مما لا شك فيه أن الأدب الروائي قد درج على أن يقدم مقاربة مختلفة لما يدور من أحداث على الساحة السياسية، فبينما تهتم الأخبار اليومية والأبحاث الأكاديمية التقليدية بالأرقام والحقائق التي تعبر عن التغير الحادث في موازيين القوى، لكن الأدب قد اعتاد أن يركز على العواطف والمشاعر الجياشة التي لا يمكن التعبير عنها بلغة الأرقام وحدها.
الطبيب والروائي الأميركي الجنسية، الأفغاني الأصل خالد حسيني، كان واحداً من بين الروائيين الأكثر تميزاً؛ من أولئك الذين اعتادوا أن يعبروا عن الأوضاع السياسية الصعبة التي مرت بها بلادهم، من خلال أعمالهم الأدبية رفيعة المستوى.
حسيني كتب ثلاثة من الروايات التي لاقت قدراً كبيراً من الذيوع والانتشار في شتى أنحاء العالم، وهي على الترتيب، "عداء الطائرة الورقية"، و"ألف شمس ساطعة"، و"رددت الجبال الصدى"، والتي تمكن من خلال ثلاثتها من نقل ما دار في أفغانستان في الفترة الواقعة ما بين أواخر النظام الملكي إلى وصول حركة طالبان إلى السلطة، إلى الوجدان الإنساني الجمعي.
الروايات الثلاث حققت نجاحاً مدوياً في الأوساط الغربية، وتمكنت من تصدر قوائم الكتب الأكثر رواجاً لفترات طويلة، إذ بيعت منها ما يزيد عن الأربعين مليون نسخة، وتم ترجمتها إلى العديد من اللغات الحية.
وإذا كانت الصفة الغالبة على الروايات الثلاث، أنها تنتمي جميعاً إلى السمت الروائي الذي يُعرف عادةً بـ"أدب المحنة"، فإن الحسيني قد اختار أن يركز في كل رواية على ملمح معين من ملامح الأزمة الأفغانية، والتي تمحورت حول قضايا التمييز العرقي والمذهبي، وانتهاك حقوق المرأة والطفل.
عداء الطائرة الورقية... عقدة الذنب التي لم تُحل
في روايته الأولى التي نُشرت في 2003، قدم الحسيني واحدة من أكثر القصص المأسوية التي استلهم خطوطها الرئيسة من الواقع الصعب الذي عاشه الأفغان في الفترة الواقعة ما بين أواخر العصر الملكي وحتى صعود حركة طالبان واستيلائها على الحكم.
تحكي الرواية عن "أمير"، الابن الوحيد لواحد من أثرياء كابُل، والذي عُرف بمناهضته للشيوعية. أمير الذي كان يشعر دائماً بالوحدة والاغتراب، ارتبط بصداقة متينة بـ"حسان"، ذلك الفتى ذو الشفة الأرنبية الظاهرة، والذي يعمل أبوه كخادم في منزل الأسرة.
يستعرض الحسيني في الفصول الأولى من روايته، التقارب الواضح بين الصبيين، وكيف أن حسان قد بذل كل ما يملك للدفاع عن أمير ضد الشباب الذين اعتادوا على التحرش به.
المشهد الأهم في الرواية، يتمثل في اللحظة التي ينفرد فيها المتحرشون بحسان، ويطلبون منه أن يسلمهم الطائرة الورقية التي فاز بها أمير في المسابقة، ولكنه لما يرفض ذلك ويصمم على الرفض، يتعرض للاغتصاب أمام عيني أمير، الذي وقف مراقباً ذلك المشهد الأليم من بعيد دون أن تطاوعه قدماه ليدافع عن صديقه المقرب.
عقدة الذنب التي انعقدت هذا اليوم في عقل أمير، ستظل مسيطرة على انفعالاته وتفكيره طوال حياته، وستلاحقه بعد أن يهرب مع أبيه إلى الولايات المتحدة الأمريكية بعد أن تمكن الاتحاد السوفيتي من اجتياح أفغانستان في نهايات 1979م.
