
مع تصاعد الجدل في ألمانيا حول مستقبل الجيش والإنفاق العسكري والتوجّه المتزايد نحو إعادة فرض التجنيد الإجباري، يعود سؤال الهوية والانتماء إلى الواجهة، ولا سيّما لدى المهاجرين/ ات الذين حصلوا/ ن حديثاً على الجنسية الألمانية. يجد هؤلاء أنفسهم/ نً أمام تحدٍ جديد: كيف يمكنهم التوفيق بين تجاربهم/ نّ الشخصية في بلدانهم الأصلية، وبين متطلبات المواطنة والانخراط الكامل في وطنهم الجديد؟
ويتمثل جوهر الجدل في انقسام واضح بين فريقين: الأول يرى أنّ الحرب الروسية الأوكرانية فرضت واقعاً أمنياً جديداً لا يمكن لألمانيا، بحكم موقعها الجغرافي وثقلها السياسي والاقتصادي في أوروبا، تجاهله أو التملّص من تبعاته الدفاعية. أما الفريق الآخر، فيحذّر من أنّ الانخراط المتزايد في سباق التسلّح وإعادة تفعيل الخدمة العسكرية قد يُقوّض عقوداً من الجهود التي بذلتها ألمانيا لإعادة ترميم صورتها الدولية، بعد أن وُصِمت طويلاً بالإرث النازي والتوسّع العسكري، وهو إرث بالكاد تخلّصت من آثاره بصعوبة.
"فكرة التجنيد الإجباري سيئة، وقد غادرتُ سوريا هرباً منها. وإذا كنت أعدّ ألمانيا وطني، فسأدافع عنها بالطريقة التي أراها مناسبةً"؛ بهذه الكلمات يعبّر محمود المجاور، شاب سوري وصل إلى ألمانيا عام 2018 وحصل مؤخراً على جنسيتها، في حديثه إلى رصيف22، عن رفضه الخطاب السياسي المتصاعد في البلاد، والذي يدفع باتجاه إعادة إحياء الخدمة العسكرية الإلزامية والاستثمار المتزايد في التسليح.
تُظهر استطلاعات الرأي المتكررة تزايد مشاعر الإحباط لدى فئة الشباب في ألمانيا، لا سيما منذ اندلاع الحرب الروسية-الأوكرانية، وقد بلغت هذه المشاعر ذروتها خلال حرب الإبادة في غزة
في زمن تتسارع فيه التحوّلات السياسية والأمنية، وتعلو فيه نبرة النقاش حول الهوية والانتماء، يجد آلاف المهاجرين/ ات واللاجئين/ ات المقيمين/ ات في ألمانيا أنفسهم أمام قرارات مصيرية، خاصةً بعد أن بدأت فكرة التجنيد الإجباري تُطرح مجدداً في الخطاب السياسي. فقد صرّح وزير الدفاع الألماني بوريس بيستوريوس، في 14 أيار/ مايو 2025، خلال أول خطاب له أمام البرلمان الجديد، بأنّ الحكومة قد تضطر إلى إعادة العمل بالخدمة الإلزامية إذا لم تتحقق أهداف التجنيد الطوعي، مشيراً إلى نقص حادّ في أعداد المجندين. وأعلن بيستوريوس، عن إطلاق برنامج جديد للتجنيد الطوعي لتعزيز قدرات الجيش، في ظل تزايد التحديات الأمنية في أوروبا.
ويأتي هذا النقاش في سياق أوسع أعاد فيه الغزو الروسي لأوكرانيا تشكيل أولويات السياسة الدفاعية الألمانية، بعدما أعلن المستشار أولاف شولتس، في 2022، ما سمّاه "نقطة تحوّل" في السياسة الأمنية، تمثّلت في تخصيص 100 مليار يورو لتحديث الجيش الألماني. ومع تنامي الضغط من حلف الناتو والحاجة إلى رفع عدد الجنود إلى أكثر من 200 ألف، عاد موضوع التجنيد الإجباري يُطرح بقوة، خاصةً مع عجز برامج التطوّع عن تلبية الاحتياجات العسكرية. في هذا السياق، يبرز السؤال التالي: هل ستشمل هذه الخطط حاملي وحاملات الجنسية الألمانية من أصول مهاجرة؟ وهل ترى هذه الفئة نفسها مستعدّةً للدفاع عن وطن جديد أو أنّ الانتماء الوطني يظلّ، في حالات كثيرة، في منطقة رمادية وخاضعاً باستمرار لإعادة التفاوض حول تعريفه؟
عسكرة الشباب
توجّه ألمانيا نحو التجنيد الإجباري يسلّط الضوء على واقع المعادلة الديمغرافية؛ فبحسب بيانات مكتب الإحصاء الفيدرالي الألماني (Destatis)، بلغ عدد الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و24 عاماً في ألمانيا نحو 8.3 ملايين شخص مع نهاية عام 2021، أي ما يعادل 10% من إجمالي عدد السكان.
