من برلين... مظاهرة أو رسالة حب من أجل فلسطين 

من برلين... مظاهرة أو رسالة حب من أجل فلسطين 

مدونة

الثلاثاء 8 يوليو 20257 دقائق للقراءة

يد نحيلة لامرأة عجوز تمتد من شباك ما في بناء طابقي في أحد شوارع برلين. اليد تعود لامرأة عجوز يبدو أنّها لا تستطيع الوقوف. تمتد اليد رافعةً إشارة النصر، ومن ثم تلّوح للمتظاهرين والمتظاهرات الذين يرتفع صوتهم تحية للعجوز.

بعد أمتار عديدة يقف رجل وامرأة على الشرفة ويلوّحان بعلم فلسطين فترتفع أصوات المتظاهرين والمتظاهرات مرة أخرى. عشرات الآلاف من الأشخاص يتظاهرون في شوارع برلين في هذا اليوم (الحادي والعشرين من شهر حزيران/ يونيو 2025)، ليقولوا للشعب الفلسطيني في غزة نحن معكم، ولينددوا بالإبادة الإسرائيلية، وبالدعم الألماني الحكومي لهذه الإبادة. عشرات الآلاف (تتراوح التقديرات بين 40 و70 ألفاً) يهتفون بصوت عال: تحيا فلسطين/ واحد: نحن الشعب، اثنان: لن نسكت، ثلاثة: أوقفوا القصف الآن/يحيا التضامن الدولي/حرّة حرّة فلسطين.

منذ عشرين شهراً لم تتوقف المظاهرات الداعمة لفلسطين أسبوعاً واحداً في برلين، رغم كلّ القمع الممارس من قبل قوات الشرطة، ورغم كل الدعم الحكومي غير المحدود لإسرائيل، ورغم الإلغاء المُمارس ضد الداعمين لفلسطين.

حكاية الببغاء

تقول إحدى حكايات جاتاكا الهندية التراثية، إنّ ببغاء صغيرة كانت تعيش في غابة جميلة. ذات يوم تسبّبت عاصفة رعدية في نشوب حريق فحذّرت الحيوانات الأخرى لتهرب إلى النهر. حين وصلت الببغاء إلى النهر لاحظت أنّ الحريق قد حاصر أصدقاءها وعائلتها، فجاءتها فكرة أن تغطس في ماء النهر، وتعود وترفرف بأجنحتها فوق اللهيب عساها تطفئه. فعلت هذا مرّات عدّة وفي كلّ مرة كانت تتساقط بضع قطرات من الماء فوق اللظى. 

كانت الآلهة تراقب الببغاء وتضحك منها ومن عجزها، لكن أحد الآلهة قرّر الحديث مع الببغاء، فتحوّل إلى نسر ذهبي وطار للقائها. طلب منها الابتعاد عن النار: أنتِ طائر صغير لا تستطيعين إطفاء كلّ هذه النيران! فأجابته الببغاء بأنّها لا تنتظر إذناً من أحد كي تنقذ أصدقاءها وعائلتها العالقين بين النيران. هي تفعل كل ما تستطيع كي تنقذهم، وبعض قطرات الماء هي ما تستطيع فعله.

تعجّب النسر الذهبي من شجاعتها، وغضب من الآلهة غير العابئة بالحريق، فذرف دموعاً تحوّلت إلى أمطارٍ أطفأت النيران. وبدلاً عن ريشها المحترق، نبت للببغاء ريش ملوّن، فصارت أجمل واحتفى بها كلّ أهل الغابة لشجاعتها وإصرارها على إنقاذهم.

تقول لنا هذه القصة إنّنا، ومهما صغر حجمنا أو قلّ تأثيرنا نستطيع تغيير العالم بشجاعتنا وإصرارنا؛ كلّ في مكانه، وكلّ في بيئته ومجاله. وأقول لنفسي: يا ليتني ببغاء يحاول إطفاء النار التي تُحرق غزة.

مسلسل إبادات مستمر

ربّما لا معنى للكلام والناس تموت في غزة دون توقف. إبادة تشبه ما سمعناه وقرأناه عن إبادات الشعوب الأصلية في القارة الأمريكية أو إبادات شعوب القوقاز وغيرها من الإبادات التي اعتقدنا أنّنا انتهينا منها مع تقدّم العلم. لكن يبدو أنّ هذا هو دين الإنسان، ويبدو أنّ القتل والظلم والقهر هي الأسس التي قامت عليها الحضارة.

وربما لم يعرف العالم الحديث إبادة تشبه إبادة إسرائيل للفلسطينيين؛ إبادة تذاع على الهواء مباشرة، إبادة شاملة لكل أشكال الحياة، في الوقت الذي لا يفعل قادة العالم شيئاً لإيقافها. لكن شعوب العالم تصرخ وتصيح وتطالب بالعدالة والحرية والكرامة للفلسطينيين. ناشطون عبروا البحر في محاولة لفك الحصار، آلاف الناس تنظموا في مبادرات لدعم الفلسطينيين في مختلف المجالات، ملايين من البشر خرجوا في شوارع برلين ولاهاي ولندن وباريس وبروكسل ونابولي ونيويورك وغيرها من مدن العالم (باستثناء الدول العربية التي يمنع قادتُها شعوبَها من الانتصار لفلسطين، إلا بالكلام).

