"الهندسة اللغوية" في المغرب… اعتماد للتعددية أو تكريس لهيمنة "الفرنسية"؟

حياة نحن والتنوّع

الجمعة 25 يوليو 202511 دقيقة للقراءة

لا تزال الصيغة الجديدة لمشروع المرسوم المتعلّق بتحديد تطبيقات "الهندسة اللغوية" في التعليم المدرسي والتكوين المهني والتعليم العالي، تثير جدلاً بين مختلف الفاعلين في قطاع التعليم ومكوّنات المشهد السياسي في المغرب، خصوصاً في ما يخصّ النموذج المعتمد في "الهندسة اللغوية" للمناهج والبرامج الدراسية.

ويُجمع العديد من المهتمين بهذا الملف على أنّ تدريس اللغات يستدعي تحديداً واضحاً لوضعية كل لغة على حدة داخل المنظومة التربوية، سواء من حيث اعتبارها لغة تدريس أو لغةً مُدَرَّسةً بحيث تبقى العربية اللغة الرسمية المعتمدة في التدريس في مختلف المستويات، مع تعزيز حضور اللغة الأمازيغية، والعمل بمبدأ التناوب اللغوي في تدريس بعض المواد العلمية والتقنية من لغات أجنبية، تتمثّل في الفرنسية والإنكليزية.

ماذا نعرف عن مشروع الهندسة اللغوية في المغرب؟

يُشكّل القانون الإطار رقم 17-51، المتعلّق بمنظومة التربية والتكوين والبحث العلمي، المرجع التشريعي الأساسي لإصلاح المنظومة في المغرب، حيث يتضمّن المبادئ والأهداف الأساسية لسياسة الدولة واختياراتها الإستراتيجية وآليات تحقيقها.

"فوضى لغوية" و"افتقار إلى أساسيات تطبيقه"... لماذا يثير مرسوم "الهندسة اللغوية" الجدل والاتهامات بتكريس "فرنسة التعليم" في المغرب خلافاً للقانون والدستور؟ وما هي التحديات التي تعرقل تطبيقه؟

وينص القانون الإطار على اعتماد اللغة العربية لغةً أساسيةً للتدريس، وتطوير وضع اللغة الأمازيغية في المدارس، مع إرساء تعددية لغوية بصورة تدريجية ومتوازنة تهدف إلى جعل المتعلّم الحاصل على البكالوريا (مرحلة الثانوية العامة)، متقناً للّغتين العربية والأمازيغية، ومتمكّناً من لغتين أجنبيتين أخريين على الأقل.

وفق هذا القانون، قدّمت الحكومة السابقة برئاسة سعد الدين العثماني، المرسوم المتعلّق بتطبيق مقتضيات الهندسة اللغوية على صعيد كل مستوى من مستويات منظومة التربية والتكوين، ويتعلّق الأمر بمراحل التعليم المدرسي، والتكوين المهني، والتعليم العالي.

وحسب المرسوم، سيتم الإبقاء على تدريس اللغة العربية في جميع أسلاك المستويين الإعدادي والثانوي، بوصفها لغةً مُدرّسةً ولغةً أساسيةً للتدريس، وعلى تدريس اللغة الفرنسية في جميع أسلاك هذين المستويين، بوصفها لغةً مُدرّسةً وإدراجها كلغة لتدريس بعض المواد، ولا سيّما العلمية والتقنية منها. 

كما ينصّ أيضاً على تدريس اللغة الأمازيغية في جميع أقسام المستوى الابتدائي، وتعميم تدريسها بشكل متدرّج في جميع أسلاك المستويين الإعدادي والثانوي التأهيلي، مع تدريس اللغة الإنكليزية أو الإسبانية، ابتداءً من السنة الخامسة من التعليم الابتدائي، وإدراج التكوين باللغة الإنكليزية في تخصّصات وشعب التكوين المهني.

ويتضمّن المرسوم نفسه إدراج وحدة دراسية تُلقَّن باللغة العربية في المسالك المدرّسة باللغات الأجنبية بالنسبة للمغاربة في مرحلة التعليم العالي، فضلاً عن إدراج وحدة دراسية للّغة العربية بالنسبة لغير الناطقين بها بالمستوى ذاته. 

