عازف الكمان الذي أنقذ عبد الحليم حافظ… حكايات عادل صموئيل

عازف الكمان الذي أنقذ عبد الحليم حافظ… حكايات عادل صموئيل

ثقافة نحن والتنوّع

الأربعاء 2 يوليو 202517 دقيقة للقراءة

ونحن نستمع إلى أغنية "من غير ليه" لموسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب، نشعر بجهد كبير في صناعة الأغنية من الناحية الموسيقية، قد يجعلنا مدينين بالشكر لعبد الوهاب، ملحن ومغني الأغنية. ولو كنا متعمقين أكثر سنشكر الشاعر الذي ألف الكلمات، مرسي جميل عزيز، ولو تعمقنا أكثر فسنشكر أحمد فؤاد حسن موزع اللحن، ولو تعمقنا أكثر فسنشكر الفرقة الماسية التي عزفت اللحن.

ولكن هناك ما هو أعمق من ذلك، هناك شخص في الفرقة الماسية كان بمثابة دينامو العمل؛ عادل صموئيل، عازف الكمان بالفرقة، ومدون النوت الموسيقية للأغنية، هو الذي ترجم إبداع عبد الوهاب في اللحن وإبداع أحمد فؤاد حسن في التوزيع، إلى حروف وعلامات موسيقية وتفاصيل دقيقة بدونها لا يكتمل العمل ولا تستطيع الفرقة أداء العمل.

عادل صموئيل هو من القلة الباقية من عازفي الفرقة الماسية، التي هناك ما يشبه الإجماع على أنها أهم فرقة موسيقية في مصر والعالم العربي منذ النصف الأول من خمسينيات القرن العشرين، وحتى النصف الأول من التسعينيات.

وهو من القلة الباقية التي عزفت مع كبار نجوم الغناء العربي، وعلى رأسهم أم كلثوم وعبد الحليم حافظ وفريد الأطرش ومحمد عبد الوهاب.

تدرج عادل داخل الفرقة من مجرد عازف كمان بالفرقة الماسية إلى مدون للنوتات بها، ثم نائباً لمدير الفرقة للشؤون الإدارية، وهو من أهم المدونين الموسيقيين في العالم العربي، وله حتى كتابة هذه السطور نحو تسعة آلاف نوتة موسيقية على منتدى سماعي الشهير، شاهدها واستفاد منها أربعة ملايين و470 ألفا و201 عازف وباحث وناقد ومهتم بالموسيقى.

هو العازف الذي انضم للفرقة الماسية وعمره 19 عاماً، ثم فرقة أم كلثوم وهو في بداية العشرينات من عمره، ويعيش الآن في بيته بمنطقة عين شمس، شرقي القاهرة، لا يحب الظهور في الفضائيات، ويرفض أي استضافة، لأنه رافض لما وصفه بتفاهة البرامج التي تعرض عليه الاستضافة للحديث في أمور لا علاقة لها بالفن.

ولكنه ناشط بقوة بين مجتمعه الخاص، مجتمع المنديات الموسيقية على الإنترنت ومواقع السوشيال ميديا، ينهمك في تدوين نوتات الأغاني، ويشاركها مع محبيه وتلاميذه الذين يعملهم كيف يدونون وكيف يعزفون، ويعطيهم خلاصة علمه.

عادل صموئيل هو من القلة الباقية من عازفي الفرقة الماسية، التي هناك ما يشبه الإجماع على أنها أهم فرقة موسيقية في مصر والعالم العربي منذ النصف الأول من خمسينيات القرن العشرين، وحتى النصف الأول من التسعينيات

استطاع رصيف22 أن يتحدث إلى عادل صموئيل، ويسأله عن تفاصيل كثيرة تتعلق بالفرقة الماسية، وبالفنانين الذين رافقهم من نجوم الصف الأول في العالم العربي، بالإضافة إلى فرقة أم كلثوم التي عمل معها ليرافق سيدة الغناء العربي.

