"الدولة المدنية"… الرؤية الغائبة في مقاربات إنهاء الحرب في السودان

سياسة نحن والحقوق الأساسية

الأربعاء 25 يونيو 202505:30 م

شكّل إعلان قوات الدعم السريع سيطرتها على منطقة "المثلث" الحدودية بين السودان وليبيا ومصر، في 12 حزيران/ يونيو 2025، تطوراً بالغ الأهمية في مسار الحرب المستمرة منذ منتصف نيسان/ أبريل 2023. المثلث ليس مجرد موقع جغرافي، بل عقدة أمنية مرتبطة بتهريب السلاح، والهجرة غير النظامية، والإتجار بالبشر، وتحالفات إقليمية عابرة للحدود. وقد جاءت سيطرة قوات الدعم السريع عليه بالتوازي مع تصعيد التوترات بين الجيش السوداني والجيش الوطني الليبي بقيادة خليفة حفتر، وسط اتهامات متبادلة بشأن اختراق الحدود.

لكن هذا التحوّل كان جديراً بالتحليل ليس فقط لطابعه العسكري، بل أيضاً لارتباطه بجملة من الأسئلة المدنية والسياسية الكبرى، التي تتعلّق بتوازنات القوى الإقليمية، وأدوار الوسطاء الدوليين، والمآلات الممكنة لمستقبل الدولة السودانية، وعلى رأسها سؤال: أين تقع الدولة المدنية في هذا المشهد؟ وهل هناك قوى مدنية قادرة على طرح رؤية توقف الحرب وتؤسِّس لسلام دائم في البلد الذي أنهكته حرب العسكر؟

التحوّلات الإقليمية الأخيرة - من تراجع الوساطة السعودية إلى تفاقم أدوار مصر والإمارات وليبيا - تكشف عن خريطة جديدة للصراع في السودان، لا تقتصر على طرفي الحرب، بل تضع الدولة السودانية أمام خطر التفكك. فإلى متى يظل البديل المدني غائباً أو مغيّباً؟

فشل وانقسام منذ بداية الحرب

منذ اندلاع الحرب بين قوات الدعم السريع والجيش السوداني، ظهرت مبادرات وتحالفات مدنية عدة نادت بوقف القتال، وسعت إلى تقديم بديل سياسي للاقتتال، لكن معظمها فشل في تحقيق تأثير حقيقي بسبب الانقسامات وضعف الثقة الشعبية ورفض الأطراف العسكرية.

"قوى الحرية والتغيير-المجلس المركزي"، وكانت تضمّ حزب الأمة القومي وحزب المؤتمر السوداني وحزب البعث (تيار عرمان) والحزب الاتحادي الديمقراطي (تيار الحسن الميرغني)، عقدت في كانون الثاني/ يناير 2024، اجتماعاً مع قوات الدعم السريع في أديس أبابا، وجرى الكشف عن "إعلان أديس أبابا" والتوصّل إلى تفاهمات حول وقف إطلاق النار. لكن الإعلان أثار انقسامات داخل التحالف، ما أدى إلى تأسيس تحالف "صمود" بقيادة رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك، في شباط/ فبراير 2025، وقد ضمّ أحزاباً سياسيةً ونقابات وشخصيات مستقلةً، الذي عبّر عن موقف أكثر صرامةً تجاه الحرب والطرف العسكري.

وفي أيار/ مايو 2023، تشكّل تحالف القوى المدنية الديمقراطية، الذي ضمّ الحزب الشيوعي وحزب البعث وحركة حق و"تجمع المهنيين" ولجان مقاومة ونقابات. رفض التحالف أيضاً العسكرة والحرب، لكنه عانى من خلافات داخلية أضعفت فعاليته في المشهد السياسي.

أما مبادرات لجان المقاومة، فتمثّلت في تنسيقيات شبابية في الخرطوم ومدن أخرى تعتمد ميثاق "سلطة الشعب" وترفض الحرب وطرفيها، لكنها تبقى مشتّتةً تنظيمياً وضعيفة الموارد.

فشل هذه المبادرات المدنية ليس مستغرباً في ظل الانقسام السياسي وضعف الثقة اللذين يسودان الساحة السياسية في السودان، لكنه أيضاً وثيق الصلة برفض العسكر وجود أي دور مدني مستقلّ، بالإضافة إلى الأوضاع الإنسانية الصعبة التي تحدّ من قدرة المدنيين على التنظيم والتأثير.

