في مواجهة عاصفة من الغضب الشعبي بعد الإفراج عن عشرات من عناصر النظام السابق، بمن فيهم بعض رجالات النظام السابق المثيرين للجدل، مثل فادي صقر، قدّم رئيس الهيئة العليا للسلم الأهلي، حسن صوفان، رؤيةً فلسفيةً وسياسيةً صارخةً: "الاستقرار أولاً، والعدالة الانتقالية لاحقاً، ولو كان الثمن إفلات بعض المتهمين من العقاب الفوري".
هذه الرؤية، التي جسّدتها تصريحات صوفان، في مؤتمره الصحافي يوم الثلاثاء 10 حزيران/ يونيو الجاري، تضع البلاد أمام معضلة وجودية في أهم مراحلها الانتقالية الحساسة.
وضع صوفان السلم الأهلي فوق كل شيء، مصرّاً على أنّ غياب الحدّ الأدنى من الأمن والاستقرار (السلم الأهلي)، يجعل تحقيق العدالة الانتقالية "مستحيلاً". بناءً على هذا، تقدّم اللجنة جهود "حقن الدماء" ومنع التصعيد، حتى لو تطلب ذلك منح "الأمان" وإطلاق سراح شخصيات مثيرة للجدل، كشرط مسبق لتهيئة الأرضية لعدالة مستقبلية.
هذه النظرة الواقعية -وإن بدت منطقيةً من زاوية تقليل الخسائر الحالية- تصطدم مباشرةً بتوقعات ضحايا النظام السابق، وأسرهم، إذ يرون فيها تنازلاً خطيراً عن حقّهم في المحاسبة.
من يمتلك حق التنازل عن محاسبة المجرمين؟
يمثّل الإفراج عن صقر (الرجل القوي السابق في قوات الدفاع الوطني المتهمة بارتكاب جرائم حرب)، جرحاً نازفاً، ولعلّ دفاع صوفان عنه بزعم "دوره الإيجابي" و"مساهمته في حقن الدماء"، أكثر إثارةً للغضب حتى. ثم إنّ غياب التفاصيل والأدلة العلنية المقنعة حول هذا "الدور الإيجابي"، جعل تصريحات صوفان تبدو كتبرير هشّ وباهت، حتى وصفته الصحافة بأنه تحوّل إلى "محامٍ للشيطان".
إنّ الرسالة التي يبعثها هذا الإفراج خطيرة، فالتعاون مع السلطة الحالية قد يكون طريق النجاة، بغضّ النظر عن الماضي المغرِق في الوحشية.
وتتمثّل رسالة خطيرة أخرى في تأكيد صوفان، هي أنّ العدالة الانتقالية في منظور اللجنة لا تعني "محاسبة مطلقة للجميع"، بل التركيز على "كبار المجرمين والمخططين"، مع نبذ تجريم الأشخاص لمجرد الانتماء الجغرافي.
يرى رئيس الهيئة العليا للسلم الأهلي، حسن صوفان، أن السلم الأهلي شرط أولي قبل تحقيق العدالة الانتقالية، حتى ولو تطلّب الأمر الإفراج عن شخصيات متورطة في جرائم ضد الشعب السوري. هذه المقاربة تصطدم بتوقّعات الضحايا الذين يعتبرون الإفلات من العقاب خيانة لدمائهم ودماء أحبتهم، وتثير سؤالًا وجودياً: عمّن يمتلك حق التنازل عن المحاسبة؟
وبينما يحمي هذا النهج من الانتقام العشوائي، فإنه يثير مخاوف جدّيةً من إهدار حقوق آلاف الضحايا الذين عانوا على أيدي عناصر ليسوا بالضرورة من "كبار المجرمين"، لكن جرائمهم لا تقل فظاعةً؛ مثلاً أمجد يوسف صاحب مجزرة التضامن، الذي كان يعمل تحت إمرة فادي صقر. والسؤال المركزي هنا: متى وكيف ستُحاسب هذه الفئة؟ وهل سيصبح التأجيل نسياناً؟
هل القرار فعلاً بيد اللجنة؟
برغم عائديتها للقصر الرئاسي، إلا أنّ صلاحيات اللجنة هشّة، ودورها حسب صوفان، هو "الطلب" فقط من وزارة الداخلية، للإفراج عن الموقوفين بعد التحقيقات، بينما "التنفيذ عائد للوزارة"، واختيار التوقيت "أمر عائد للدولة". هذا يجعل اللجنة كبش فداء لقرارات تتخذها جهات أخرى، ويُضعف الثقة بها كطرف فاعل ومستقلّ.
