المسماة "جلديّة الظهر" لوحدها قادرة على ابتلاع نحو 90 كغ من القناديل، لذا فغيابها يعني انفجار أعداد القناديل بلا رادع، وسط بحر يفقد توازنه الطبيعي أمام أعيننا، بدون تفسيرات واضحة

في الوقت نفسه، يُلاحظ أنّ المعلومات المتداولة بين السكان المحليين أو غير المتخصصين تختلف بشكل كبير، بينما يتحفظ المختصون على تقديم تفسيرات حاسمة بسبب نقص البيانات العلمية. 

وبشكل عام، تختلف الآراء ما بين أنّ هذا العدد الضخم يُعدّ طبيعياً بسبب موسم التزاوج، وبين أنّ هذه الكمية ليست عادية. ووسط هذا الجدل، تبدو السلحفاة البحرية كأنها الشاهد الغائب.

قناديل البحر الأحمر... المسالمة

يُعدّ نوع القناديل الموجودة في البحر الأحمر غير مؤذٍ، بخلاف الصورة الشائعة عنها في مناطق بحرية أخرى. فلا تتسبب في لسعات أو حروق مثل التي تسببها الأنواع الموجودة في البحر المتوسط. 

قناديل البحر الأحمر هي من نوع القنديل القمري "moon jellyfish"، الذي يشبه الصحن، وشكله هلامي وشفاف ولديه أربع غدد تناسلية بنفسجية اللون على شكل حدوة حصان، ويبلغ قطره عادة بين 25 إلى 40 سم. ويزدهر هذا القنديل في ظروف درجات الحرارة والملوحة المرتفعة، كما يشتهر بتكوين مجموعات كبيرة حتى في البيئات منخفضة الأكسجين، وتُعدّ السلحفاة العدو الأول له، حيث تتغذى عليه بشراهة.

لا بيانات رسمية ولا رصد حكومي منتظم للظاهرة، بينما يعتمد الغواصون على صور هواتفهم لتوثيق الكائنات، في محاولة لتعويض غياب المؤسسات، ما يجعل أي تفسير مجرد تخمين، ويترك البحر رهينة الإهمال.

يبدأ القنديل القمري بالظهور مع بداية الربيع، ويتكاثر وتزداد أعداده في فترة الصيف. ويُعدّ من الكائنات الأساسية التي تحافظ على توازن النظام البيئي للبحر الأحمر، إذ يساعد في التحكم في أعداد العوالق، التي يتغذى عليها بدوره، ويُعدّ مؤشراً بيولوجياً حساساً للتغيرات البيئية، ما يجعله بمثابة مرآة لحالة البحر. 

ويُعزى انتشار القنديل بهذه الأعداد إلى تراجع أعداد السلاحف المصرية نتيجة الصيد الجائر، والتلوث البلاستيكي، حيث تخلط السلحفاة بين القنديل الشفاف والأكياس البلاستيكية، ما يخلّ بالتوازن البيئي الطبيعي للمياه.

من أعماق البحر إلى رمال الشاطئ

يشهد البحر سنوياً ما يُسمّى بـ"غسيل البحر"، حيث تحدث تيارات شديدة جداً في القاع تؤدي إلى تنظيفه وتنظيف الشعاب المرجانية من أي رواسب أو غبار أو عوالق، ويكون ذلك في الفترة ما بين أواخر شباط/ فبراير إلى أواخر نيسان/ أبريل وصولاً إلى بداية أيار/ مايو، وحينها تبدأ القناديل بالظهور.

يقول عبد العزيز سعد، وهو منظّم رحلات صيد في البحر الأحمر ويعمل في هذا المجال منذ 17 عاماً، لرصيف22، عن الدورة البيئية الطبيعية المتوازنة في هذا الوقت من العام: "خلال موسم التيارات القوية، تتعكر المياه في قاع البحر، ما يجذب القناديل التي تتغذى على العوالق الدقيقة، ويساعد على تنقية المياه. ومع وفرة الغذاء ينمو حجم القناديل وتصل إلى مرحلة النضج استعداداً لموسم التزاوج في فصل الصيف".

ويضيف: "في ظل التوازن الطبيعي، تتكاثر القناديل، ثم تأتي السلاحف لتتغذّى على الأعداد الزائدة منها، فتُبقي أعدادها تحت السيطرة. غير أنّ هذا التوازن بدأ يختلّ، نتيجة التغيرات المناخية وتراجع أعداد السلاحف البحرية، ما أدى إلى ازدياد ملحوظ في أعداد القناديل التي باتت تصل إلى الشاطئ وتموت، بعد أن تفقد سوائلها وتتحول إلى كائنات شفافة يابسة تشبه الورق الجاف، ثم تختفي سريعاً. وهذا ما يفسّر تكدّسها مؤخراً بأعداد كبيرة على الرمال".

السلحفاة… الحارس الغائب

السلاحف البحرية في البحر الأحمر تقوم بدور لا يُقدّر بثمن ومن دونها لا يمكننا حتى فهم ما يجري في البيئة البحرية، والغريب أنّ غياب بيانات دقيقة حول أعداد القناديل نفسها يجعل ربط الظاهرتين (قلة السلاحف وزيادة القناديل)، أقرب إلى الفرضية، لأنه في غياب الأرقام الرسمية تصبح الفرضيات ما نملكه.