ومن خلال هذا الحوار، بجانب مصادر أخرى، استطعنا أن نصل لمادة تحكي حكاية الفنان الذي كان ينقذ الماسية والفنانين الذين رافقتهم أحياناً، كما سنوضح، بعد أن اكتشفه قائد الفرقة أحمد فؤاد حسن، وضمه للفرقة الماسية وهو طالب بكلية التربية الموسيقية بالقاهرة عام 1969، حسبما حكى لرصيف22.

موهبة في المهد... الرحلة من الطفولة إلى الماسية

ولد عادل صموئيل في 5 آب/أغسطس عام 1950، لأب من طبقة متوسطة ميسورة بمنطقة الفَجَّالَة بوسط القاهرة، وبعدها انتقلت الأسرة إلى فيلا مستقلة بمنطقة عين شمس، ما زال صموئيل يعيش بها حتى الآن.

كان عادل يتوقف عن الرضاعة إذا ما أذاع الراديو موسيقى أو أغنية، وكأنه لا يريد أن تلهيه الرضاعة عن السماع، وخاصة لو كانت أغنية لمطرب/ة ذي/ذات صوت جميل مثل أم كلثوم أو عبد الوهاب، وهو الأمر الذي حكاه والده له بعد أن كبر، كدليل على الموهبة الموسيقية الفطرية الموجودة لديه، حسبما يحكي لرصيف22.

خلال المرحلة الابتدائية من تعليمه بدأ صموئيل يتعلق بآلة الكمان (الكمانجة)، وكان معجباً بعازف الكمان الشهير وقتها أحمد الحفناوي، ولم يكن يعرف أنه سيأتي يوما ويعزف معه بنفس الفرقة، فذهب لمدرس الموسيقى في المدرسة وطلب منه أن يعلمه العزف، وكان المدرس يتهرب منه، لصعوبة آلة الكمان.

ولكن بعد إلحاح قبل المدرس، وبدأ يعلم عادل، وبالفعل علمه مقطوعتين، حفظهما عادل بعد وقت طويل لأن أستاذه كان يقصد إزهاقه، ليختبر مدى حبه للكمان، فكان يعطيه أحياناً حرفاً موسيقياً واحداً يعزفه، ولكنه تجاوز الاختبار ببراعة وأتقن المقطوعتين.

وعن ذلك يقول صموئيل لرصيف22: "لو جواك كمانجة فانت زي الأرض اللي فيها بترول، بتكون محتاج حد يكتشفها جواك، لكن لو مش جواك كمانجة مستحيل يطلع منك حاجة"، ولذلك كان معلمه يعلمه ببطء ليطمئن إلى أن بداخله "كمانجة".

في تلك الأثناء كان عادل قد انتقل مع أسرته إلى فيلا عين شمس، وكانت وقتها منطقة هادئة تكثر فيها الفيلات، والسكان قليلون يعرفون بعضهم ويتزاورون في البيوت، وكانت والدته من هواة تربية الدواجن والطيور، وتكاثرت الأرانب في منزلها بشكل مزعج، وللتخلص منها أخذت تهادي جيرانها بهم، ومنهم جارتها "إيلين".

"'طنط إيلين' جاءت إلى منزلنا لتشكر أمي، ورأت شغفي بالكمان فوجدتها فرصة لردّ الهدية، وقالت لي: 'عندي كمانجة مركونة فوق الدولاب هجيبهالك'"، يقول صموئيل.

كان هذا الموقف نقطة تحول في حياة عادل، فأخيراً امتلك آلة، ولم يعد الأمر قاصراً على الكمان الذي يتعلم عليه في المدرسة، وكانت العطلة الصيفية قد بدأت، وجاءته الفرصة ليدندن المقطوعتين اللتين قد تعلمهما في المدرسة.

ولكنه بعد تمرس وإتقان وجد نفسه يعزف أغاني أم كلثوم التي يحبها بلا معلم وبلا نوتة موسيقية، وبمجرد الحفظ السماعي، بمجرد التجربة بينه وبين نفسه، وبدأ يتحول لعازف حقيقي، وحين انتهت العطلة وعاد للمدرسة ذهب فرحاً لمدرس الموسيقى ليطلعه على التطور الذي وصل إليه.