وغالباً ما غاب الشعب وانخفض اهتمامه وأحياناً بدا غاضباً من هذه المبادرات، مع تقدير محدود للمبادرات النقابية والإنسانية التي تقدّم الدعم الميداني الملموس، غير أنها على الجانب الآخر كانت تفتقر إلى الوزن السياسي الكافي.

وساطة إقليمية ودولية "غير محايدة"

في وقت بدا فيه أنّ الوساطة السعودية الأمريكية (المعروفة بـ"منبر جدة")، تفقد زخمها، ولا سيّما بعد ميل الرياض إلى تبنّي مواقف أقرب إلى الجيش، ودعم الإمارات المتزايد للدعم السريع، تعمّقت أزمة تمثيل القوى المدنية. فبينما انشغلت أطراف دولية بصياغة تفاهمات تكتيكية بين الجنرالين، البرهان وحميدتي، ظلّ الخطاب المدني يفتقر إلى مشروع بديل متماسك لانقلاب 25 تشرين الأول/ أكتوبر 2021، يمكنه أن يملأ الفراغ السياسي، ويوجّه مسار التسوية نحو أهداف الثورة.

يرى الأقرع أنّ الدولة المدنية، بوصفها تعبيراً عن الحكم الرشيد والمؤسسيّة، لا يمكن اختزالها في حياد لفظي بين أطراف الصراع، والمطلوب - برأيه - ليس التوازن في إدانة الجيش والدعم السريع، بل الانحياز إلى مشروع واضح يعيد بناء الدولة على أسس جديدة، تُنهي الاحتكام إلى السلاح وتحقيق العدالة والمساواة

وفي 11 أيار/ مايو 2023، انطلقت المبادرة السعودية الأمريكية لوقف إطلاق النار، تحت مسمى "منبر جدة"، خلال اجتماعات تفاوضية غير مباشرة بين طرفي الحرب في جدة.

في 20 أيار/ مايو من العام نفسه، تم توقيع "إعلان جدة" لتأكيد التوافق حول الالتزام بحماية المدنيين، وتبعته اتفاقية مؤقتة تمتد من 22 حتى 27 أيار/ مايو نفسه لتسريع إيصال المساعدات الإنسانية. ولكن تم تعليق المبادرة رسمياً في 1 حزيران/ يونيو 2023، بسبب الانتهاك المتكرر للاتفاق.

وعادت المبادرة في تشرين الأول/ أكتوبر 2023، عبر جولة جديدة من المحادثات، إلا أنها تعرضت لانتقادات وتلميحات بأنّ المحادثات انحرفت نحو "أجندة عسكرية" بدلاً من البحث عن حلّ سياسي شامل، ما قلّل من وزنها السياسي.

وفي 19 أيار/ مايو 2025، كشفت وكالة "رويترز"، عن تعيين كامل إدريس رئيساً للوزراء بأمر من قائد الجيش عبد الفتاح البرهان، وهو المنصب الذي كان شاغراً منذ الانقلاب على الشريك المدني في عام 2021. هذه الخطوة أثارت انتقادات باعتبار القرار دليلاً على انحياز السعودية للمجلس العسكري. برغم ذلك، لم تصدر السعودية بيان انسحاب رسمياً من دور الوساطة. ويقول دبلوماسيون إنّ دعمها كان يأتي ضمن حسابات إقليمية أكبر تهدف إلى احتواء قوات الدعم السريع وليس إلى تحويل المبادرة إلى دعم صريح للمجلس العسكري.

فحص نقدي للمبادرات المدنية

في هذا السياق، يقول الباحث والخبير الاقتصادي السوداني د. معتصم الأقرع، إنّ شعار "لا للحرب" الذي ترفعه بعض القوى المدنية يجب أن يخضع للفحص النقدي، إذ لا يكفي اتخاذ موقف مبدئي ضد الحرب دون توضيح ماهية السلام المنشود. ويضيف الأقرع، الذي كان أحد أبرز الأصوات داخل قوى التغيير التي عارضت ما يسمّيه "الهبوط الناعم" وتُقصد به إعادة تدوير النخب العسكرية في الحكم، لرصيف22: "نعم، لا أحد يريد الحرب، ولكن أيضاً لا أحد يريد سلاماً زائفاً يُراد به باطل. نحن نريد سلاماً حقيقياً، تعيش فيه كل الناس في دولة لا توجد فيها ميليشيا تمتلكها أسرة".

