كيف تتحوّل محطة قطار

كيف تتحوّل محطة قطار "البانهوف" إلى عرض سينمائي؟

مدونة

الخميس 19 يونيو 202512:34 م


ثمة أماكن لا تحتاج إلى أن تبحث عنها كثيراً، فهي تجدك قبل أن تلاحظها. هي أماكن قد تبدو عاديةً من بعيد، لكنك ما إن تدخلها تشعر بأنك صرت جزءاً من رواية مختلفة؛ قد تكون أحد أبطالها، أو مجرد شاهد على أحداثها، لكنها تترك فيك أثراً لا يُمحى.

وهكذا هي محطة القطار في ألمانيا، المعروفة بـ"البانهوف". إذ كانت بالنسبة لي كمهاجر جديد مثل كثيرين غيري، بمثابة متاهة من التفاصيل الغريبة؛ قطارات تأتي وتغادر بأرقام وأسماء معقدة، مسارات تتفرع فجأة، وتأخيرات متكررة تذيب شيئاً من صرامة القوانين الألمانية، وذلك كله يحدث بلغة لا أفهمها.

أذكر أول مرة دخلت فيها إلى المحطة. حينها شعرت بتوتر شديد وكدت أصاب بالدُوار؛ اللوحات، الإعلانات، الجداول، القطارات المتزاحمة، والناس الذين يعرفون طريقهم جيداً، بينما أقف أنا متجمداً أمام لوحة المواعيد.

خشيت أن أضيع. أن أركب القطار الخطأ، أو أن أسأل السؤال الخطأ. كنت أتحرك بحذر، وكأنني أسير على أرض لا أُتقن قوانينها. كل شيء بدا سريعاً، كبيراً، ومجهولاً.

هذه لهجتي

في مرات لاحقة، كنت أقف أمام لوحة المواعيد منتظراً قطاري المتأخر، فأجد نفسي أتأمل الوجوه حولي، وأراقب تفاصيلها الصغيرة، وخطوات أصحابها المتسارعة، وعباراتهم المقتضبة، وأتساءل إن كان هذا مجرد تأخير أو لحظة خفية تمنحني فرصةً لمراقبة الحياة وهي تجري أمامي من دون أن تطلب مني المشاركة.

محطة القطار في ألمانيا كانت لي كمهاجر جديد متاهة مربكة؛ قطارات وأرقام غريبة، مسارات متشابكة، وتأخيرات متكررة، وكل ذلك بلغة لم أكن أفهمها

عشّاق يتعانقون كأنهم على أبواب الوداع الأخير. بجانبهم، عازف غيتار يعزف وكأنه في حفلة خاصة. وفي الزاوية الأخرى، مشرّد يغنّي. توقفت لدقائق كي أراقبه. لم أصدق أنّ أحدهم يغنّي بهذا الهدوء وسط هذه الفوضى كلها. في زاوية أخرى غرباء يثرثرون وكأنهم يعرفون بعضهم منذ الأزل، وخلفهم عناصر من الشرطة يطاردون شخصاً ربما نسي أنّ تجارة الحشيش ليست هوايةً مشروعةً. 

لكن أكثر ما أدهشني وسط هذا كله، عندما مرّ بجانبي شاب يتحدث عبر الهاتف بلهجة سورية واضحة. لم أستطع مقاومة الفضول. نظرت إليه، ومن دون وعي رحت أبتسم. لهجته كانت تشبه لهجتي لا بل هي لهجتي! كان يتحدث عن "الزور"، أي قريته. كلمات ما كنت أسمعها إلا في مناطقنا شرقي سوريا. شعرت بشيء يتحرك في داخلي، شيء صغير لكنه دافئ، كأنّ البيت مرّ بي لحظةً ثم مضى.

رفعت رأسي، وكدت أناديه: "من وين من دير الزور؟"، لكنني ترددت. فجأةً شعرت بأنّ سؤالي سيكون فضولياً، فاكتفيت بنظرة عابرة ومضيت.

اللهجات داخل "البانهوف"ليست مجرد أصوات، إنها إشارات، علامات صغيرة تدلّك على من يشبهك، من قد يفهمك إن ضعت، أو يسندك إن تعثرت.

أحيانا تكون هذه اللهجة طريقك الوحيد لفهم المكان الجديد. فأنت، كمهاجر، تقف دوماً في المنتصف؛ فلا أنت ابن البلد، ولست غريباً تماماً. تبحث عن صوت يشبهك، ليسهل عليك احتمال الصمت الثقيل في القطارات، أو ضجيج المدن الذي لا تعرفه بعد.

الغرابة هي العادية

ما زلت أذكر أول مرة شاهدت فيها شابّاً وفتاةً في عناق طويل عند باب القطار، يودعان بعضهما وكأنّ أحدهما ذاهب إلى الحرب، برغم أنّ وجهته لا تبعد سوى مدينة واحدة. في البداية وقفت متسمّراً من شدّة المفاجأة. تساءلت إن كنت قد دخلت عرضاً سينمائياً مصغّراً دون قصد.