بدأ عادل مرحلة جديدة في احتراف الكمان، بمساعدة المدرس، وبدأ ينطلق ويحاول البحث عن أصدقاء موسيقيين وفرق صغيرة يعزف معها، حتى وصل للمرحلة الثانوية وتحديداً عام 1965، حيث حصل عادل على هدية أخرى ثمينة.

ففي نفس المنزل الذي كان يسكنه عادل بالفجالة قبل الانتقال إلى عين شمس كان بالطابق الأرضي محل وورشة جابي توتونجي صانع الآلات، الذي يصفه عادل بأهم صناع الآلات، ولاسيما الشرقية، في العالم وقتها، أو على الأقل في إفريقيا وآسيا، والذي بفضله سمعنا روائع النغم في القرن العشرين، فقد كان كل العازفين بالفرَق الكبيرة وعلى رأسهم الفرقة الماسية وفرقة أم كلثوم يضبطون آلاتهم عنده، ويشترونها منه.

أخذ الأستاذ صموئيل إسحق ابنه عادل إلى جاره القديم توتونجي وطلب منه أن يبيع له كمان، فانتقى توتونجي قطعة فريدة من نوعها، كانت ملك عازف الكمان الأشهر في مصر أنور منسي الذي كان قد توفي عام 1961.

وقال توتونجي إن هذه الآلة لا تقدر بثمن لأنها بجانب ملكيتها السابقة لأنور منسي، هي قطعة أثرية ثمينة مصنوعة منذ أكثر من مائتي عام، ولذلك كان ثمنها غاليا جدا جدا بمقاييس وقتها، حيث دفع صموئيل إسحاق 200 جنيه مصري ثمناً لها، في زمن كان راتب الموظف الحكومي 12 جنيهاً، وسعر جرام الذهب أقل من نصف جنيه.

بعد المرحلة الثانوية قرر عادل احتراف الموسيقى أكثر وأكثر فالتحق بكلية التربية الموسيقية، وكان دفعته بالكلية المطرب هاني شاكر، والذي كان يغني أمام عادل دائماً وبين زملائه ودائماً كانوا يشجعونه، ومن المشاهير أيضاً في دفعة عادل كانت الفنانة إيفا (إيفيلين محروس)، التي احترفت التمثيل في ما بعد، حسبما حكى لرصيف22.

ومن حسن حظ عادل صموئيل أن الكلية وقتها كان يُدرِّس بها كبار نجوم العزف، ومنهم محمد نصر الدين، عازف الكمان بفرقة أم كلثوم، الذي كان يحبه ويعامله معاملة الصديق.

كذلك كان يدرّس بالكلية مجدي بولس عازف التشيللو بالفرقة الماسية وفرقة أم كلثوم، وعبد الحكم عبد الرحمن عازف الكونترباص بالفرقة الماسية ثم فرقة أم كلثوم، ونصر عبد المنصف عازف الكمان بالماسية وأهم مدون للنوتة الموسيقية في مصر، والأهم كان أحمد فؤاد حسن قائد الفرقة الماسية وعازف القانون الشهير.

كان عادل يعزف بين زملائه بالكلية ويشتهر بدقته وإتقانه، فلفت نظر أحمد فؤاد حسن الذي سأله: "بتعرف تقرأ نوتة بريما فيست بمجرد النظر"؟، فردّ عادل: نعم. فحدد له فؤاد حسن ميعاداً لمقابلة ومن ثم ضمّه للفرقة، وهو طالب عمره 19 عاماً، ليجلس بجوار أكبر وأهم عازفي مصر، ويعزف خلف أكبر فنانيها.

عادل صموئيل منقذ الماسية والعندليب

بعد انضمامه للماسية لم يكن عادل مجرد عازف بل كان لديه مهارات خاصة جعلت الفرقة التي بها عازفون في عمر أبيه يعجبون به، وكذلك المطربون وعلى رأسهم عبد الحليم حافظ.

