جوائز الدولة... جولة في تشغيل ومكافأة مثقفي التراحيل

جوائز الدولة... جولة في تشغيل ومكافأة مثقفي التراحيل

ثقافة نحن والحرية

الاثنين 18 أغسطس 20259 دقائق للقراءة

قضت ثورة 23 تموز/يوليو 1952، في ما قضت، على ظاهرة "عمال التراحيل"؛ استعبادٌ اضطراري يُقصي الفقراء عن القرى، للعمل (فواعلية) في الوسايا، وهي إقطاعيات الباشوات، لمواسم تستمر بضعة أشهر، مقابل "يومية" طوال النهار، قدرها قرشان ونصف القرش. وفي السنوات الأخيرة تتجلى الظاهرة في ثلاثة نماذج. فنانون ينتظرون، بحقائب السفر، إشارة من مواسم الرياض. ومثقفون جاهزون للتحرك من وظيفة إلى أخرى، ويُرفَعون مؤقتاً من الخدمة، ويكتمون الغيظ، انتظاراً لعطايا اختبار القدرة على الصمت. وفقراء على أرصفة ضواحي القاهرة، يبحثون عن رزق حلال بأدواتهم الحديدية وطاقتهم الجسدية. لا مهارات لديهم إلا حمل الأثقال وإزالة الركام. لا يجيدون البناء، ويحسنون الهدم، فيفيدون "مقاولي الهدد".

الجوائز تمثل الدولة المصرية. وعمليّاً، في إجراءات الترشيح والتصويت، تبدو هبة من السلطة. مَن يختار حكام المباريات، وأحياناً القضاة لنظر قضايا معينة، كأنه يحدد النتائج. في التصويت على المحظوظين ببلوغ القوائم القصيرة، النهائية، يحضر سؤال: كيف للواء شرطة هبط على رأس مؤسسة حكومية، للثقافة أو للفنون، أن يختار الجديرين بالجوائز؟ انسوا اللواءات. خذ دبلوماسيّاً فاز بكلّ ما يمكن أن يناله أي عبقري من جوائز ومناصب في مصر وخارجها، آخرها إدارة مكتبة الإسكندرية. ينقصه فقط أن يتأسى بالنبي نوح في مناجاة ربه: "شبعتُ أياماً"، ثم يعتزل. إنه مصطفى الفقي أحد النجوم المؤثرين في منح الجوائز السنوية الرسمية للأدباء والنقاد.

في حوار الفقي مع الأهرام، في 14 حزيران/يونيو 2018، أجاب عن سؤال يخصّ الإبداع الأدبي. ماذا يقرأ؟ قال إنه قرأ مبكراً لعباس العقاد وطه حسين وتوفيق الحكيم. لا بدّ من ذكر هذا الثلاثي، فهو لزوم التباهي. والدبلوماسي سيضيف كلاماً خطابيّاً إنشائيّاً أملس: "العقاد نحات الكلمة، وطه حسين موسيقار الكلمة، وتوفيق الحكيم فيلسوف الإنسانية، وأحببت روايات نجيب محفوظ". فماذا تقرأ للمعاصرين المصريين والعرب يا سيد مصطفى؟ أجاب: "أبحث عن الموهبة، عن 'يوسف إدريس' جديد، ليفتح أفقاً مغايراً في القصة القصيرة والرواية، مثلما فعل يوسف القديم الذي أبدع في 'أرخص ليالي'، وغيرها من أعمال أدبية راسخة في المشهد الروائي العربي المعاصر، كما أبحث عن جيل يمضى في نفس سياق الشاعر الكبير الراحل 'أمل دنقل' صاحب القصائد والدواوين التي تجاوزت المألوف في حركة الشعر العربي، خلال حياته التي لم تدم طويلاً، وغيره من جيل المبدعين الكبار".

التصويت لاختيار مستحقي جوائز "الدولة" غير منصف. ولأن أكثر من نصف عدد المصوّتين غير متخصصين، فإنهم يستندون إلى شهرة المرشح، أو منصبه الحكومي، باحتيال لئيم مبني على التصويت الديمقراطي

هذا كلام كالكلام، ثرثرة منزوعة الفائدة والمتعة، يجيدها القادرون على إعادة تدوير الكلام الخالي من المعنى. منذ نشر الحوار إلى اليوم لم يسفر البحث عن اكتشاف موهبة أدبية. مصطفى الفقي، الذي لا يستشهد في برنامج أو مقال ببيت شعري ولا يذكر عنوان قصيدة أو رواية، لم يتردد في قبول رئاسة أكبر مؤتمر سنوي لأدباء مصر، عام 2018.