وبرغم أنّ حكومة العثماني كانت قد أعدّت النسخة الأولية من مشروع المرسوم قبيل نهاية ولايتها، وأحالتها إلى المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي في آب/ أغسطس عام 2021، من أجل إبداء الرأي، إلا أنّ النسخة التي أعدّتها الحكومة الحالية تلقّت الملاحظات نفسها وأضافت أخرى، في الرأي الثاني الذي أصدره المجلس صيف عام 2023. وإلى اليوم، لم يتم إصدار أي نسخة جديدة من المرسوم.

ويرى المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، وهو مؤسسة دستورية، في الرأي الذي أصدره حول المرسوم أنه اتّسم بالتعميم، عادّاً أنّ مجمل مواده انحصرت في التذكير بالأهداف والمبادئ الأساسية دون تفصيل أو توضيح. كما أصدر ملاحظات أخرى تخصّ إبراز الطابع الإجرائي والتنظيمي للهندسة اللغوية، وكذا التنصيص على الآجال القصوى للتطبيق الشامل والمتكامل للهندسة اللغوية.

وفي هذا الصدد، يقول الباحث المتخصّص في اللسانيات الاجتماعية والتخطيط اللغوي، يحيى شوطى، لرصيف22، إنّ أهم ملاحظة قدّمها المجلس كانت حول محاولة إفراغ المرسوم من عمقه من خلال إحالة تطبيقات الهندسة اللغوية وملاحقها إلى قرار السلطة الحكومية، مؤكداً: "هذا التوجّه يُفرِغ المرسوم من مضمونه، ويتنافى مع فلسفة إصلاح المنظومة التربوية التي لم تعد شأناً قطاعياً فحسب، بل منظومة متكاملة ويبرز فيها دور رئيس الحكومة باعتباره الضامن للتكامل المؤسساتي والانسجام على مستوى السياسات العمومية، الأمر الذي نجده مع كامل الأسف مفقوداً وبقوة في رئيس الحكومة الحالي، عزيز أخنوش".

فوضى لغوية...

في تقرير أصدرته الجمعية المغربية لتحسين جودة التعليم (أماكن)، عام 2022، ورد أنّ اللغة العربية لم تعد تُعتَمد كلغة تدريس في المدارس المغربية، خاصةً في ما يتعلّق بالمواد العلمية والتقنية.

وأورد التقرير أنّ عدد ساعات اللغة العربية، سواء باعتبارها لغة تدريس أو لغةً مُدرّسةً، تراجع بشكل كبير، من 6،290 ساعةً قبل اعتماد مبدأ التناوب اللغوي، إلى 3،468 ساعةً بعده. في المقابل، شهدت اللغة الفرنسية توسّعاً ملحوظاً، حيث ارتفعت حصّتها من 2،788 ساعةً إلى 5،610 ساعات، ما جعلها "اللغة المهيمنة على زمن التدريس"، بحصّة تقتطع ما يقارب الثلثين من مجموع الساعات الدراسية.

في المغرب، "تم الانزياح عن المفهوم الأصلي لمبدأ التناوب اللغوي، الذي أقرّته الرؤية الإستراتيجية للإصلاح 2015/ 2030. لذلك نجد تناقضاً واضحاً بين ما تضمنته الرؤية وبين بنود القانون الإطار، ولعلّ هذا الانزياح ساهم بشكل كبير في خلق فوضى لغوية وفرضِ خيار لغوي وحيد متمثّل في اللغة الفرنسية"

وبرغم إرساء نموذج تشريعي وتدبيري للوضعية اللغوية والثقافية في المغرب من خلال دستور 2011، إلا أنّ الحديث عن غياب سياسة لغوية وطنية منسجمة يظلّ أمراً صحيحاً، حسب رأي الباحث في اللسانيات، شوطى، الذي يؤكد وجود "فوضى لغوية لا تحترم أيّاً من مقتضيات التشريع الوطني ولا سيّما في مجال حيوي وإستراتيجي كالتعليم".

