العسكرة والعنف… هل يمكن للأصوات النسويّة السودانيّة أن تنجو؟ 

العسكرة والعنف… هل يمكن للأصوات النسويّة السودانيّة أن تنجو؟ 

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة نحن والنساء

الخميس 8 مايو 202502:41 م
Read in English:

Militarization and violence: Can Sudanese feminist voices survive?

دفعت الصراعات، والعنف، والحرمان من الموارد الأساسية، والضغوط النفسية في السودان، النسويات السودانيات إلى إعادة تعريف أصواتهنّ النسوية. 

هذا الرصد يحاول الوقوف على هذه الخيارات، وتحليل كيف يمكن أن تؤثّر على مستقبل العدالة التحررية في السودان.

التفاعل بين النسويّة والعسكرة

تتعدد وجهات النظر النسوية حيال العسكرة. تتساهل بعض المقاربات مع وجود مؤسسات تحتكر العنف، مثل الجيش والشرطة وغيرهما. ترى هذه المقاربات أنّه من الأفضل العمل على إشراك المزيد من النساء داخل هذه البنى، بهدف إدخال ممارساتٍ أكثر حساسيةً جندرياً، ومتمحورة حول النساء. 

غالباً ما ترتبط هذه الرؤية بأجندة المرأة، السلام، والأمن (WPS)، التابعة للأمم المتحدة. في المقابل، تتبنى تيارات نسوية أخرى مقاربةً جذريةً مناهضةً للعسكرة وتحررية. 

تعدّ هذه المقاربة أنّ وجود المؤسسة العسكرية بحد ذاته يُمثّل تهديداً لحيوات النساء وازدهارهنّ. وترى أنّ المطلوب ليس إصلاح مؤسسات احتكار العنف، بل تفكيكها. إذ تنظر بعض الأصوات النسويّة إلى استخدام العنف في سياق المقاومة المسلّحة ضد الظلم والهيمنة، ليس كضرورة فحسب، بل كفعل نسوي نبيل.

تواجه النسويات السودانيات ضغطًا متزايدًا دفع بعضهن لتبنّي مواقف عسكرية "ظرفية" بحجّة الدفاع عن النفس أو حماية المجتمعات، في ظل وحشية الحرب. لكن التقرير يُحذر من أن هذا التحول، حتى لو بدا اضطراريًا، قد يُرسّخ منطق العنف ويضعف الأسس التحررية للفكر النسوي مستقبلاً

تُخبرنا التجارب، وكذلك التاريخ، بأنّ الإجابة هي لا. ففهم المبادئ النسويّة وتطبيقها في الواقع قد يتأثّران بعوامل خارجيّة وتغيّرات في السياق. ويُعدّ تصاعد الصراعات المسلّحة والحروب، مثالاً واضحاً على هذا التبدل في السياق.

فعند اندلاع الحروب، يتأثّر الخطاب النسويّ بعمليّات العسكرة المجتمعيّة الأشمل. ولا تُستثنى المقاربات النسوية التحرريّة من هذه التأثيرات، لكن من الضروري النظر في كيفية تأثير العسكرة على تصوّرات العدالة لدى التيّارات النسويّة، ولا سيّما في ما يتعلّق بالمواقف النسوية التحررية.

 السرديات السياسية-الاجتماعية المُعسكَرة في السودان

بعد اندلاع الحرب في السودان، في 15 نيسان/ أبريل 2023، بين القوات المسلّحة السودانية وقوات الدعم السريع شبه العسكرية، برز داخل المجتمع المدني السوداني خطاب رافض للحرب، تجلّى في وسم "لا للحرب" الذي انتشر على نطاقٍ واسعٍ على وسائل التواصل الاجتماعي في السودان. 

لم يكن هذا الخطاب السياسي مصوغاً عن قصد ضمن إطارٍ تحرّري، لكنّه دعا إلى مسارٍ سياسي سلمي، وركّز على استحالة تحقيق نصر عسكري. وحتّى إن كان ذلك ممكناً، فإنّه كان سيأتي على حساب أرواح عدد هائل من السودانيّات والسودانيين.

