هل يحق للمغتربين اللبنانيين المشاركة في الانتخابات اللبنانية القادمة ليساهموا في اختيار ممثلي الشعب اللبناني تماماً كما يفعل غيرهم من المقيمين في الوطن؟ قد تبدو الإجابة عن هذا السؤال بديهيةً، ولكنها ليست كذلك في لبنان.
مسألة اقتراع المغتربين في أماكن إقامتهم ليست قديمةً في لبنان، فقد لُحظت لأول مرة عام 2008، عندما نصّ قانون الانتخاب رقم 25/2008 على حق كل لبناني غير مقيم على الأراضي اللبنانية بالاقتراع في السفارات والقنصليات اللبنانية حول العالم، على أن تبدأ هذه الممارسة "في الانتخابات النيابية العامة التي تلي انتخابات العام 2009".
لم تحصل انتخابات العام 2009، فقد مدّد مجلس النواب لنفسه ثلاث مرات، حتى العام 2018، والانتخابات التي أجريت في ذاك العام لم تجرِ على أساس القانون المذكور بل على أساس قانون جديد يحمل الرقم 44/2017، ينظّم اقتراع المغتربين حيث يتواجدون، لأول مرة في تاريخ لبنان.
هل يحق للمغتربين اللبنانيين المشاركة في الانتخابات اللبنانية القادمة ليساهموا في اختيار ممثلي الشعب اللبناني، تماماً كما يفعل غيرهم من المقيمين في الوطن؟ قد تبدو الإجابة عن هذا السؤال بديهيةً، ولكنها ليست كذلك في لبنان.
نصّ القانون الجديد على اقتراع المغتربين لنواب في الدوائر التي يتحدرون منها في لبنان، حالهم كحال المقيمين في لبنان، على أن يتغير الوضع في الانتخابات اللاحقة، أي في العام 2022، فتُخصص لهم ستة مقاعد موزّعة بالتساوي بين المسيحيين والمسلمين، وبالتساوي بين القارات الست، ويقترعون على أساس النظام النسبي ودائرة انتخابية واحدة، وبذلك يُعزَلون عن مسار الانتخابات في الدوائر اللبنانية، ويُحصر تأثيرهم في دائرتهم ذات المقاعد الستة.
في انتخابات 2018، سجّل نحو 90 ألف لبناني مغترب أسماءهم للانتخاب من الخارج، واقترع نحو 56% منهم، واختار 94% من هؤلاء مرشحين ينتمون إلى الأحزاب اللبنانية الطائفية، ولم يحظَ المعارضون إلا بـ6% من أصواتهم.
لم تُثِر هذه الأرقام اهتمام المراقبين كثيراً حينذاك، على أساس أنّ حال اللبنانيين خارج لبنان كحالهم داخل لبنان من حيث الولاءات السياسية المتمحورة حول الطائفة.
وعليه، عندما أقرّ مجلس النواب قبيل انتخابات 2022 قانوناً يحمل الرقم 8/2021 ويقضي بتعديل بعض مواد قانون الانتخاب، وكان من ضمن ما عدّله تأجيل قصة مقاعد المغتربين الستة إلى انتخابات 2026، مرّ الأمر بنوع من السلاسة وبقليل من الضجيج.
يخشى الثنائي الشيعي والتيار الوطني الحر أصوات اللبنانيين الخارجين عن أدوات نفوذهم المعتادة، وعلى رأسها الزبائنية وتهديد الناخبين بلقمة عيشهم، والتهديد والتخويف، والضغط الاجتماعي، وهي الأدوات التقليدية لعمل الأحزاب السياسية الطائفية في لبنان.
ولكن اليوم، ونحن على أعتاب الانتخابات القادمة المرتقبة، يثور جدل كبير حول الأمر نفسه وينقسم النواب بين مؤيدين ومعارضين، في أجواء غير ودّية. فما الذي تغيّر؟
ما تغيّر هو ما أسفرت عنه نتائج انتخابات 2022. بعد أن كان انتخاب المغتربين بلا أي تأثير على النتائج في انتخابات 2018، انقلب الوضع في الانتخابات التالية وأحدث المغتربون تأثيراً مهماً في نتائجها. بدايةً، سجّل نحو 225 ألف لبناني مغترب أسماءهم لممارسة حقهم في الانتخاب، وصوّت نحو 142 ألفاً منهم، أي نحو ثلاثة أضعاف أصوات المغتربين عام 2018، وكان لهم دور بارز في إيصال عدد من النواب تقدّره دراسات بسبعة، فيما تقدّره أخرى بـ12، معظمهم من المرشحين المحسوبين على قوى التغيير.
مع هذا المستجد، ومع وجود نحو مليون لبناني مغترب لهم حق الانتخاب، هنالك احتمال واقعي بأن يسجّل نحو 300 ألف منهم، ويقترع نحو 200 ألف، ويخشى البعض من أن يحمل ذلك تأثيراً أكبر من ذلك الذي جرى في انتخابات 2022.