المشهد الأهم في الرواية، يتمثل في اللحظة التي ينفرد فيها المتحرشون بحسان، ويطلبون منه أن يسلمهم الطائرة الورقية التي فاز بها أمير في المسابقة، ولكنه لما يرفض ذلك ويصمم على الرفض، يتعرض للاغتصاب أمام عيني أمير
في الجزء الثاني من الرواية، سيعرف أمير أن حسان قد قُتل على يد طالبان، وأن ابنه "سُهراب"، يعيش يتيماً خائفاً في إحدى خرائب كابُل، كما سيعرف أن حسان هو أخوه غير الشقيق، وأنه كان ثمرة علاقة غير شرعية بين والده الراحل وزوجة الخادم.
هنا، تعود عقدة الذنب لتظهر مرة أخرى وتسيطر على مجرى الأحداث، حينما يحاول أمير أن يتطهر منها، ليسافر إلى أفغانستان ويستنقذ سُهراب من أيدي بعض قيادات طالبان، ويهرب عائداً به إلى أمريكا.
في سياق حكايته لوقائع تلك القصة الحزينة، يستعرض حسيني الكثير من ملامح الفوضى السائدة على الساحة الأفغانية، إذ يسلط الضوء على الاختلاف البيّن في التركيبة الاجتماعية- العرقية- المذهبية، وكيف أن هناك تبايناً حاداً بين المهمشين الفقراء الذين ينتمون لعرق "الهزاره"، ممن يعتنقون المذهب الشيعي الاثني عشري من جهة، والطبقة الأرستقراطية الغنية التي تنتمي للعرق "البشتوني"، والذين يعتنقون المذهب السني من جهة أخرى، وفي ظل هذا التباين كان من الطبيعي أن تصبح أفغانستان ميداناً للكثير من مظاهر الاستقطابات الحادة، والتي انتهت بحكم طالبان، وتنكيلهم بكل من خالفهم في أيٍّ من أمور السياسة والدين.
كل ذلك، عبّر عنه حسيني في روايته من خلال مجموعة من الجمل البديعة، والتي استنطق بها شخصيات الرواية عبر صفحاتها التي تقترب من الأربعمائة صفحة.
من أجمل المقاطع التي وردت في الرواية، تلك العبارة التي نطق بها أبو أمير، عندما أراد أن يوضح لابنه الصغير الحد الفاصل بين الحلال والحرام، والتي يظهر فيها منهجه النفعي الذي يتسق مع مركزه المالي ومكانته الاجتماعية كواحد من أفراد الطبقة الأرستقراطية "السرقة هي الخطيئة الوحيدة التي لا يمكن غفرانها. الخطيئة الأكبر بين كل الخطايا. عندما تقتل رجلاً، فأنت تسرق حياة، تسرق حق الزوجة بزوج، تسرق أباً من أولاده. عندما تكذب، تسرق حق شخص في الحقيقة. عندما تغش، تسرق حق العدالة. ليس هناك شرّ كالسرقة".
أيضاً، تظهر العبارة التي حدث بها أمير نفسه، بعد أن شاهد ما وقع لحسان، مكرسةً لعقدة الذنب التي لم تفارقه قط: "كان يعلم أنني رأيت كل شيء في هذا الزقاق وأنني وقفت هناك ولم أفعل شيئاً، كان يعلم أنني قد خنته".
أما النهاية المثالية الحالمة لتلك الرواية المثيرة للشجن، فقد وضعها خالد حسيني في الفصل الأخير، عندما حكى عن اصطحاب أمير لسهراب إلى منزله في الولايات المتحدة، وعن رعايته له، ومساعدته في اللهو بطائرته الورقية، مستعيداً ذكرى صديقه القديم، ومقتبساً منه قولته عندما كان يدافع عنه في كل مرة: "لأجلك ألف مرةٍ ومرة".
ألف شمس ساطعة: معاناة المرأة في زمن الإرهاب
في 2007، نشر خالد حسيني روايته الثانية، والتي عنونها "ألف شمس ساطعة"، وهي الرواية التي حققت نجاحاً كبيراً مماثلاً لنجاح "عداء الطائرة الورقية". في هذه الرواية اختار حسيني أن يسلط الأضواء على معاناة المرأة في أفغانستان، وذلك من خلال نموذجين مختلفين، هما "مريم" و"ليلى".