كانت الماسية تشتري أحدث أجهزة التسجيل من خارج مصر، حتى أنها حين تعطّل أو تحتاج إلى ضبط لم يكن هناك من يستطيعون صيانتها من فنيي الإلكترونيات في مصر لأنها جديدة عليهم، وفي أكثر من مرة يستطيع عادل أن يصلحها، ولاسيما ما يتعلق بمستوى الصوت ودقته بها، ففارق كبير بين مستوى الإحساس بالصوت بين فني الصيانة والعازف الذي يبحث عن أدق الأصوات ومستواها في التسجيل. كانت الماسية تجري بروفات في النادي الماسي (مقر الفرقة الماسية)، وتسجلها أدائها في البروفات لتتأكد كيف ستبدو للجمهور أو في الاستوديو بعد التسجيل النهائي.

بعد انضمامه للماسية لم يكن عادل مجرد عازف بل كان لديه مهارات خاصة جعلت الفرقة التي بها عازفون في عمر أبيه يعجبون به، وكذلك المطربون وعلى رأسهم عبد الحليم حافظ.

أحياناً كان صوت البروفة يظهر في التسجيل غير مطابق لصوت العزف الحي، وكان عادل يستطيع ضبط سرعة الصوت ومستواه ونقائه في التسجيل، ويفهم أن الصوت مثلاً منخفض بدرجة نصف تون أو مرتفع، فيضبت الـtonality في التسجيل.

اهتم عادل بالتدوين الموسيقي، وساقته الصدفة إلى مصادقة نصر عبد المنصف، المدون الأساسي للنوتة الموسيقية بالفرقة الموسيقية، الذي كان في سن والده، أو أكبر، حيث طلب منه نصر الذهاب معه إلى منزل موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب بحيّ الزمالك، إن أحب، ففرح ورحب بالفكرة، وذهب معه.

ويعلق عادل بأن الأستاذ نصر ربما يكون طلب مني ذلك لأنه لم يكن يحب قيادة السيارات رغم امتلاكه وأولاده أكثر من سيارة، وفي مرة رأيته بعد انتهاء البروفة يستوقف تاكسي في الشارع، فعرضت عليه أن أوصله إلى منزله بسيارتي المتواضعة فركب معي، وحينها عرض عليّ أن أذهب معه لعبد الوهاب.

وربما خاف نصر ألا يجد تاكسي يستقله ليلاً بعد الانتهاء من جلسته مع عبد الوهاب، حيث كانت منطقة الزمالك وقتها هادئة لدرجة أن التاكسيات قد لا تمر بها في الساعات المتأخرة من الليل، يقول صموئيل.

كان نصر يذهب إلى عبد الوهاب كلما كان لدى موسيقار الأجيال لحن جديد، حيث كان يعزف لحنه على العود ويدونه نصر عبد المنصف على النوتة. وبعد انتهاء هذه الجلسة نادى عبد الوهاب على عادل باسمه، وقال له: "أحب أشوفك تاني يا عادل!"، ففرح عادل واعتبر أن ذلك إشارة إلى إعجاب عبد الوهاب به.

بعدها صار عادل صموئيل رفيقاً لنصر عبد المنصف في كل زياراته من هذا النوع لعبد الوهاب، ثم إلى بيوت بليغ حمدي ومحمد الموجي وكل الملحنين الكبار الذين يستعينون بنصر عبد المنصف في تدوين نوتاتهم.

وبدأ عادل يشارك نصر في التدوين ويساعده فيه، بل أحياناً كان يوكل إليه بعض مهام عمله، حتى توفي نصر عام 1978، وبعدها أخذ دور عادل يكبر في التدوين للفرقة الماسية، في وجود ميشيل المصري مدون الفرقة أيضاً الذي كان يميل لتدوين نوتات الأغاني الخليجية، حيث كان المطربون من دول الخليج مثل محمد عبده وقتها يأتون إلى مصر لينفذوا أغنياتهم ويسجلوها مع الفرقة الماسية.