بعد أيام قليلة، أدركت أنّ هذا العرض يتكرر يومياً، في المشهد نفسه، والمشاعر ذاتها. أصبح مألوفاً إلى حدّ أنني أحياناً أبتسم حين أراه، وأحياناً أتحاشاه، كمن شاهد الفيلم ذاته مرات كثيرةً، ولم يعد يرغب في مشاهدة النهاية مجدداً.

في هذا الفضاء الرمادي المليء بالحركة، كلّ رصيف يحمل عرضاً مختلفاً، قد لا يكون عاطفياً، لكنه مسرحي بما يكفي ليثير الدهشة والحيرة.

في ’البانهوف‘، تتداخل مشاهد الوداع العاطفي الجياش مع استعراضات ورقصات صاخبة، فتغدو الغرابة مألوفة، ويصبح الصمت اللغة الوحيدة لروّاد المحطة

ذات مرّة، رأيت شابّاً يسقط فجأةً ليبدأ بتقليد زحف السحلية أو الثعبان، مطلقاً أصواتاً غريبةً تثير الدهشة والتساؤل، وأحياناً كان يتحدث مع الركاب بأسلوب فكاهي قسري، وذلك كله من أجل تصوير مقاطع فيديو "تراند" لمتابعيه على تيك توك أو يوتيوب.

هذه العروض ليست مضحكةً دائماً، بل قد تكون ثقيلة الظل ومزعجةً، خاصةً حين يكون الجمهور مجرد ركاب يريدون فقط الوصول إلى وجهتهم بهدوء، لا أن يكونوا جزءاً من مقطع فيديو سينتهي على أحد مواقع التواصل الاجتماعي.

كان عليّ أن أتظاهر بأنني لا أرى هذا الكمّ من عروض "التراند" القسرية، لكن في الحقيقة، لا يمكنك الهروب من هذه المشاهد. لم أكن أعرف كيف أتعامل معها. هل أضحك؟ هل أُشفق على أصحابها؟ أو أُخرج هاتفي وأصوّر أنا الآخر؟ لكنني، كما يفعل معظم الناس، أمرّ بجانبهم بصمت، وكأنني لا أراهم، برغم أنني كنت أراهم أكثر مما يجب.

في "البانهوف"، تصبح العادية عملاً نادراً، وتصبح الغرابة هي النمط.

هارب من "التكت"

إذا لم يسرق العاشق أو التيكتوكر انتباهك في القطار، فربما يسرقه ذلك الراكب القلق الذي يلتفت يمينا ويساراً لا لأنه نسي شيئاً، بل لأنه ببساطة لا يملك "تكت" القطار (التذكرة).

توتر ظاهر. عيناه كالرادار تترقب ظهور مفتش التذاكر، وهنا تبدأ فصول كوميديا من نوع آخر. إذ يتظاهر بعض المخالفين بالنوم فجأةً على أمل أن يتجاهلهم المفتّش، بينما آخرون يبدؤون بالتحدث عبر الهاتف بلغات غريبة، كأنها تعويذة دفاعية ضد الغرامة.

‘قطتي أكلت التذكرة‘ ليست أغرب حجة يختلقها الركاب المتهربون، بل واحدة من سلسلة أعذار تتراوح بين النوم المفاجئ والهرب إلى الحمّام، بينما تظل أعين المفتشين مدرّبة على التمييز بين الحقيقة والتمثيل

منهم من يختار خطةً أكثر دراميةً، وهي الركض نحو التواليت وإغلاق بابه وكأنه يلجأ إلى غرفة طوارئ. لكنها حيلة أصبحت مكشوفةً جداً، فغالباً ما ينتظره المفتش عند الباب بابتسامة المنتصر. 

آخرون يحاولون التهرب بادعائهم ببراعة أنهم لا يفهمون الألمانية، أو يبدؤون بالبحث بجنون عن تذكرة وهمية غير موجودة أصلاً. وفي بعض الحالات، حين يدرك المخالف أنه محاصر، يبدأ بالتوسل، أو بإطلاق أعذار مرتجلة مثل: "نسيت التكت في جيب البنطال الثاني"، أو "قطتي أكلته"، لكن كل هذه الحجج لا تمرّ على المفتشين الذين تدرّبوا على سماع الأعذار أكثر مما تدربوا على فحص التذاكر.

فالمخالفة لا تعني فقط دفع 60 يورو، بل في حال تكرارها قد تتحول إلى سِجلّ قانوني، وربما منع لاحق من استخدام بعض وسائل النقل.

في هذه اللحظة، لا يعود القطار وسيلةً تنقلك فحسب، بل يصبح مسرح مطاردة صغيرة، والركاب هم الجمهور الصامت الذي يراقب النتيجة.