على رأس الفريق الذي يريد الحدّ من تأثير أصوات المغتربين على عموم نتائج الانتخابات، عبر إبعادهم عن التصويت في الدوائر التي يتحدرون منها وعددها 15، و"رميهم" في دائرة سيكون رقمها 16، يقف حزب الله وحركة أمل والتيار الوطني الحر. فلماذا هؤلاء وليس غيرهم من الأحزاب الطائفية؟
في دراسة للباحثة جورجيا داغر، نشرتها "مبادرة الإصلاح العربي" بالتعاون مع "مبادرة سياسات الغد"، بعنوان "كيف صوّت المغتربون اللبنانيون في الانتخابات البرلمانية لعام 2022"، يظهر أنّ اللبنانيين في الخارج أعطوا نسبةً أعلى من أصواتهم التفضيلية، مقارنةً باللبنانيين في الداخل، لحزب القوات اللبنانية (20% مقابل 10%)، والمرشحين المعارضين للسلطة (34% مقابل 11%). وكانت نسبة دعمهم للتيار الوطني الحر والحزب التقدمي الاشتراكي متماثلةً إلى حد ما، بينما أعطوا أصواتاً أقل بكثير لمرشحي حزب الله (8% مقابل 19%)، وحركة أمل (5% مقابل 11%).
وبحسب الدراسة نفسها، "حقق المرشحون المعارضون انتصاراً كبيراً في الخارج، فقد حصلوا على 34% من أصوات الشتات مقارنةً بنسبة بلغت 6% فقط في عام 2018. وفي الوقت ذاته، ارتفع الدعم الذي حصلوا عليه في الداخل أيضاً، وإنْ لم يكن الفرق كبيراً (3% في عام 2018 مقابل 11% في عام 2022)".
يخشى الثنائي الشيعي والتيار الوطني الحر أصوات اللبنانيين الخارجين عن أدوات نفوذهم المعتادة، وعلى رأسها الزبائنية وتهديد الناخبين بلقمة عيشهم، والتهديد والتخويف، والضغط الاجتماعي، وهي الأدوات التقليدية لعمل الأحزاب السياسية الطائفية في لبنان.
حزب الله الذي مُني قبل أشهر بهزيمة عسكرية قاسية بدا واضحاً أنه يريد التعويض بمشهدية التفاف الغالبية الساحقة من الشيعة حوله (وحول حركة أمل الملتصقة به)، ليقوى بهم في صراعه مع باقي القوى السياسية اللبنانية، وقد تحقق له ذلك إلى حدّ بعيد في الانتخابات البلدية للعام 2025، ويخشى أنّ مرور الزمن على هزيمته وتفاقم أوضاع الناس المعيشية بسبب ما تكبّدوه من خسائر خلال الحرب الأخيرة قد يساهمان في سحب هذه المشهدية منه في انتخابات 2026 النيابية.
حسابات كثيرة تجريها القوى السياسية وتهدد بخطر عزل المغتربين اللبنانيين عن وطنهم، وهي حسابات تنطلق في طرف منها من نشوة حققتها لفريق سياسي نتائج انتخابات 2022، وفي طرفها الآخر من خوف ولّدته هذه النتائج نفسها لدى فريق سياسي آخر.
عين هذا الحزب تقع بشكل أساسي على دائرتين تمثلان حصنين للشيعية السياسية، أولاهما دائرة الجنوب الثالثة حيث كان عدد المغتربين الذين سجّلوا أسماءهم للانتخاب أكثر من حاصل انتخابي (21،972 ناخباً مغترباً والحاصل 21،386)، ودائرة الجنوب الثانية حيث يقترب عدد المغتربين الناخبين من حاصل انتخابي (18،675 ناخباً مغترباً والحاصل 23،603)، وذلك لأنّ تفضيلات المغتربين تميل إلى قوى التغيير. ففي "الجنوب الثالثة"، حصلت لائحة "معاً نحو التغيير" على 12% من أصوات المقترعين في الداخل، و42% في الخارج. وفي "الجنوب الثانية"، حققت اللائحة التي تحمل الاسم نفسه 6% في الداخل و17% في الخارج.
في المقلب الآخر، يبدو أنّ حزب القوات اللبنانية لا يزال منتشياً من نتائج الانتخابات الماضية، خاصةً ما حققه في أوساط المغتربين، حيث حصد منفرداً أكبر عدد من أصواتهم. أما الحزب التقدمي الاشتراكي، فهو غير مستفيد ولا متضرر من كل الاحتمالات، ويفضّل تأييد الخيار الذي يلحق خسائر بمَن يراهم خصومه في السياسة وعلى رأسهم التيار الوطني الحر.
حسابات كثيرة تجريها القوى السياسية وتهدد بخطر عزل المغتربين اللبنانيين عن وطنهم، وهي حسابات تنطلق في طرف منها من نشوة حققتها لفريق سياسي نتائج انتخابات 2022، وفي طرفها الآخر من خوف ولّدته هذه النتائج نفسها لدى فريق سياسي آخر.
الكل يحب اللعب على ما يعدّه "مضموناً"، لكن نتائج اقتراع المغتربين في الانتخابات النيابية القادمة قد تفاجئ الجميع. فإذا كانت انتخابات 2022 قد حلّت عليها روح انتفاضة 2019، فإنّ انتخابات 2026 قد تحلّ عليها لعنة الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان وما خلّفته من انقسام طائفي عامودي سيعيد المغتربين كما غيرهم من اللبنانيين إلى قواعدهم الطائفية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.