حُب عادل لتدوين النوتات أنقذ عبد الحليم حافظ ذات مرة، حيث يحكي لرصيف22 أن العندليب خلال بروفة أخيرة استعداداً لواحدة من آخر حفلاته، نهاية عام 1976، علِمَ أن صديقه الفنان عمر الشريف سيحضر الحفل، فأراد حليم أن يغني إحدى الأغاني التي غناها في فيلم "أيامنا الحلوة"، الذي شاركه بطولته عمر الشريف وأحمد رمزي وفاتن حمامة عام 1955، كنوع من التحية لصديقه الممثل العالمي الذي يزور مصر وقتها.

كانت الحفلة في اليوم التالي للبروفة، وحليم جمع الفرقة الماسية في بيته ويجرون البروفة النهائية على ما سيقدموه، ولكن حليم قرر أن يغني "الحلو حياتي"، التي اجتمع فيها خلال الفيلم مع عمر وفاتن ورمزي وزينات صدقي، ولكنه لم يكن قد غناها منذ سنوات، ونوتاتها الموسيقية غير متوفرة.

هنا قال عادل للعندليب إن الأغنية لديه في بيته، وأنه قد دونها في نوتة موسيقية، ويمكن أن يذهب فوراً إلى بيته في عين شمس لإحضارها، ولكن بشرط أن يرسل معه حليم سيارته وسائقه الخاص، ليقود بسرعة ويتحمل الغرامة المالية التي حتما ستوقع عليه نتيجة مخالفة سرعة السير القانونية.

ضحك عبد الحليم حتى كاد أن يسقط أرضاً، وبالفعل أرسل معه سائقه بسيارته، وأحضر التسجيل والنوتة وأجرت الفرقة البروفة من خلالها وغناها العندليب في اليوم التالي بالحفل، يقول صموئيل.

الماسية: الفرقة المنضبطة التي لم يكن لها مثيل

يعيش عادل حتى الآن معتزاً بالفرقة الماسية ويراها تاريخه الحقيقي، معتبراً أن هذا الاعتزاز ليس مجرد حنين للماضي، وإنما حنين للقيمة التي أضافتها الماسية للفن المصري والعربي.

الماسية كانت الفرقة الوحيدة في مصر التي لها مقر خاص، وهو النادي الماسي، الكائن في الدور السابع بالعمارة رقم 34 في شارع عدلي بوسط القاهرة، تجري فيه البروفات، وبالمقر مكتبي رئيسها أحمد فؤاد حسن، ومديرها حسن أنور، عازف الإيقاع الشهير، وبها مكان مجهز تجري فيه الفرقة البروفات، يقول صموئيل.

 ومن يعملون بها كانوا يتقاضون أجوراً شهرية منتظمة، أول كل شهر، وبها أرشيف لحفظ النوتات، ونظام إداري كامل، وبها عازفون ثابتون بها: 8 عازفين كمان ثم زادوا إلى 12، بالإضافة إلى عازفي القانون والناي والأكورديون، و3 عازفين تشيللو وعازف كونترباص، إضافة إلى عازفي مجموعة الإيقاعات الإيقاع.

بالإضافة إلى عازفين من خارجها كانوا يستعينون بهم حسبما تتطلب الأغنية التي يؤدونها، وكان عبد الحليم حافظ هو أشهر من يضيف إلى الماسية، فبعيداً عن الصولوهات أو جمل العزف المنفرد التي تؤديها آلات نوعية كالأورغ والغيتار وغيرهما، كان عبد الحليم في الغالب يضاعف عدد عازفي الكمان.

على عكس فرق أخرى كانت تجتمع بالصدفة، حسب الشغل المطلوب، ويجمهم قائد الفرقة من المقاهي، كانت الماسية بهذا الانضباط والحجم والشكل المؤسسي، يقول صموئيل، الذي يوضح أنه شغل منصب نائب مدير الفرقة في العقد الأخير لها.

هذا الشكل المؤسسي كان له انعكاسه الفني، فمما يحكيه عادل، أن طاقم الآلات الوترية، ولاسيما الكمان، يجب أن تكون من نفس الصانع، لضمان الانسجام في العزف فيما بينها، ناهيك عن ضبط الأوتار والدوزان، وهو أمر لم يتوفر إلا للماسية، ولم يكن ليحدث إلا بفضل إدارتها الواعية المحترفة.