شخصياً، أشعر بعجز وقهر وعدم قدرة على الفرح منذ زمن طويل؛ مذ بدأت المجازر في سوريا، لكن غزة شيء آخر. والله أعجز عن وصف الفظاعات التي تحدث فيها. ربّما... ربّما لن أستطيع أن أشعر بسعادة حقيقية مرّة أخرى في حياتي، مهما امتدت. 

لا يعرف المرء ماذا يقول سوى أن يتأسف من أهل غزة، لأنّنا نعيش في مكان حقير غير عادل، وأن يتمنى أن يغير شيئاً في هذا العالم، مهما كان صغيراً، مثل أن تأخذ الحياة من عمري قسطاً وتعطيه لأطفال غزة.

نحبّ فلسطين لأنّنا نحبّ أهلها، هي ليست قضية أرض فقط؛ فلسطين هي قضية بشر عاشوا ويعيشون على هذا الأرض. لا معنى لأن نحبّ فلسطين دون أن نحبّ أهلها.

مظاهراتنا... صوتنا الوحيد

لكن ماذا نفعل؟ هل نستسلم؟ 

لا. سنكتب ونحكي ونرفع صوتنا عالياً لنقول إنّ فلسطين في قلبنا. وإن غزة تعيش معنا أينما ذهبنا. سنقول إنّ الصمت ليس خياراً حين نرى إبادة تجري أمام عيوننا.

منذ عشرين شهراً لم تتوقف المظاهرات الداعمة لفلسطين أسبوعاً واحداً في برلين، رغم كلّ القمع الممارس من قبل قوات الشرطة، ورغم كل الدعم الحكومي غير المحدود لإسرائيل، ورغم الإلغاء المُمارس ضد الداعمين لفلسطين. في حرارة حارقة مثل يوم المظاهرة الأخيرة أو في أجواء برد قارس لا يُحتمل، يخرج الآلاف إلى الشوارع ليقولوا إن الشعوب لا تموت، وإن فلسطين حيّة في القلوب مهما كانت بروباغندا الإعلام الألماني قوية.

نخرج في مظاهرات لنرفع صوتنا بالحق عالياً، لنقول للفلسطينيين لستم وحدكم، لنقول للحكّام والسياسيين إنّهم منافقون وإن صوت الشعوب طاغ، ولنقول لأنفسنا إننا نقف على الجانب الصحيح من التاريخ، ولنعلّم أولادنا أنّ الحق أحقّ بأن يتّبع مهما كانت النتائج.

نخرج في مظاهرات ونعرف أنّنا لن نوقف المجزرة، لكنّنا نفعل ما بوسعنا، من أجل مستقبل لا إبادات ولا مجازر فيه. مثلنا مثل الببغاء الصغير.

نحبّ فلسطين... نحبّ أهلها

نحبّ فلسطين لأنّنا نحبّ أهلها، هي ليست قضية أرض فقط؛ فلسطين هي قضية بشر عاشوا ويعيشون على هذا الأرض. لا معنى لأن نحبّ فلسطين دون أن نحبّ أهلها. وقضية حريّة وكرامة وتحرير فلسطين هي قضية أساسية، فالعالم سيبقى ناقصاً ما لم يحصل فيه الفلسطينيون والفلسطينيات على حقوقهم. أن يكون المرء مؤمناً بقضايا الحريّة والعدالة والكرامة يعني أنّه يؤمن بأحقية حريّة وعدالة وكرامة الفلسطينيين/ات. 

ما أقصده هو أن حب فلسطين لا يتفق مع اضطهاد الفلسطينيين، مثلما فعل نظام الأسد سابقاً، ومثلما تفعل أنظمة عربية أخرى، فالإيمان بالقضية الفلسطينيّة مرتبط بالإيمان بحريّة السوريين والمصريين واللبنانيين والعراقيين والإيرانيين واليمنيين، فلا يُمكن أن يعبر طريق القدس فوق أجساد الأطفال السوريين مثلاً.

النضال من أجل فلسطين يجب أن يسبقه حب للفلسطينيين بصفتهم الفردية والشخصيّة. ما أقصده هو أن حب فلسطين لا يتفق مع اضطهاد الفلسطينيين، مثلما فعل نظام الأسد سابقاً، ومثلما تفعل أنظمة عربية أخرى، فالإيمان بالقضية الفلسطينيّة مرتبط بالإيمان بحريّة السوريين والمصريين واللبنانيين والعراقيين والإيرانيين واليمنيين، فلا يُمكن أن يعبر طريق القدس فوق أجساد الأطفال السوريين مثلاً.

لكن أيضاً، النضال من أجل فلسطين هو نضال في الحياة اليومية، نضال في تفاصيل كلّ يوم. أن يؤمن المرء بحقوق الفلسطينيين والفلسطينيات، يجب أن يترافق مع إيمان بحقوق وحريّات البشر في كلّ مكان وزمان، هذا نضال يومي، فلا معنى أن ينادي المرء بالحق الفلسطيني وهو فاسد أو متحرش أو شبيح. 

قضية فلسطين أكبر من قضية جغرافية، هي ملايين الحكايات المستمرة، هي قصص مخيمات اللجوء، هي قصص الإبادات المستمرة في حق هذا الشعب، هي قصص بشر حملوها معهم في قلوبهم أينما رحلوا. قضية فلسطين هي قضية بحجم الكوكب. وإنّا نحبّ فلسطين.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image