أسمّي الوجوه بأسمائها. ذكرتُ اسم الفقي بما فيه الكفاية، في سياق سيحتشد الآن بالأسماء. وحرصاً على مساحة المقال سأحذف لقب الدكتور، أما اللواء فلا شأن لي به. أصحاب اللقبين يُتبعون اللواء بالدكتور. هنا أحرر الأسماء من ألقابها.

التصويت لاختيار مستحقي جوائز "الدولة" غير منصف. ولأن أكثر من نصف عدد المصوّتين غير متخصصين، فإنهم يستندون إلى شهرة المرشح، أو منصبه الحكومي، باحتيال لئيم مبني على التصويت الديمقراطي. فاز بالجائزة التقديرية في الفنون، عام 1992، رجل لازمه -حيّاً وميتاً- حكم قضائي بأنه "قواد". وفي عام 2011 فاز الصحافي أحمد رجب بالجائزة التقديرية في الآداب. وفي عام 2003 فاز بالجائزة نفسها كل من عبد الغفار مكاوي وإبراهيم أصلان ومحمد الجوادي. والأخير ليس أديباً ولا ناقداً، لكنه سبق كثيرين -أمثال محمد عفيفي مطر وعبد الوهاب المسيري وفاروق عبد القادر ومحمد مستجاب وجمال الغيطاني وجابر عصفور- إلى جائزة استعصت على يوسف إدريس، فمنحوها له في غيبوبة مرض الموت، عام 1991.

لعل الأكثر عدلاً في جوائز التفوق والتقديرية والنيل وهي كبرى الجوائز أن تمنحها لجنة متخصصة، أسوة بالجائزة التشجيعية، بعيداً عن تصويت تضيع فيه الجدية في ركام عدم التخصص والجهل والمجاملات والإكراهات الحكومية. قبل التصويت توجد بالمجلس الأعلى للثقافة لجان للفحص، لديها سلطة اختيار قوائم قصيرة تُطرح للتصويت، واختيار الفائزين. في عام 2018 فاز أحمد مراد بجائزة التفوق في الآداب. وفي عام 2022 استبعدت لجنة فحص جائزة التفوق، برئاسة يوسف القعيد، كلاً من الشعراء ماجد يوسف ومسعود شومان ويسري حسان والروائي محمد إبراهيم طه. واستبعدت لجنة الجائزة التقديرية الشاعر محمد سليمان من القائمة القصيرة الخاضعة للتصويت. وفاز بالجائزة التقديرية كمال رحيم، وله حكاية ذكرتُها آنذاك في مقال "سيرة فوضى غير خلاقة لجوائز الدولة" في موقع "المنصة" في 14 حزيران/يونيو 2022.

جهات الترشيح للجوائز تضم جامعات ونقابات ومؤسسات وجمعيات علمية أهلية، وبعضها ليس بريئاً تماماً من الأهواء ومن أشياء أخرى تدل عليها طبائع الأسماء المرشحة. فنقابة المهن التمثيلية رشحت، عام 2021، المغني الإماراتي حسين الجسمي لجائزة النيل للمبدعين العرب. وللجائزة نفسها رشحت جامعة القاهرة الفنانة فيروز، هذا العام (2025)، لكن لجنة الفحص استبعدتها؛ فلم تخضع للتصويت. وفي عام 2021 رشحت الجمعية الجغرافية المصرية رجل المال حسن راتب للحصول على جائزة النيل، أرفع الجوائز المصرية. والرجل ثري، يملك فضائية وقرية سياحية وجامعة وأشياء أخرى. وليس له إنجاز علمي، ولم يذكر اسمه في مجال الجغرافيا إلا متهماً بالاتجار في الآثار والتنقيب عنها، في قضية "الآثار الكبرى" عام 2021. وقد صدر بحقه حكم قضائي بالسجن خمس سنوات، تم تخفيفه إلى ثلاث سنوات، وتغريمه مليون جنيه.

فوزي فهمي ضرب مثلاً طيباً في تعفف رئيس المؤسسة الثقافية الحكومية عن الترشح للجائزة. وفي عام 2014 كان جابر عصفور مرشحاً لجائزة النيل، وقبل التصويت صار وزيراً للثقافة، فاعتذر على الرغم من ترشّحه للجائزة وهو بعيد عن الوظائف. وبعد الوزارة نال الجائزة عام 2019.

