الأفغان في إيران… من ضيوفٍ قديمين إلى مأزومين مفْرَضين

الأفغان في إيران… من ضيوفٍ قديمين إلى مأزومين مفْرَضين

سياسة

السبت 5 يوليو 20258 دقائق للقراءة

منذ بداية الحرب السوفياتية على أفغانستان في عام 1979، بدأت أولى موجات اللجوء الأفغاني إلى إيران. تدفّق مئات الآلاف من الأسر هرباً من القتال، لينضم إليهم لاحقاً أجيال أخرى مع كل اضطراب جديد يضرب أفغانستان: من حرب المجاهدين ضد السوفيات، مروراً بالحرب الأهلية، إلى الغزو الأمريكي في 2001، وأخيراً عودة طالبان إلى الحكم في 2021. خلال هذه العقود، أصبحت إيران واحدة من أكبر الدول المضيفة للاجئين الأفغان، حيث يُقدّر عددهم اليوم بما يقارب ثلاثة ملايين شخص، بينهم مَن يحمل تصاريح إقامة مؤقتة تعرف بـ"كارت آمايِش"، وآخرون يقيمون بشكل غير قانوني، دون أوراق رسمية.

في العقود الأولى، تعاملت السلطات الإيرانية مع الوجود الأفغاني باعتباره "استضافة مؤقتة"، لكنها عملياً تغاضت لسنوات عن الوضع القانوني للكثير من اللاجئين، وسمحت لهم بالعمل، الدراسة، بل وحتى المشاركة في بعض الخدمات الاجتماعية، خصوصاً في القطاعات التي تعاني من نقص، كالبناء والزراعة والخدمات. وقد اندمج كثير من هؤلاء اللاجئين في المجتمع الإيراني، خاصة في المدن الكبرى مثل مشهد وطهران ويزد وقم، وأسسوا عائلات وأعمالاً تجارية، حتى بات من الصعب التفريق أحيانًا بين بعض التجمعات الأفغانية وجيرانهم الإيرانيين.

في العقود الأولى، تعاملت السلطات الإيرانية مع الوجود الأفغاني باعتباره "استضافة مؤقتة"، لكنها عملياً تغاضت لسنوات عن الوضع القانوني للكثير من اللاجئين، وسمحت لهم بالعمل، الدراسة، بل وحتى المشاركة في بعض الخدمات الاجتماعية

لكن هذه الصورة بدأت تتغير تدريجياً، خصوصاً بعد عودة طالبان إلى السلطة في كابول عام 2021، وما تبعها من انهيار أمني واقتصادي دفع موجة جديدة من اللاجئين إلى الفرار نحو إيران. ومع تصاعد الضغوط الاقتصادية داخل إيران، وتدهور سعر صرف الريال، وارتفاع معدلات البطالة، تصاعد الخطاب المعادي للأجانب في بعض وسائل الإعلام، وبدأت السلطات في اتخاذ إجراءات أكثر صرامة تجاه اللاجئين.

الحرب الأخيرة بين إيران وإسرائيل، والتي استمرت 12 يوماً وأثارت حالة من الاستنفار الأمني والوطني داخل إيران، جاءت لتزيد الطين بلة. فقد استخدمت الأزمة كذريعة لتسريع وتيرة الترحيل الجماعي للأفغان.

تشير تقارير وكالة "رويترز" إلى أن السلطات الإيرانية قامت بطرد أكثر من 30 ألف أفغاني يومياً خلال أسابيع قليلة بعد الحرب. أما "منظمة الهجرة الدولية" فتؤكد أن أكثر من 366 ألف مهاجر أفغاني أُعيدوا قسرًا إلى بلادهم منذ آذار/مارس 2025، بينهم آلاف الأطفال والعائلات، وبعضهم دون أن يتمكن حتى من أخذ متاعه أو استلام أجوره المتراكمة.