لاحقاً، حظيت محادثات السلام في جدّة، التي أطلقتها المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة، بدعم شعبيّ واسع. وبرغم فشلها في تحقيق وقف لإطلاق النار، برزت بشكل متزايد إدانات ضدّ قوات الدعم السريع. ويرجع ذلك جزئياً إلى الجرائم المروّعة التي ارتكبتها تلك القوات ضد المدنيات والمدنيين، وتدميرها المواقع التراثية والبنى التحتية، بالإضافة إلى توافر أدلّة على ارتكابها جرائم تطهير عرقي وإبادة جماعية في مناطق مختلفة من السودان. 

بعض النساء انخرطن في تدريبات عسكرية، وأخريات وجدن أنفسهن مضطرات للانحياز لأحد أطراف الحرب بدافع البقاء. هذا التنوع ليس ضعفًا، بل تعبير عن تعقيد الواقع النسوي في بيئة عنيفة.

أدّى ذلك إلى تصاعد مواقف مُعسكَرة داخل المجتمع المدني السوداني، خصوصاً ضمن المجموعات النسوية. لكن لا ينبغي اختزال تلك المواقف المُعسكَرة في ثنائيّة الاختيار بين دعم القوات المسلحة السودانية أو قوات الدعم السريع.

فعلى سبيل المثال، خضعت بعض النساء في ولايات سودانية مثل البحر الأحمر وكردفان ونهر النيل، لتدريبات عسكرية، تزامناً مع دعوة القوات المسلّحة السودانية إلى الاستنفار الشعبي، لكنّ الغاية الأساسية كانت تطوير مهارات الدفاع عن النفس. وفي ظلّ تاريخ طويل من انتهاكات حقوق الإنسان في حق المدنيات والمدنيين، رأى الكثير من الشابات والشبّان، الناشطات النسويات والمدنيات/ ين، في دارفور، أنّ مواجهة قوات الدعم السريع مسؤولية لحماية الأرض والناس، حتى ولو كان ذلك خارج إطار القيادة الرسمية للقوات المسلحة.

من جهة أخرى، يواجه السكان في السودان، في المناطق الخاضعة لسيطرة قوات الدعم السريع، هجمات جويةًً تنفّذها القوات المسلحة السودانية، وغالباً ما تقع هذه الهجمات في مناطق مدنية وتؤدي إلى سقوط ضحايا من المدنيات والمدنيين. كما اتخذت حكومة الأمر الواقع السودانية، بقيادة القوات المسلحة، قرارات مثل طرح عملات نقدية جديدة، في محاولة لإبطال الأموال التي استولت عليها قوات الدعم السريع. وبرغم تبرير ذلك كمحاولة لإصلاح النظام المصرفي، فإنها أدّت عملياً إلى استبعاد السكان في مناطق سيطرة قوات الدعم السريع، نظراً إلى عدم قدرتهم على الوصول إلى العملة الجديدة. ومرةً أخرى، نجد بعض النساء وبعض النسويات/ ين، من مناطق وأعراق معيّنة في السودان، لا يملكن/ ون خيارات كثيرةً، ومدفوعات/ ين بدوافع وجودية للانحياز إلى قوات الدعم السريع.

موقف عسكري "ظرفي": هل هو مؤقت فعلاً؟

إنّ الخطاب النسوي السياسي المُعسكَر السائد حالياً -بغض النظر عن موقعه من طرفَي النزاع الأساسيين، أي القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع- سيؤثّر بلا شك في أي مسار سياسي مستقبلي، ومن المرجح أن يستمرّ حتى بعد انتهاء مرحلة النزاع المسلح المباشر. ففي ظل هيمنة منطق مبني على العسكرة والعنف، يكاد لا يكون هناك مجال للتفكير التحرري في مفهومَي العدالة والعقاب. بل من المتوقّع أن يشهد الخطاب المناهِض للعدالة التحرريّة رواجاً متزايداً، نتيجة الظروف الأمنية والإنسانية القاسية التي يمرّ بها السودان. ويقوم هذا الخطاب على فكرة أنّ أمن البلاد لا يمكن تحقيقه إلا من خلال جهاز أمني صارم ومُحكم.