هذا الانضباط وهذا الإتقان جعل أغلب عازفي الفرقة الماسية هم تقريبا نفس عازفي فرقة أم كلثوم، خاصة في السنوات الأخيرة لسيدة الغناء العربي، حيث كان يوجد نفس الأسماء تقريباً في الفرقتين، ما عدا استثناءات بسيطة، فقد كانوا صفوة عازفي مصر.

وظلت الفرقة تحافظ على انضباطها وتجدد من دمائها باستمرار، حتى توفي أحمد فؤاد حسن في 10 آذار/مارس 1993 متأثراً بإصابته بمرض سرطان المخ، وكان قبلها قد شعر أنه سيرحل، فسلم كل ما يخص الفرقة إلى عازف الناي الأشهر محمود عفت، وأوصى بأن يكون هو على رأس الفرقة بعد وفاته.

واستمر عفت لمدة عام حتى توفي عام 1994، بعدها حاول بعض العازفين القدامى لملمة شمل الفرقة، ولكن محاولاتهم لم تجدِ.

وانحلت الفرقة، بعد أكثر من 40 عاماً من العطاء، منذ تأسيسها -غير المقصود- خلال حفلة تخرج طلاب معهد الموسيقى العربية عام 1948، حيث أدى أحمد فؤاد حسن بمصاحبة بعض زملائه مقطوعة موسيقية من تأليفه باسم "البوهيمية"، ولاقت نجاحاً كبيراً، وبعدها قرروا الاستمرار معاً كفريق متجانس حتى ولو عملوا ضمن فرقة الإذاعة المصرية بجانب عملهم المستقل، إلى أن استقلوا تماماً وأطلقوا على أنفسهم "الفرقة الماسية" في بداية الخمسينيات.

وعن حل الفرقة وعدم استمرارها، يقول عادل صموئيل لرصيف 22: "في التسعينيات كان النجوم الكبار قد انتهوا، إما ماتوا أو اعتزلوا، وهؤلاء النجوم كانت الفرقة تستمد جزءاً كبيراً من أهميتها من عزفها وتنفيذها لأعمالهم، ناهيك عن أن أسلوب الإنتاج الموسيقي كان قد تغير، والذوق الفني نفسه تغير".

عادل صموئيل، عازف الكمان بفرقة الماسية، ومدون النوت الموسيقية للأغنية، هو الذي ترجم إبداع عبد الوهاب في اللحن وإبداع أحمد فؤاد حسن في التوزيع، إلى حروف وعلامات موسيقية وتفاصيل دقيقة بدونها لا يكتمل العمل ولا تستطيع الفرقة أداء العمل

وطريقة العمل التي اعتدنا عليها هي أن تجتمع الفرقة بالكامل، وتجري بروفاتها بحضور الملحن والمطرب والموزع، في حالة وجود موزع للأغنية. ولكن في التسعينيات تغيرت الأحوال، وظهرت فكرة التراكات، أي يذهب كل عازف وحده منفرداً إلى الإستوديو ويسجل، ويأت مهندس الصوت مع الموزع ويدمج هذه الأصوات، وهي طريقة لم تكن الماسية معتادة عليها، بل إنها طريقة لا تحتاج إلى وجود فرقة من الأساس، إذ يمكن جلب عازف من هنا وآخر من هناك ومن يشرف على ذلك هو الموزع الموسيقي، يقول عادل صموئيل.

بعد حل الماسية، كيف عاش عادل صموئيل؟

بعد حل الماسية كان عادل في الأربعينيات من عمره، أي ما زال في قمة عطائه، فبدأ يعمل في بعض الفرق الصغيرة، وفي نفس الوقت كان يعمل معلماً للموسيقى في معهد المعلمات ثم في مدارس وزارة التربية والتعليم، وترقى إلى درجة موجه للموسيقى، حتى أحيل للتقاعد عام 2010، حسبما أوضح لرصيف22.