الجالية الأفغانية في إيران


الواقع في أفغانستان لا يُبشر بالكثير من الأمل لهؤلاء العائدين. فعلى الرغم من توقف القتال، تعاني البلاد من انهيار.

منذ الغزو السوفيتي لأفغانستان في عام 1979، بدأت أولى موجات نزوح الأفغان نحو إيران، وقد احتضنتهم البلاد على مدى عقود بوصفهم "ضيوفًا"، حيث مُنح كثيرون منهم حق الإقامة المؤقتة، وبعضهم استقر فيها لسنوات طويلة دون أوراق رسمية. وصل عدد اللاجئين الأفغان في إيران إلى ما يقارب 3 ملايين، كثير منهم وُلد في إيران ولم يعرف وطناً آخر. استقر هؤلاء في مدن مثل مشهد وطهران ويزد وكرج، وشاركوا في سوق العمل، والتحق أطفالهم بالمدارس، وخلقوا مجتمعاً موازياً حافظ على روابطه العائلية والدينية، وإن كان دائماً مهدداً بعدم الاعتراف القانوني الكامل.

لكن هذا التعايش الطويل تعرض في الأشهر الأخيرة لتهديد غير مسبوق، خصوصاً بعد الحرب الإيرانية-الإسرائيلية التي استمرت 12 يوماً، حين بدأت حملة أمنية واسعة النطاق استهدفت الوجود الأفغاني في إيران. بدأت التقارير تتحدث عن طرد قسري لعشرات الآلاف يومياً، وعن ترحيل أعداد غير مسبوقة من اللاجئين، بمن فيهم أطفال وعائلات، إلى داخل الأراضي الأفغانية، حيث ينتظرهم واقع شديد القسوة في ظل حكم طالبان. بحسب تقارير الأمم المتحدة، فقد عاد ما لا يقل عن 1.2 مليون أفغاني من إيران وباكستان منذ بداية عام 2025، وقد أُجبر أكثر من نصفهم على العودة تحت الضغط أو بالقوة. في أحد الأيام وحده، أعيد أكثر من 30 ألف شخص من إيران.

لم يعد يُنظر إلى هؤلاء اللاجئين كمجرد عمالة وافدة أو ضيوف، بل تحوّلوا في الخطاب الإعلامي الرسمي إلى تهديد أمني، خاصة بعد أن انتشرت شائعات تتهم بعضهم بالتورط في عمليات تجسس أو تهريب لصالح دول أجنبية. ترافقت هذه الحملة مع خطابات تحريضية في بعض وسائل الإعلام ومنابر دينية، وتكررت مشاهد اقتحام مخيمات الأفغان ومنازلهم، واحتجازهم في مراكز مؤقتة قبل ترحيلهم على عجل إلى الحدود الشرقية، دون حتى السماح لهم بجمع متعلقاتهم أو تحضير أنفسهم.

ما يزيد من مأساوية هذا الواقع هو أن معظم المرحّلين عاشوا سنوات طويلة في إيران، وبعضهم لا يعرف أفغانستان إلا بالاسم. أطفالٌ قضوا أعمارهم في المدارس الإيرانية وجدوا أنفسهم فجأة في بلد يفتقر إلى البنية التحتية الأساسية، ويعاني من أزمة اقتصادية خانقة، إضافة إلى القمع السياسي واسع النطاق. هناك تقارير تشير إلى أن بعض العائدين تعرّضوا للاعتقال أو التعذيب، خاصة ممن كانت لهم صلات بمنظمات غير حكومية أو ممن كانوا يعملون في مجالات تعليمية أو إعلامية.