القنديل القمري في البحر الأحمر قد يبدو مسالماً بلا لسعات، لكنه مؤشر بيولوجي شديد الحساسية لأي اضطراب في حرارة البحر وملوحته؛ ازدهاره بكثافة غير طبيعية جرس إنذار بأن النظام البيئي يختل تدريجياً، حتى لو بدا المشهد مجرد "موسم طبيعي" للسائحين

هناك بعض المحاولات غير الرسمية في مراقبة ورصد السلاحف في البحر الأحمر، مثل مشروع "تيرتيل ووتش ايجيبت" (Turtle Watch - Egypt 2.0)، الذي يقام بالتعاون مع جمعية "هيبيكا" لحماية البحر الأحمر في مصر، ويهدف إلى تكوين قاعدة بيانات بالصور الفوتوغرافية عن السلاحف الموجودة.

يقول عبد الله ربيع، رئيس مجلس أمناء مؤسسة "تيرتيل ووتش إيجيبت" والمستشار الفني للمشروع، إنه وزوجته يعملان في مرسى علم، وحرصاً منهما على حماية البحر الأحمر قررا العمل بالمشروع منذ عام 2015، وبدآه بتمويل ومجهود شخصي، حتى الآن. 

ما يميز المشروع أنه يقوم بحصر ورصد السلاحف في بيئتها الطبيعية، على عكس ما يحدث في معظم المشاريع الأخرى حول العالم من رصد للسلاحف التي تخرج لوضع بيضها، فتكون البيانات خاصةً بالإناث أكثر. 

أما عما وصلوا إليه حتى الآن من رصد، فيؤكد عبد الله أنهم يتعاونون مع أكثر من 90 مركز غوص في البحر الأحمر، لتصوير السلاحف التي تمر عندهم، فتمّ تسجيل ما يقرب من 800 سلحفاة بحرية من جميع جوانبها، وأكثر من 400 سلحفاة من جانب واحد فقط.  

بيانات بلا تحليل

المجهود الذي يقوم به عبد الله وزوجته ومتطوعون آخرون من طلاب الجامعات المصرية وأطباء بيطريون من إيطاليا والمكسيك، يحتاج إلى كثير من الدعم، سواء في توفير ما يحتاجون إليه لمعالجة السلاحف المصابة، أو تحليل البيانات التي يتم جمعها، لمتابعة أعدادها ومراقبتها ومعرفة مدى المخاطر التي تواجهها، خاصةً أنّ عملية الرصد في المشروع تُجرى على طول البحر الأحمر كله، من طابا وحتى جيبوتي. 

بين شباط وأيار، يحدث "غسيل البحر"؛ تيارات قوية تنظف القاع وتحرّك العوالق الدقيقة، فتنفجر أعداد القناديل لتأتي السلاحف لاحقاً لتعيد التوازن، لكن في غيابها، تتحول دورة الحياة إلى خلل بيئي مكشوف.

أما عن علاقة السلاحف بازدياد أعداد القناديل، فيقول: "تعيش في مصر خمسة أنواع سلاحف من أصل 7 على مستوى العالم، هي: ذات الرأس الكبيرة، الزيتونية، السلحفاة الخضراء، منقار الصقر، وجلدية الظهر، وجميعها تشترك في كونها تتغذى على القناديل. جلدية الظهر على سبيل المثال، تأكل نحو 90 كيلو من القناديل بحسب دراسة تم إجراؤها من قبل. 

يقول: "الحقيقة أننا لن نستطيع رصد الأمر دون تحليل ما نملكه من بيانات"، ولكن بالنظر إلى الخبرة العملية، فإنه في الأعوام من 2014 إلى 2017 كان يرى يومياً أكثر من 40 سلحفاةً، وفي مرسى أبو دباب في مرسى علم كان يقيم كانت هناك نحو 150 سلحفاة. أما الآن، فلا يرى في اليوم سوى واحدة أو اثنتين، وفي أيام كثيرة أخرى لا يرى أيّ سلحفاة. 

من يملأ هذا الفراغ؟

ظهرت المبادرات المحلية غير الرسمية في ظلّ محدودية الأبحاث البيئية المتخصصة وضعف التوثيق الرسمي المنتظم، لملء الفراغ الموجود. ومن خلال الغوّاصين والناشطين البيئيين في مدن مثل نويبع ومرسى علم والغردقة، يتم رصد الكائنات البحرية والتوعية بأهمية النظام البيئي البحري. 

وتعتمد هذه المبادرات في توثيقها على صور الهواتف والكاميرات وملاحظات الغوّاصين، كمصادر بديلة للمراقبة البيئية. مع الإشارة إلى غياب التعليق الرسمي من الجهات المختصة، حيث تواصل رصيف22 مع المسؤول عن محميات البحر الأحمر في وزارة البيئة -عبر الهاتف والرسائل- للحصول على تعليق رسمي حول الظاهرة، دون الحصول على جواب. 

ليست كل القناديل خطرةً، ولا كل ما يطفو يستحق الهلع. ربما الخطر الحقيقي هو أن نظلّ نغفل عن غياب السلحفاة، أو نقول إنه موسم تزاوج القناديل وندير وجهنا بلا مبالاة إلى الناحية الأخرى فلا نلتفت إلى أي تغيير يحدث. 



رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

وراء كل تحقيق، قصة بحث طويلة، وفريق يراهن على الدقة، لا السرعة.

نحن لا نبيع محتوى... نحن نحكي الواقع بمسؤولية.

ولأنّ الجودة والاستقلال مكلفان، فإنّ الشراكة تعني البقاء.

Website by WhiteBeard
Popup Image