مريم هي ثمرة علاقة غير شرعية بين خليل الثري الذي يملك قاعة سينما ونانا، وهي واحدة من خادماته. لم تعش مريم يوماً حياة طبيعية، فوالدها أبعدها عن حياته ومنزله، أما أمها التي أصيبت بعقدة الاضطهاد، فقد حاولت أن ترسخ فيها النفور من الرجال، إذ اعتادت أن تقول لها في كل مناسبة: "تعلّمي هذا الآن وتعلّميه جيداً يا ابنتي، كما إبرة البوصلة تشير إلى الشمال. فإن اصبع الرجل يجد دائماً امرأة ليتهمها. تذكري ذلك يا مريم!". وفي الوقت ذاته فقد بثت فيها جزءاً من روحها اليائسة المنكسرة: "ما المعنى من تعليم فتاة مثلك؟ إنه كتلميع منفضة، لن تتعلمي شيئاً ذا قيمة في تلك المدارس، هناك شيء واحد فقط؛ فقط مهارة وحيدة لامرأة مثلي ومثلك نحتاجها في الحياة، ولن يعلموكِ إياها في المدرسة. مهارة واحدة فقط، وهي التحمل".
اعتادت أم مريم أن تقول لها في كل مناسبة: "تعلّمي هذا الآن وتعلّميه جيداً يا ابنتي، كما إبرة البوصلة تشير إلى الشمال. فإن اصبع الرجل يجد دائماً امرأة ليتهمها. تذكري ذلك يا مريم!"
رغم ذلك فإن مريم حاولت أن تتصل بأبيها؛ فذهبت إلى داره الكبيرة في المدينة، لتتفاجأ بأنه يتهرب منها ويتركها لتنام أمام منزله بينما يسترق هو النظر إليها عبر ستائر شرفته، لترجع هي إلى بيت أمها الحقير في نهاية المطاف، وتجد نانا وقد شنقت نفسها. هكذا تعطي الحياة صفعتها الأولى لتلك الصبية المظلومة، وسرعان ما تصفعها مرة أخرى، عندما تدبر زوجات الأب لتزويج مريم من رشيد، وهو كهل كبير السنّ، ليصطحبها إلى كابُل رغم رفضها، كل ذلك أمام عيني الأب المستسلم الذي يجد نفسه عاجزاً عن رفض طلب أزواجه اللائي يطالبنه بالتخلص من مريم.
الحياة تبتسم قليلاً لمريم عندما تحمل طفل رشيد. تقول الشابة البريئة لنفسها: "كم من الممتع التفكير بهذا الجنين، جنينها، جنينهما. كم من الرائع أن تعلم أن حبها له قد قزّم أي شيء شعرت به مطلقاً كإنسانة، أن تعلم أنه لا حاجة بعد الآن للعب بالحصى"، ولكن الأقدار سرعان ما تدير لها ظهر المجن بعد أن يسقط حملها، لتعيش مريم في منزلها كالسجينة التي حُكم عليها بالحبس حتى الموت.
في ظل تلك الأجواء الكئيبة، يظهر النموذج النسائي الثاني في الرواية؛ ليلى، الطفلة التي كانت تعيش في المنزل المقابل لمنزل مريم، والتي ارتبطت بعلاقة حب بواحد من الشباب الذين فقدوا إحدى أرجلهم في واحدة من غارات الحرب المستعرة في كابُل بين أمراء الحرب الذين تفرغوا لقتال بعضهم بعضاً، بعد أن نجحوا في طرد الاتحاد السوفيتي.
ليلى ستفقد أسرتها في الحرب، وسيحتال رشيد العجوز للزواج منها، دون أن يعرف أنها تحمل في رحمها بطفل من حبيبها الذي رحل إلى باكستان. رشيد سيقايض إطعامها وتوفير المأوى لها، بموافقتها على الزواج منه، وستقبل هي في نهاية المطاف، وستعيش مع مريم في بيت رشيد، لتتشاطر المرأتان الرجل ذاته، والوجع ذاته، وليعملا سوياً على التخلص من مصيرهما التعس.
حسيني الذي ركز في روايته الأولى على الأبعاد الاجتماعية والعرقية والمذهبية في أفغانستان، اختار في روايته الثانية أن يناقش قضايا المرأة، والتسلط الذكوري، وغير ذلك من القضايا الجندرية، فرسم بقلمه الرشيق ملامح المأساة التي عاشت فيها المرأة الأفغانية في حقبة الحرب وما بعد وصول طالبان إلى السلطة.