ورغم كل ذلك، لم يكن المجتمع المدني الإيراني غائباً عن هذا المشهد. خلال الأسابيع الماضية، أطلق نشطاء حملة تضامن مع اللاجئين الأفغان تحت عنوان "نه به اخراج اجباری" (لا للطرد الإجباري)، حيث انتشرت صور وشهادات على منصات التواصل الاجتماعي تدعو لاحترام حقوق هؤلاء المهاجرين، وتدين ما يتعرضون له من معاملة لاإنسانية. كما وقع أكثر من 40 ناشطاً وأستاذاً جامعياً وحقوقياً بياناً مفتوحاً يدعو الحكومة الإيرانية لوقف عمليات الترحيل، محذرين من أن ذلك لا يتماشى مع القيم الأخلاقية ولا مع الالتزامات الدولية لإيران كطرف موقع على معاهدات حقوق الإنسان.

المهاجرين الأفغان في إيران


في داخل أفغانستان، أثارت هذه الحملة غضباً واسعاً، وخرجت مظاهرات في بعض المدن ضد ما سُمي "الطرد القسري للأفغان من إيران". كما تحدث متحدثون باسم "جبهة الحرية" – أحد أجنحة المعارضة الأفغانية – عن كون ما يجري جريمة بحق مواطنين فرّوا من بطش طالبان، ليجدوا أنفسهم ضحية لسياسات طرد غير مبررة. ودعت منظمات مثل المفوضية العليا لشؤون اللاجئين (UNHCR) والمنظمة الدولية للهجرة (IOM) إلى وقف هذه العمليات فوراً، والعمل بدلًا من ذلك على إرساء آلية طوعية وآمنة لعودة اللاجئين، خاصة أن الظروف في أفغانستان لا تسمح حاليًا بإعادة جماعية.

الحرب الأخيرة بين إيران وإسرائيل، والتي استمرت 12 يوماً وأثارت حالة من الاستنفار الأمني والوطني داخل إيران، جاءت لتزيد الطين بلة. فقد استخدمت الأزمة كذريعة لتسريع وتيرة الترحيل الجماعي للأفغان

تُبرّر الحكومة الإيرانية هذه الإجراءات بوجود "مهاجرين غير قانونيين" يرهقون البنية التحتية، وتؤكد أنها لا تستهدف من يحملون وثائق إقامة قانونية. لكنها، في الوقت ذاته، لم تقدم ضمانات كافية، بل إن هناك دلائل على أن حتى من يحمل "آمايش كارت" أو تراخيص إقامة صالحة قد تعرضوا للاعتقال والترحيل، ما جعل كثيرين يعيشون في رعب يومي، ويتجنبون الخروج من منازلهم أو الذهاب إلى أماكن العمل.

وبينما ينشغل العالم بأزمات أخرى، لم تحظَ هذه الكارثة الإنسانية بالاهتمام الكافي. في الغرب، غابت التغطية الإعلامية، واكتفت منظمات حقوق الإنسان ببعض البيانات الخجولة. وحدها وكالات مثل رويترز وأسوشيتد برس وفاينانشال تايمز نشرت تقارير مفصلة عن الأزمة، ناقلة شهادات مباشرة من اللاجئين الذين رُحّلوا، أو من نشطاء يحاولون توثيق المأساة وسط مخاطر أمنية.

لكن السؤال الأكبر يبقى: ماذا سيحدث لهؤلاء اللاجئين الآن؟ تشير التقديرات إلى أن إيران تنوي طرد ما بين 2.5 إلى 5 ملايين مهاجر بحلول نهاية 2025، وهو رقم كارثي بكل المعايير، خاصة في ظل غياب خطط إنسانية واضحة من المجتمع الدولي. ومع استمرار الأزمة الاقتصادية في إيران، واحتمال تصاعد التوترات الإقليمية، قد يتحول اللاجئون إلى كبش فداء دائم للخطاب السياسي.

إن ما يحدث للأفغان في إيران اليوم ليس مجرد أزمة لجوء، بل امتحان أخلاقي كبير: هل تظل الكرامة الإنسانية مرهونة بالجنسية؟ وهل يمكن لبلدٍ استقبل لاجئين لأربعة عقود أن يطردهم بين ليلة وضحاها؟

أسئلةٌ تتجاوز الجغرافيا، وتمسّ روح الإنسان نفسه.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image