وتشير بيانات عام 2023، إلى وجود تفاوت طفيف في التوزيع حسب الجنس داخل الفئة العمرية من 18 إلى 24 عاماً، حيث سُجّل نحو 3.2 مليون شاب (ذكور)، مقابل 2.9 ملايين شابّة (إناث)، ما يدلّ على وجود تفوّق عددي لصالح الذكور.
أما من حيث التصورات والمواقف السياسية، فقد أظهرت دراسة بعنوان "الشباب في ألمانيا 2025"، أنّ هناك تراجعاً ملحوظاً في ثقة الشباب بالنظام السياسي. واستندت الدراسة إلى استطلاع رأي شمل 2،027 شابّاً وشابّة تتراوح أعمارهم بين 14 و29 عاماً، بالإضافة إلى 4،007 مشاركين آخرين من الفئات العمرية بين 30 و69 عاماً، ما أتاح مقارنة الآراء والتوجهات عبر الأجيال.
وبيّنت النتائج أنّ شعور الإحباط السياسي لدى الشباب بدأ بالتزايد مع اندلاع الحرب الروسية-الأوكرانية، وبلغ ذروته خلال حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة، حيث أعرب 62% من المشاركين الشباب عن قلقهم من تصاعد النزاعات في أوروبا والشرق الأوسط.
"أنا ضد السلاح والتسلح، وأرى أنّ حلّ الأزمات والحروب يجب أن يكون بطريقة سلمية"؛ هكذا يبدأ الناشط السياسي في الحزب الاشتراكي الديمقراطي (SPD)، سامر فهد، كلامه في حديث إلى رصيف22. ويضيف: "لا تستطيع إجبار أي أحد على الالتحاق بالخدمة وهو رافض لها. أنا شخصياً أرفض التجنيد الإجباري إذا كان هناك إلزام عليه، وتالياً يجب على السياسيين إيجاد حل وسط يخدم الدولة والمواطنين". ويكمل: "أرى أنّ الخدمة المدنية في الجيش فكرة سليمة تخدم الدولة والمواطن. على سبيل المثال، أنا أعمل في المجال المالي ولا مانع لدي من العمل ضمن الجيش الألماني في هذا الاختصاص ضمن الإدارة وبشكل مدني لمدة ستة أشهر أو سنة، وأراه حلاّ بديلاً لمن يرفضون الخدمة الإلزامية".
الجيش الإلكتروني
لكن ألمانيا في إطار توجهها نحو الاستثمار في العسكرة، تتجه إلى إعادة تعريف الخدمة العسكرية بما تتطلبه مفردات الحروب الحديثة التي تلعب فيها التكنولوجيا الدور الأكبر. ووفقاً لهذا المفهوم، اقترح رئيس وزراء بافاريا، ماركوس زودر، مشروع قانون يقضي بزيادة الخبرات في الجيش الألماني وزيادة الدقة التكنولوجية من خلال صنع قبة حديدة ووحدة خاصة من طائرات الدرون، فيما فرض مشروعه الخدمة الإلزامية للشباب الذكور وترك حرية المشاركة للنساء.
وأضاف أنّ الاعتماد فقط على آليات التطوع "لم يعد كافياً"، مطالباً بإعادة النظر جدّياً في الخدمة الإلزامية بصيغتها العسكرية والمدنية، بما يضمن الجاهزية الدفاعية والشعور بالمسؤولية الجماعية تجاه الوطن.
ويتقاطع مع هذا الرأي، ما كتبه النائب الألماني توبياس باخرله، في مقال رأي نشره في صحيفة Tagesspiegel، أوضح فيه أنه "في ضوء تصاعد التهديدات الرقمية وتلاشي الحدود بين الأمن الداخلي والخارجي، باتت إعادة تعريف مفهوم الدفاع عن الوطن أمراً ضرورياً".
تعالت الأصوات المطالبة بإعادة فرض الخدمة العسكرية، على أن تكون إلزامية للذكور واختيارية للنساء
وبحسب وجهة نظر باخرله، فإنّ الهجمات السيبرانية التي تُشنّ من الخارج وتصيب البنية التحتية الوطنية، مثل تعطيل آلاف محطات الطاقة، تكشف عن هشاشة الأمن الرقمي، وتضع تحدياً جديداً أمام من يُطلب منهم أداء الخدمة العسكرية أو الدفاع عن "الوطن"، وهذا لا يرتبط فقط بالجغرافيا، بل أيضاً بالبيانات والبنية التحتية الرقمية.
ويضيف باخرله، أنّ التهديدات السيبرانية تفرض على ألمانيا زيادة عدد أفراد الجيش والتسليح، خاصةً بعد تطور التكنولوجيا العسكرية وإدخال الذكاء الاصطناعي إلى المجال العسكري، ولكن الخطورة الداخلية لا تقلّ عن الخارجية، قاصداً بذلك تنامي شعبية اليمين لدى فئة الشباب.