التهمّة في انتظارك 

صديقي محمد، الذي أنهكه يوم طويل من العمل، كان يقف على أطراف الرصيف، يدخن سيجارته ويتحدث بهدوء على الهاتف. صوته العربي لفت انتباه رجل بدا عليه التعب، وبرفقته فتاة في السادسة عشرة تقريباً. اقترب منه بخجل، وبلغة عربية متقطعة سأله: "أخي، كيف نروح لهالعنوان؟".

كانت بيده ورقة مكتوب عليها اسم "الكامب"، وقد بدا واضحاً أنه وصل للتو إلى ألمانيا، ولا يعرف شيئاً عن القطارات، ولا كيف تُقرأ الجداول، أو من أين يبدأ. الفتاة كانت شاردةً وخائفةً، وعيناها لا تفارقان الأرض.

بحسن نية، بل ربما بدافع فطري من التضامن، قرر محمد مساعدتهما. قطع لهما التذاكر، وشرح لهما موعد القطار، وأكد عليهما أن ينتظرا هنا حتى يحين الوقت.

لحظات قليلة فقط، وظهر عناصر الشرطة. نظراتهم الثابتة، ثم خطواتهم السريعة، ثم سؤال مباشر: "من هؤلاء؟ كيف تعرفهم؟ ولماذا تساعدهم؟". التهمة كانت جاهزةً: مهرّب بشر.

تم توقيف الجميع، الرجل وابنته ومحمد أيضاً. تم التحقيق معهم لساعات. مراجعة كاميرات المراقبة، وتطابق القصة، أنقذاه من ورطة لم يتخيّل يوماً أن يقع فيها.

خرج بعدها بريئاً من الشبهة، لكنه ليس الرجل الذي دخل. قال لي بجملة واحدة فقط، لم أنسَها حتى الآن: "في ألمانيا، لا يكفي أن تكون نيّتك طيبةً، عليك أن تتأكد أنّ القانون يعرف ذلك أيضاً".

الأناقة لا تتقاعد

بينما كنت أحاول فهم شبكة القطارات وكأنني أفكّ شيفرةً معقدةً، فجأةً وفي زحمة "البانهوف"، وبين أصوات الإعلانات وصفير القطارات، ظهرت سيدة أنيقة تسرق الأضواء. لا، ليست "فاشينيستا" شابّةً تنسّق ملابسها لأجل جلسة تصوير، بل سيدة مسنّة، بخطوات هادئة وثقة ناعمة، تشبه تماماً خطوات من لا تهمّه نظرات الآخرين، لأنه يعرف مسبقاً أنه مثير للإعجاب.

معطف طويل من المخمل الأخضر الداكن، قبعة كلاسيكية صغيرة مزيّنة بريشة، أحمر شفاه خفيف، وكأنها خرجت للتو من العصر الفيكتوري. وقفت تنتظر القطار برصانة نبيلة، تحمل حقيبة يد أنيقةً، وكأنّ موعدها التالي ليس في قطار إقليمي، بل في صالون أدبي من القرن التاسع عشر. تلك الأناقة المتجذرة في الزمن، بدت كأنها تتحدى فوضى العصر وسرعته.

مشهد يذكّرك بأنّ بعض السيدات لا يعرفن التقاعد من الأناقة، بل يمارسنّها كجزء من روتينهنّ اليومي، كصلاة صباحية لا تؤجَّل.

لحظة تأمّل

لكن وسط هذه الفوضى المتناثرة، ووسط أصوات القطارات وصفارات التنبيه وهمسات الباعة وصرخات العشاق، يحدث شيء غريب. لحظة صمت داخلي. كأنّ ضجيج "البانهوف" بكامله يدفعك للتراجع خطوة إلى الخلف، لا جسدياً، بل وجودياً. أراقب المشهد كمن خرج من شاشة العرض، وجلس في الصف الأول يتأمل حياته تُعرض عليه من بعيد.

من سوريا إلى تركيا إلى هنا، ومن الحواجز إلى الحدود إلى "البانهوف"، يتغير كل شيء ولا يتغير شيء. اللغة تتبدل، الملابس تتبدل، وحتى رائحة المكان تتبدل، لكن غصّة الغريب في داخلك تظل ثابتةً. غصّة من لا ينتمي تماماً، لكنه لا يستطيع المغادرة أيضاً. أضحك في سرّي: من كان يصدّق أن محطة قطار ستصبح مرآةً لأحوال قلب مهاجر؟ وأن "البانهوف" سيصير قياساً لدرجة اندماجي، أو لدرجة نجاتي النفسية؟

ربما نحن ننجو عندما نبدأ بالنظر، لا عندما نفهم. وربما كل ما نراه هنا، من الحشيش إلى "البوتوكس"، مجرد أعراض جانبية لعالم يُعاد تكوينه من جديد، ونحن فقط نحاول ألّا نُسحق تحت عجلاته.

وعندما يصفّر القطار القادم، أستجمع نفسي، ألتقط حقيبتي، وأواصل المشي في المحطة، كأيّ شخص عادي يبدو وكأنه يعرف وجهته. 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image