ويضيف: "للأسف، تم الانزياح عن المفهوم الأصلي لمبدأ التناوب اللغوي، الذي أقرّته الرؤية الإستراتيجية للإصلاح 2015/ 2030. لذلك نجد تناقضاً واضحاً بين ما تضمّنته الرؤية وبين بنود القانون الإطار، ولعلّ هذا الانزياح ساهم بشكل كبير في خلق فوضى لغوية وفرض خيار لغوي وحيد متمثّل في اللغة الفرنسية تحت مسمّيات الخيار الدولي".

ويعتمد المغرب على اللغة الفرنسية لتدريس المواد العلمية والتقنية في مختلف مستويات الدراسة، باستثناء المرحلة الابتدائية التي يتم فيها الاعتماد على مبدأ التناوب اللغوي بين الفرنسية والعربية. ويأتي هذا التوجّه في وقت كشفت فيه نتائج البرنامج الوطني لتقييم المكتسبات (PNEA 2019)، أنّ 41% من تلامذة السنة الابتدائية السادسة فقط اكتسبوا المهارات اللغوية الضرورية لمتابعة دروسهم في مادة اللغة الفرنسية، فيما لم تتجاوز نسبة التلاميذ الذين استوعبوا المقرّر بأكمله 12%.

هذه الأرقام دفعت الكثيرين، ومن بينهم منسق تكتّل الأساتذة والطلبة والتلاميذ الرافضين لفرنسة التعليم، يوسف بن العيساوي، إلى التساؤل عن جدوى تدريس المواد العلمية بالفرنسية؟ يوضح بن العيساوي في حديثه إلى رصيف22، أنّ "مخطّط فرنسة التعليم التي تحاول وزارة التعليم المغربية تنزيله، له نتائج سلبية على مستوى عدد من التلاميذ والتلميذات، كونه يُقصي اللغة العربية لصالح الفرنسية، مخالفاً بذلك مقتضيات الدستور المغربي ومضامين القانون الإطار الذي يتحدث عن مبدأ التناوب اللغوي".

ويرى بن العيساوي، أنّ فرض الدراسة بالفرنسية على التلاميذ يُعدّ مصادرةً لمبدأ تكافؤ الفرص وانتهاكاً لحق أصيل من حقوق الإنسان، وهو حق الاختيار، كما أنّ تدريس المواد العلمية بالفرنسية بعد أن درسها الطلاب والطالبات سابقاً بالعربية في المرحلة الابتدائية، "جريمة لغوية تمارَس عليهم بالإكراه والإجبار"، على حد وصفه، بينما يستنكر مخالفة مجموعة من المؤسّسات التعليمية للقانون، عبر إقصاء الخيار العربي بشكل كلّي وفرض المسار الدولي على جميع التلاميذ.

تحدّيات تهدّد تطبيق "الهندسة اللغوية"

في ظل هذه "الفوضى اللغوية" التي كان يُتوقع من المرسوم تنظيمها، من خلال تحديد مكانة كل لغة -اللغة العربية والأمازيغية واللغات الأجنبية- في كل مرحلة من مراحل التعليم، يرى رئيس الفيدرالية الوطنية لجمعية آباء وأولياء التلاميذ، نور الدين عكوري، أنّ مرسوم الهندسة اللغوية يواجه عقبات عدة تتعلّق أساساً بقلّة الموارد البشرية المؤهلة لتعميم تدريس اللغة الأمازيغية في مختلف المؤسسات التعليمية، وأيضاً لتدريس المواد العلمية باللغة الفرنسية.

ويوضح لرصيف22: "لا يمكن الحديث عن تطبيق نصوص هذا المرسوم قبل أن توفِّر الوزارة المعنية الموارد البشرية الكافية والمؤهلة لذلك"، متسائلاً: "كيف يُعقل أن يُطلب من الأساتذة تدريس المواد العلمية بلغات أجنبية وضمان استيعاب الدروس والمفاهيم، في حين أنهم تلقوا بغالبيتهم تكويناً سابقاً باللغة العربية؟ من غير المنطقي أيضاً أن نتحدّث عن تكافؤ الفرص بين التلاميذ، والذي ينصّ عليه القانون الإطار، بينما الشروط الأساسية لذلك تبقى غير متوافرة".