وفي سياق متصل، رأى وزير الداخلية الألماني ألكسندر دوبريندت، أنّ إعادة التجنيد الإجباري ستساعد في كبح التطرّف الذي بدأ يتنامى في صفوف فئة الشباب الألماني، فبعد تقديمه تقريراً سنوياً عن الجرائم ذات الدوافع الأيديولوجية السياسية في شهر أيار/ مايو الماضي، أوضح أنّ "48% من الجرائم السياسية التي تهدد الديمقراطية الموجودة في ألمانيا هي بسبب المتطرفين اليمينيين ويجب على الدولة أن تشجع على الخدمة المدنية ضمن الجيش لتكسب ثقة المواطنين".
يدعم تصريح وزير الداخلية الألمانية، ما أشارت إليه استطلاعات رأي حديثة رصدت تصاعداً ملحوظاً لدى الشباب في تأييد الأحزاب اليمينية، وعلى رأسها حزب "البديل من أجل ألمانيا" (AfD). فبحسب دراسة "الشباب في ألمانيا 2024" (Trendstudie Jugend in Deutschland)، أصبح حزب البديل الأكثر شعبيةً لدى الفئة العمرية بين 14 و29 عاماً، متقدّماً على الأحزاب التقليدية.
ووافق هذه النتائج استطلاع أجرته مؤسسة YouGov وأفاد بأنّ 18% من الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و29 عاماً يفضّلون حزب "البديل من أجل ألمانيا" (AfD)، وهي نسبة تعادل تأييدهم لحزب الخضر (Die Grünen). وتعكس هذه الأرقام تحوّلاً في المزاج السياسي لدى شريحة عمرية لطالما ارتبطت بالتوجهات التقدمية، ما يثير تساؤلات حول دوافع هذا التحوّل وتبعاته على مستقبل الديمقراطية الألمانية.
وصمة تاريخية
ارتبط الجيش الألماني تاريخياً بالحروب الكبرى التي رسمت ملامح أوروبا الحديثة، فقد كان الإنفاق العسكري الألماني الفتيل الذي أشعل الحربين العالميتين الأولى والثانية. هذا الإرث العسكري، بما فيه من قوة وتداعيات، ظلّ حاضراً في الذاكرة الجماعية الأوروبية، وما زالت ألمانيا حتى اليوم تدفع ثمنه من خلال سياسات دفاعية حذرة وتوجّه سلمي نسبياً في العقود الأخيرة.
غير أنّ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية عام 2022، مثّل نقطة تحوّل، إذ وجدت ألمانيا نفسها مضطرةً إلى إعادة التفكير في دورها العسكري في أوروبا، وسط تصاعد المخاطر الجيو-سياسية وضغوط الشركاء في حلف الناتو. فالحرب الدائرة على أطراف القارة دفعت برلين إلى زيادة إنفاقها الدفاعي، وتعزيز قدرات جيشها، بما في ذلك الاستثمار في التكنولوجيا العسكرية مثل الدرون والقبة الحديدية.
تسعى ألمانيا إلى تحقيق توازن جديد يمنحها ثقلاً في القارة الأوروبية، ويعزز دفاعاتها دون أن يعيد إنتاج ماضٍ تسبّب في حربين عالميتين
تبدو ألمانيا اليوم أمام لحظة مراجعة، تبحث خلالها عن توازن دقيق بين ماضيها العسكري الحافل، ومسؤولياتها الراهنة كقوة أوروبية مطالبة بحماية الديمقراطية والأمن في محيط يزداد اضطراباً.
ووفق ما ذكره تقرير لرويترز، استجابت ألمانيا لطلب حلف الناتو المتمثل في تخصيص 2% من الناتج المحلي الإجمالي للإنفاق الدفاعي، فيما تخطط الحكومة الحالية لرفع هذه النسبة إلى 3.5% في السنوات القادمة.
كما يشير موقع الحكومة الاتحادية الألمانية إلى التزام برلين بتقديم مساعدات عسكرية مستقبلية بقيمة 28 مليار يورو، منها 7.1 مليار يورو خُصصت لبناء القدرات الأمنية ودعم أوكرانيا، بما يشمل مساهمات في "صندوق السلام" التابع للاتحاد الأوروبي.
لكن هذه التوجهات لا تلقى قبولاً لدى فئة المواطنين/ ات الألمان من أصول مهاجرة، إذ تقول راما الغزولي، في حديثها إلى رصيف22: "من الفئة التي أنتمي إليها كمهاجرة وعربية، لا أرى أحداً راضياً عن سياسة الإنفاق العسكرية الألمانية. فوجود الجيش الألماني خارج البلاد لا يحقق السلام. بل إن وجوده داخل ألمانيا للدفاع عنها هو ما يعزز السلام برأيي".
في نهاية المطاف، عمّق التوتر العالمي الإحساس بعدم الأمان، وزاد معه الإقبال على الحصول على الجنسية الألمانية، بينما ظل الانتماء مفهوماً معقداً يتأرجح بين الهوية الأصلية والانخراط في الوطن الجديد. فهل تصبح الخدمة العسكرية معياراً جديداً لقياس الولاء والانتماء؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.