يرى الأقرع أن الدولة المدنية، بوصفها تعبيراً عن الحكم الرشيد والمؤسسيّة، لا يمكن اختزالها في حياد لفظي بين أطراف الصراع، والمطلوب - برأيه - ليس التوازن في إدانة الجيش والدعم السريع، بل الانحياز إلى مشروع واضح يعيد بناء الدولة على أسس جديدة، تُنهي الاحتكام إلى السلاح وتحقيق العدالة والمساواة.

ومع تأكيد الأقرع على أنّ ما يحققه التفاوض يحدده ميزان القوى، يشدد على أن أي تمثيل للقوى المدنية يجب يشمل كل القوى بلا استثناء.

تحالف مدني عسكري؟

ربما تكون أطروحات تحالف "تأسيس"، الذي يضمّ الدعم السريع، أحد أبرز التحالفات التي نشأت في سياق الحرب، والذي أعلن عن "ميثاق السودان التأسيسي" في نيروبي، في شباط/ فبراير 2025، وضمّ 24 كياناً مدنياً وحزبياً، أحد أبرز الأمثلة على ما يلفت إليه الأقرع. 

وعن إشكالية انضمام أطراف مسلحة منخرطة في الحرب ضمن التحالف، يقول القيادي في التحالف، علي جاد الله، لرصيف22: "موقفنا لا يقتصر على رفض الحرب، بل هو طرح بديل متكامل يقوم على تأسيس دولة ديمقراطية علمانية تفصل الدين عن الدولة وتضمن العدالة والمساواة".

يميز جاد الله، بوضوح، بين "الحياد" الذي يراه سلبياً في هذه اللحظة التاريخية، و"الانحياز إلى المجتمع المدني والسلام"، الذي يقتضي دعم مبادرات سياسية تحمي المدنيين وتوقف الحرب، دون الارتهان لأي من الطرفين العسكريين. الانحياز للسلام، كما يراه، لا يعني تجنب الإدانة، بل تبنّي خطاب سياسي بديل يُعلي مصلحة الشعب.

لكن تحالف "تأسيس" نفسه ليس بمنأى عن الأسئلة الصعبة. فبينما يطرح نفسه كإطار مدني لإنهاء الحرب، يضمّ أطرافاً مسلّحةً مثل قوات الدعم السريع والحركة الشعبية (شمال) بقيادة عبد العزيز الحلو، ما يعرّضه لاتهامات بالوقوف في موقع التناقض بين مدنيّته المعلنة وتركيبته الواقعية. برغم ذلك، يشير جاد الله إلى أن "ميثاق السودان التأسيسي" يؤسس لرؤية مدنية واضحة عبر 32 بنداً، ويراهن على "مرحلة ما بعد تشكيل حكومة السلام والوحدة وجيش وطني جديد".

المعضلة، بحسب جاد الله، ليست في وجود القوى المدنية فحسب، بل في مدى قدرتها على بناء جبهة مستقلة وفاعلة. ويشير إلى أنّ الانقسامات الأيديولوجية، وضعف المؤسسية، وتدخلات الوسطاء الدوليين الذين يفضلون التعامل مع أطراف عسكرية، كلها تحديات حقيقية أمام تشكل بديل مدني.

وحول التناقض بين السعي إلى دولة عدالة ومساواة وبين التحالف مع قوة متهمة بجرائم حرب، يجيب جاد الله بأنّ "الاتهامات التي يطلقها الخصوم السياسيون ليست معياراً، بل يُقيّم موقف الدعم السريع بناءً على توقيعه على الميثاق التأسيسي والدستور الملحق به". 

ويضيف جاد الله أن "الانتهاكات تقع من أطراف مختلفة"، رافضاً حصر المسؤولية في طرف دون الآخر، بقوله: "لم تذكر المنظمات ولا الجرائم ولا تاريخها... جرائم الحرب قام بها الجيش السوداني أيضاً في دارفور وجبال النوبة، والآن يقتل الآلاف بالطائرات...".

هذا الموقف يكشف رؤيةً نفعيةً للتحالف، تغلّب ضرورات التعبئة السياسية على مبادئ العدالة الانتقالية، كما يُخضع معايير المحاسبة لتوازنات القوى، لا للقانون الدولي أو تقارير المنظمات الحقوقية.

جدير بالذكر أنّ منظمات دوليةً ومحليةً، من بينها هيومن رايتس ووتش والعفو الدولية، وثّقت في تقاريرها، بالإضافة إلى تقارير بعثة الأمم المتحدة وهيئة محامي دارفور، جرائم ارتكبها الدعم السريع منذ بداية الحرب، بما في ذلك الإعدامات الجماعية، والعنف الجنسي، والحصار ضد المدنيين. كما أدانت هذه الجهات جرائم الجيش السوداني بالتوازي.