ورددت الجبال الصدى... الفقر عندما يفرق بين الإخوة
في روايته الثالثة التي نُشرت عام 2013، اختار خالد الحسيني أن يحيد قليلاً عن القالب الروائي الذي اعتمده من قبل في روايتيه الأولتين، إذ نجده يقدم قصته الجديدة في صورة تسعة فصول، تتوزع البطولة فيهم على مجموعة من الشخصيات المختلفة، فيما يبدو وكأنه نوع من أنواع القصص القصيرة التي تصلح كل منها لتكون عملاً مستقلاً قائماً بذاته.
"لن تتعلمي سوى مهارة واحدة فقط، وهي التحمل"
في هذه الرواية، سلط حسيني الضوء على الأطفال، لكونهم جزءاً لا يتجزأ من المجتمع الأفغاني الواقع تحت الضغط، فنجده يستعرض قصة "عبد الله"، صاحب السنوات العشر، و"باري" صاحبة السنوات الثلاث، وهما أخان شقيقان، عانى أبوهما من الفقر لفترة طويلة، فعجز عن الإنفاق على أسرته الصغيرة، حتى اضطر في نهاية المطاف لأن يبيع ابنته لزوجين عقيمين من أهل كابُل، وهكذا تتفتت الأسرة البسيطة تحت ضربات مطارق الفقر والجوع والمرض، ليكبر الشقيقان وقد اختارت الأقدار لكل منهما مصيراً مغايراً.
بالتوازي مع ذلك الخط الدرامي الواقعي الحزين، تُفتتح أحداث الرواية بقصة شعبية مُتخيلة، تقدم الرمزية التي ستسير القصة الواقعية على خُطاها، وهي قصة الفلاح "بابا أيوب" الذي يضحي بأحد أبنائه الصغار، فيهبه للغول، لما عجز عن مواجهته، ولكنه يندم بعدها، فيقرر أن يستنقذ ابنه من يد هذا الكائن المخيف، إلا أنه سرعان ما يعدل عن قراره عندما يجد أن ابنه يعيش في سعادة وهناء.
بعيداً عن الأحداث السياسية التي اتخذ منها حسيني خلفية لأحداث روايتيه السابقتين، فإن الحبكة الدرامية في "وردّدت الجبال الصدى"، تتشكل من خلال تسليط الضوء على تطور شخصيتي عبد الله وباري، واللذان سيتعرضان لقدر كبير من المعاناة، ولن تنتهي معانتهما حتى بعد أن يلتقيا مرة أخرى بعد عشرات السنين، ذلك أن عبد الله الذي سينسى كل شيء عن طفولته بسبب إصابته بالزهايمر، سيجد نفسه عاجزاً عن استذكار شقيقته، وهي التي ذرف الكثير من الدموع على فراقها من قبل.
من خلال تلك الخطوط المتداخلة المتشابكة، والتي يتماهى فيها الواقعي بالمُتخيل، وتمتزج فيها عواطف المحبة والود بآلام الفقد والحرمان، ناقش حسيني الأسئلة الأنطولوجية المرتبطة بالحيرة والضياع وفقدان الذات؛ على سبيل المثال، يقول حسيني على لسان أحد أبطال روايته: "أقول لنفسي إنني أبحث عن شيء ما. لكن يوماً بعد يوم، يزداد إحساسي بأنني أهيم على وجهي، في انتظار أن يحدث لي شيء ما، شيءٌ يُغيِّر كل شيء، شيء كانت حياتي بأكملها تقودني إليه". في ظل تلك الحيرة تبدو لغة الأرقام، أكثر نفعاً من لغة المشاعر والأحاسيس، وهو الأمر الذي عبرت عنه إحدى الشخصيات بقولها: "إنها وجدتِ الراحة في ثبات الحقائق الرياضية وديمومتها، في قلَّة الكلام وضباب الغموض، في معرفة أن الأجوبة قد تكون خادعة ووهمية، إلا أنها ممكنة مهما كانت. كلُّ الإجابات موجودة هناك، مجرد رسومات طباشير تنتظرها للحل على سبورة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...