الجوائز تمثل الدولة المصرية. وعمليّاً، في إجراءات الترشيح والتصويت، تبدو هبة من السلطة. مَن يختار حكام المباريات، وأحياناً القضاة لنظر قضايا معينة، كأنه يحدد النتائج. في التصويت على المحظوظين ببلوغ القوائم القصيرة

تلك سُنّة، عهدٌ لا يستطيع الوفاء به إلا الناجون من غرام الوظائف وإغراءات الجوائز. بعُد فوزي فهمي وقبل جابر عصفور، رضي محمد صابر عرب وهو رئيس مؤسسة ثقافية رسمية بالترشح للجائزة التقديرية، بالمخالفة للعُرف العام. ثم صار وزيراً للثقافة، والوزير يترأس جلسة التصويت. وفي صيف 2012 كانت حكومة كمال الجنزوري تسيّر الأعمال، ومحمد صابر عرب وزير في وزارة في حكم المستقيلة، يسيّر أعمال وزارة الثقافة مثل غيره من الوزراء، ولكنه استقال من حكومة تسيير الأعمال في 28 حزيران/يونيو 2012. وبعد يومين اثنين، منحه التصويت الجائزة التقديرية. وسرعان ما عاد إلى الوزارة في حكومة هشام قنديل تحت حكم الإخوان. وفي الشهر التالي لعاصفة 30 حزيران/يونيو 2013 اُختير وزيراً.

أما السيناريست عبد الرحيم كمال فنال جائزة التفوق في الآداب عام 2024. قبل ذلك بثلاث سنوات، اتصل الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ببرنامج تلفزيوني، في 23 آب/أغسطس 2021، معلناً دعمه لعبد الرحيم كمال، لكتابة دراما تلفزيونية "هادفة"، فكتب عبد الرحيم مقالاً في أسبوعية أخبار الأدب، في 5 أيلول/سبتمبر 2021، قال فيه إن رئيس الدولة "الرجل المهذب ذا النبرة الصادقة"، بهذه المداخلة، أكد أن سنوات عمره "لم تضع هباء"، وإن لحظة اتصال السيسي بعبد الرحيم، ضيف البرنامج، "فارقة حاسمة"، واعداً بالاحتشاد لحكايات يدعمها "رئيس مصري صادق يحلم ويحقق أحلامه من أجل دولة عظيمة يحبها وتحبه". هكذا فاز عبد الرحيم بجائزة التفوق، وبعد شهور عين رئيساً للرقابة على المصنفات الفنية عام 2025، وفي جلسة إعلان جوائز "الدولة"، في 29 تموز/يوليو 2025، جرى التصويت عليه لنيل الجائزة التقديرية في الآداب.

ماذا قدّم عبد الرحيم، خلال بضعة أشهر تفصل فوزه بجائزة التفوق عن ترشّحه للجائزة التقديرية؟ السؤال يجيب عنه ميراث تدوير الأسماء، واعتبار السن وحده استحقاقاً للجائزة التالية. ينال أحدهم جائزة، ولا يقدم شيئاً في السنوات التالية، وكما تتراكم الشحوم وتزيد الجسم بدانة والنفَس لهاثاً لأقل مجهود، يجري تصعيد البعض إلى الجائزة الأعلى باستحقاق السنوات المضافة إلى الجائزة السابقة. يوسف القعيد لم يقدم شيئاً لافتاً منذ فوزه بالتقديرية، باستثناء مقالات أسبوعية في الأهرام تشيد بعبقرية الرئيس. وتوالت المكافآت بالتعيين في البرلمان، وعضوية الهيئة التأسيسية لحزب الجبهة الوطنية، وعضوية المجلس الأعلى للثقافة. وأعضاء هذا المجلس هم مانحو الجوائز، ومَن يكون منهم مرشحاً لجائزة يخرج من الجلسة، وقت التصويت.

القعيد رُشّح هذا العام (2025) لجائزة النيل، بعد مضي سنين على الجائزة السابقة (التقديرية). لكن عبد الرحيم كمال لا تزال جائزته السابقة ساخنة بوهج فرن السلطة. لم يمرّ وقت يجعل لاستحقاق السن اعتباراً.

يعيدني منطق أو لعبة تدوير الأسماء إلى بداية هذا المقال، وقد أثقلته كثرة الأسماء. والإثقال مهمٌّ لاستقرار مثقفي التراحيل، الجاهزين لتلبية أي نداء، المذعنين لأي أمر، العاجزين عن التذمّر من الترحال بالخيام والأوتاد، الناسين حكمة الفردوسي في "الشاهنامة" عن ذلة وتد الخيمة: "جسمه في التراب، ورأسه للحجر، والحبل في عنقه". كان الشاعر الفارسي قاسياً.



رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

من 12 سنة لهلّق، ما سايرنا ولا سلطة، ولا سوق، ولا تراند.

نحنا منحازين… للناس، للحقيقة، وللتغيير.

وبظلّ كل الحاصل من حولنا، ما فينا نكمّل بلا شراكة واعية.


Website by WhiteBeard
Popup Image