عمل عادل صموئيل مع الفنان سمير صبري، الذي كانت لديه فرقة استعراضية تقيم العروض في المسارح، وخلال برامجه التي تذاع على التلفزيون المصري، ولكنه ترك الفرقة لأكثر من سبب، أولها ضعف المنتج الموسيقي الذي تقدمه، والثاني هو عدم انتظام المواعيد وغياب الانضباط والسفر الكثير المفاجئ، وعادل رجل منظم واعتاد على ما تربى عليه في الفرقة الماسية.

كما عمل مع الفنان كارم محمود، الذي كان يغني في أحد فنادق القاهرة حتى توفي كارم عام 1995، وظل عادل يتنقل بين عمل وآخر ولكنها جميعاً لا ترقى لما عاشه داخل الفرقة الماسية، حسبما يحكي.

وفي النهاية اضطر إلى الاكتفاء بعمله الحكومي كمعلم، ثم موجّه للموسيقى، وبعد أن انتشر الإنترنت وجد ضالته كمدون موسيقي معطاء ومعلم للموسيقي، في كتابة النوت الموسيقية وتعليمها لتلاميذه حتى الآن.

وبرز عادل مع عدد من زملائه في الماسية عام 2017، خلال الاحتفال الذي نظمته دار الأوبرا المصرية للاحتفال بمرور 40 عاماً على رحيل عبد الحليم حافظ، وقررت الدولة ممثلة في وزارة الثقافة تكريم رفقاء العندليب الباقين، وكان منهم بعض عازفي الفرقة ومنهم عادل صموئيل.

لم يشعر عادل صموئيل أنه حظي بما يستحق من تكريم، ويرى أن مكانته وعمله مع الماسية وعبد الحليم حافظ كان يستحق أن يبرز أكثر مما جرى، وقد أعطى أكثر بكثير من غيره، خاصة وأن زميله هاني مهنى (عازف الأورغ بالفرقة الماسية) استغل حفل التكريم لإبراز ابنته هنادي، التي ولدت بعد وفاة العندليب بسنوات، للترويج لها كممثلة صاعدة؛ "تخيل الصحافيين وقنوات التلفزيون يسيبوا العازفين الكبار في الحفلة ويهتموا بممثلة ناشئة مالهاش أي تاريخ فني ولا لها علاقة بالمناسبة اللي بنتكرم فيها... وده خلاني أرفض الظهور في أي قناة تلفزيونية بعدها"، يقول صموئيل لرصيف 22.

ويعيش عادل صموئيل بين نوتاته وكمانه، يعزف بين أصدقائه، ويعلّم محبيه وتلاميذه، عازلاً نفسه عن كل فن يراه ركيكاً، رافضاً أغلب ما يقدم، معتبراً أن الموسيقى صارت مليئة بـ"الفزلكة" وغير مفهومة، ولا تدخل القلب بسهولة، رغم أن هناك أصواتاً جيدة مثل آمال ماهر، ولكنها أيضاً تحاول الاستعراض بلا داعٍ، ولذلك يفضل عادل الابتعاد والاكتفاء بتعليم الفن الذي يعرفه!


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

منبر الشجعان والشجاعات

تكثُر التابوهات التي حُيِّدت جانباً في عالمنا العربي، ومُنعنا طويلاً من تناولها. هذا الواقع هو الذي جعل أصوات كثرٍ منّا، تتهاوى على حافّة اليأس.

هنا تأتي مهمّة رصيف22، التّي نحملها في قلوبنا ونأخذها على عاتقنا، وهي التشكيك في المفاهيم المتهالكة، وإبراز التناقضات التي تكمن في صلبها، ومشاركة تجارب الشجعان والشجاعات، وتخبّطاتهم/ نّ، ورحلة سعيهم/ نّ إلى تغيير النمط السائد والفاسد أحياناً.

علّنا نجعل الملايين يرون عوالمهم/ نّ ونضالاتهم/ نّ وحيواتهم/ نّ، تنبض في صميم أعمالنا، ويشعرون بأنّنا منبرٌ لصوتهم/ نّ المسموع، برغم أنف الذين يحاولون قمعه.

Website by WhiteBeard
Popup Image