هذا ليس جديداً على السودان. فبعد توقيع اتفاق السلام الشامل في عام 2005، ازدادت قوة الأجهزة الأمنية، مثل جهاز الأمن والمخابرات الوطني، بشكل غير مسبوق، تحت غطاء "الاستقرار". ويُعتقد أنّ قوات الدعم السريع نفسها كانت من مفرزات هذا الاتفاق، إذ ظنّت السلطات أنّ تقنين ميليشيا "الجنجويد" وتحويلها إلى قوة شبه عسكرية رسمية قد يُفضي إلى ضبطها. مؤخّراً، داهمت قوى الشرطة في شرق الخرطوم مقارّ لجان المقاومة في الجريف، ودمّرت جداريات كانت تخلّد ذكرى شهداء ثورة السودان عام 2018، في محاولة لقمع محاولات إحياء العمل الثوري ومحو ذكراه.

ينبّه التقرير إلى تصاعد خطاب يُعارض العدالة التحررية بحجة الحاجة إلى "الاستقرار" والأمن. ومع تحوّل الأجهزة العسكرية إلى أدوات حكم بعد كل اتفاق سلام، تصبح العسكرة خطرًا لا على النساء فحسب، بل على أي أفق ديمقراطي، مما يفرض على النسويات إعادة التفكير في علاقتهم بالمؤسسة الأمنية

لا يفترض هذا أنّ النسويات/ ين في السودان، غير واعيات/ ين بتسلسل الأحداث المتوقع. لكن الخطاب النسوي لم يكن بالقدر الكافي من العلنيّة أو الحسم في مواجهة هذا التوجه الشعبي نحو العسكرة. وعلى المستوى السطحي، قد يبدو الخطاب المناهِض للتحرريّة كأنّه محاولة لحماية السودانيات والسودانيين من انعدام الأمن الناتج عن النزاع والعنف، لكنّه، في الواقع، يعزّز المنظومة العسكرية، ويُكرّس تالياً أنظمة قمع أخرى، كالرأسمالية الأبوية وغيرها من البنى السلطوية.

ماذا نتعلم كنسويات/ ين سودانيات/ ين؟

الحروب، في جوهرها، تجلٍّ متطرّف لتهديدات البقاء، تدفع ببوصلتنا الأخلاقية إلى حدودها القصوى. بصفتنا نسويات/ ين سودانيات/ ين، نُقرّ باستمرارٍ بتنوّع مواقفنا السياسية المختلفة، والمرتبطة بالعرق والإثنية والطبقة الاجتماعية والاقتصادية. علاقتنا بالدولة ليست محايدةً ولا موحدةً. ومع ذلك، نسعى باستمرارٍ إلى إيجاد أرضية مشتركة سعياً وراء إمكانية جماعية لواقع أفضل للشعب السوداني.

ما يجب أن نتعلمه، وربما نتذكره على نحو أكثر إلحاحاً، هو أن أحلامنا النسوية تتجاوز مسألة أيّ طرف من المتحاربين أكثر فظاعةً أو يتمتع بشرعية أكبر. لا يمكن للعسكرة والنسوية أن تتعايشا حقاً عندما يتعلق الأمر بالفضول الفكري، والخيال، والأمل الجذري. لقد نجحت هذه الحرب، إلى حدّ ما، في عسكرة مواقفنا النسويّة، لكن يجب ألّا ندعها تسلبنا فضولنا. يجب أن نستمرّ في كوننا نسويات/ ين فضوليات/ ين.



رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

فلنتشارك في إثراء مسيرة رصيف22

هل ترغب/ ين في:

  • الدخول إلى غرفة عمليّات محرّرينا ومحرراتنا، والاطلاع على ما يدور خلف الستارة؟
  • الاستمتاع بقراءاتٍ لا تشوبها الإعلانات؟
  • حضور ورشات وجلسات نقاش مقالات رصيف22؟
  • الانخراط في مجتمعٍ يشاركك ناسه قيمك ومبادئك؟

إذا أجبت بنعم، فماذا تنتظر/ ين؟

    Website by WhiteBeard
    Popup Image