غياب الاعتراف بهذه التقارير أو تقديم تفنيد منطقي لها يضعف سردية تحالف "تأسيس" حول كونه مشروعاً مدنياً مستقلاً، ويعمّق الشكوك في كونه محاولةً سياسيةً لإعادة تأهيل الدعم السريع في المشهد السياسي، تحت لافتة مدنية.

"رفضُنا معسكرَين يقودان البلاد نحو الهاوية لا يعني الحياد"

على خطٍّ موازٍ، عبّر القيادي في حزب البعث السوداني، محمد ضياء الدين، وهو أحد أبرز وجوه العمل السياسي المناوئ للحرب في البلاد، عن موقف صريح في منشور على حسابه في فيسبوك بتاريخ 31 أيار/ مايو 2025، قائلاً: "لسنا محايدين ولسنا مجبرين على أن نكون مع هذا الطرف أو ذاك، رفضنا لمعسكرين يقودان البلاد نحو الهاوية لا يعني الحياد. من يقف ضدهما معاً، إنما ينحاز للسلام، للعدالة، وللشعب الذي يدفع وحده ثمن هذه الحرب"، رابطاً موقفه بالمصلحة الوطنية ورفض عسكرة الدولة. هذا التصريح يعزّز تياراً مدنياً يرى أنّ الانخراط في "معركة السلام" لا يعني البقاء في المنطقة الرمادية. 

ضياء وهو من أهم دعاة التكتّل المدني المستقل، برز مجدداً كأحد مناصري بلورة جبهة مدنية مستقلة لا تصطف مع أيّ من طرفَي الحرب (الجيش أو الدعم السريع)، بل تسعى إلى طرح بديل مدني ديمقراطي.

الأمل، كما يشير الأقرع، يظلّ معقوداً على تحالفات مدنية تستعيد زمام المبادرة، وتؤسس لميثاق جديد لا يقف عند حدّ الشعارات، بل يبني مؤسسات تمثل السودانيين بحق. ولتحقيق ذلك، لا بد من وحدة القوى المدنية على رؤية مشتركة، تعيد تعريف طبيعة الدولة، وتحدّد دور العسكر بدقة

التحوّلات الإقليمية الأخيرة - من تراجع الوساطة السعودية إلى تفاقم أدوار مصر والإمارات وليبيا - تكشف عن خريطة جديدة للصراع، لا تقتصر على الداخل السوداني. فتدفقات السلاح عبر الحدود، وتنامي شبكات الهجرة غير النظامية والإتجار بالبشر، كلها عوامل تعيد صياغة بيئة الحرب، وتضع الدولة السودانية أمام خطر التفكك.

ومع ذلك، تبدو الرؤية المدنية غائبةً أو مغيّبةً، إما بسبب قمع الدولة العميقة أو ضعف التنظيم المدني. وكأننا أمام مشهد يتكرّر فيه ما حدث بعد الثورة، حيث كانت القوى المدنية متقدمةً شعبياً لكنها عاجزة تنظيمياً.

الأمل، كما يشير الأقرع، يظلّ معقوداً على تحالفات مدنية تستعيد زمام المبادرة، وتؤسس لميثاق جديد لا يقف عند حدّ الشعارات، بل يبني مؤسسات تمثل السودانيين بحق. ولتحقيق ذلك، لا بد من وحدة القوى المدنية على رؤية مشتركة، تعيد تعريف طبيعة الدولة، وتحدّد دور العسكر بدقة، وتضع مصالح المواطنين في قلب أي عملية تفاوضية.

الرؤية الغائبة ليست خرافةً، بل مشروع مؤجل ينتظر من يحمله بشجاعة، في وجه معادلات معقدة إقليمياً ومحلياً. والسؤال الذي يُطرح اليوم بإلحاح: هل تملك القوى المدنية رفاهية الوقت والاختلاف؟


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

فلنتشارك في إثراء مسيرة رصيف22

هل ترغب/ ين في:

  • الدخول إلى غرفة عمليّات محرّرينا ومحرراتنا، والاطلاع على ما يدور خلف الستارة؟
  • الاستمتاع بقراءاتٍ لا تشوبها الإعلانات؟
  • حضور ورشات وجلسات نقاش مقالات رصيف22؟
  • الانخراط في مجتمعٍ يشاركك ناسه قيمك ومبادئك؟

إذا أجبت بنعم، فماذا تنتظر/ ين؟

    Website by WhiteBeard
    Popup Image