وبخصوص تعليم اللغات الأجنبية الثانية، مثل الإنكليزية والإسبانية منذ المستوى الابتدائي الخامس كلما توفّرت الإمكانيات، كما يرد في المرسوم، يؤكد عكوري أنّ هذا الأمر يكرّس عدم تكافؤ الفرص بين تلاميذ المدارس العمومية والخصوصية، على اعتبار أنّ الإمكانيات التي تم ذكرها تعني توفّر الموارد البشرية في المدارس العمومية، والتي تبقى عائقاً أمام تطبيقها في ظل نقص الأطر التربوية في هذا القطاع.

وتجدر الإشارة إلى أنّ عدد الأساتذة في التعليم العمومي في المغرب يناهز 288 ألف أستاذة وأستاذ، في الموسم الدراسي 2024/ 2025، في حين أنّ وزير التعليم الأسبق، سعيد أمزازي، كان قد كشف أنّ الخصاص (النقص) في عدد الأساتذة في عام 2021 قُدّر بأزيد من 27 ألف أستاذ.

أما بخصوص اللغة الأمازيغية، فإنّ عدد المدرّسين وصل إلى 2،460 مدرساً متخصّصاً فقط، مع استفادة نحو 700 ألف تلميذ وتلميذة من دروسها، ما يمثّل نسبةً تقارب 19% من مجموع عدد تلاميذ السلك الابتدائي فحسب.

كما أنّ تعميم تدريس اللغة الأمازيغية، جزئياً أو كلياً، في مؤسسات التعليم الابتدائي برسم الموسم الدراسي المنقضي، وصل إلى نسبة 40% من مؤسسات التعليم الابتدائي العمومية في المجالين الحضري والقروي، بينما بقي تدريسها اختيارياً في المدارس الخاصة في المرحلة الحالية.

"الوقت قد حان في المغرب لإطلاق حوار وطني شامل لوضع سياسة لغوية واضحة تحدّد مكانة كل لغة في مختلف مراحل التعليم، مع احترام الهوية الثقافية والتعددية اللغوية للمغرب، بما يساهم في تحقيق تكافؤ الفرص وتعزيز جودة التعليم ودمقرطة الخيارات اللغوية"

احترام القانون الإطار كشرط لإصلاح التعليم

ويتفق بن العيساوي وشوطى على ضرورة الوعي بأهمية القانون الإطار والالتزام به، وضرورة التقيّد بعدد من مقتضياته في مباشرة إصلاح التعليم. يقول منسق تكتّل الرافضين لفرنسة التعليم: "نحن لا نطلب المستحيل، بل ندعو فقط إلى تطبيق القانون واحترام مضامين الدستور، عبر منح التلميذ حق اختيار لغة التدريس، وإعادة الاعتبار للّغة العربية في مختلف المستويات التعليمية".

ويضيف بن العيساوي: "أعتقد أنّ الوقت قد حان لإطلاق حوار وطني شامل لوضع سياسة لغوية واضحة تحدّد مكانة كل لغة في مختلف مراحل التعليم، مع احترام الهوية الثقافية والتعددية اللغوية للمغرب، بما يساهم في تحقيق تكافؤ الفرص وتعزيز جودة التعليم ودمقرطة الخيارات اللغوية".

أما الباحث في التخطيط اللغوي، شوطى، فيشدّد على أهمية تبنّي منهجية تعالج التعليم باعتباره منظومة متكاملة، مع ضرورة احترام المسار المنهجي في إعداد النصوص القانونية والتنظيمية المرتبطة به. كما يحثّ على وضع مخطّط تشريعي منسجم، وتعزيز استقلالية اللجنة الدائمة لتجديد وملاءمة المناهج والبرامج، ومجموعات العمل التابعة لها، وكذا تسريع وتيرة عقد اجتماعات اللجنة الوطنية لتتبّع إصلاح منظومة التربية والتكوين، باعتبارها آليةً محوريةً لتوحيد وتنسيق جهود مختلف الفاعلين.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image