يثير كون عمل اللجنة محصوراً ضمن قوانين الدولة السورية الحالية، دون معايير دولية مقبولة للعدالة الانتقالية أو مرجعية قانونية مستقلة، شكوكاً عميقةً حول نزاهة وفعالية إجراءاتها، خاصةً مع الإعلان عن تحقيقات "سرّية" في ملفات شائكة مثل الساحل. إلى جانب لجوء صوفان، إلى بعض الآيات القرآنية لتبرير بعض أعمال لجنته، ولجنة العدالة الانتقالية، والحكومة السورية الحالية.
رغم تبعيتها للقصر الرئاسي، تبدو اللجنة مجرد وسيط إداري بلا نفوذ حقيقي. فالتنفيذ بيد وزارة الداخلية، والتوقيت بيد الدولة، ومعايير العدالة غير واضحة أو شفافة.
لكن اعتراف صوفان، بـ"كثير من التقصير" في إطلاع الرأي العام على المستجدات، ووصفه إيّاه بأنه "أول عائق" يواجه اللجنة، يكشفان عن خلل خطير في عمل اللجنة، ما يشكّل فجوةً كارثيةً في الشفافية. فكيف تُبنى مصالحة وطنية دون ثقة شعبية ودون إشراك المجتمع في فهم مبررات القرارات الصعبة والتضحيات المطلوبة؟ كما أنّ وعد صوفان، بتحسين التواصل مع الناس يبدو غير كافٍ أمام حجم الغضب وانعدام الثقة الحالي.
أيضاً حدود العمل، والاختباء خلف الصلاحيات، ونفي وجود أي عمل للّجنة في مناطق شرق الفرات، بالإضافة إلى رد صوفان على اتهامات "قسد" بأن التعليق عليها من "صلاحيات الرئيس"، كلها تعزّز الانطباع عند الجميع بضعف استقلالية اللجنة وهامش عملها الضيق، وخضوعها التام للسلطة التنفيذية.
يقدّم صوفان، رؤيته كـ"خيارات واقعية" ضرورية لتغليب "صوت العقل"، ومنع مزيد من سفك الدماء، معترفاً ضمناً بالثمن الباهظ وهو تأجيل العدالة، الذي سيسبب استياءً صارخاً للضحايا. ويربط أيضاً بين تحقيق "الحد الأدنى من العدالة"، والاستقرار الحالي، على أمل أن يمهّد هذا لـ"حلول أوسع" في المستقبل تبدو نظريّةً حتى اللحظة.
غضب مكبوت كرامة للسلم الأهلي؟
لكن السؤال المصيري يظلّ قائماً: هل يمكن لـ"سلم أهلي" أن يقوم ويتأسس فعلاً، على أنقاض عدالة مؤجلة، وغضب مكبوت لأهل الضحايا، وغياب ثقة شعبية؟ أم أنّ مسرحية المؤتمر الصحافي الأخير لن تبني لأهل الضحايا سوى عروش من ورق قابلة للانهيار عند أول هزّة؟
الاعتراف من قبل صوفان بأنّ "معاناة الضحايا تعتريهم"، خطوة ضرورية، لكنها تبقى كلمات تحتاج إلى ترجمة فعلية ملموسة.
يربط صوفان بين "الحد الأدنى من العدالة" و"الاستقرار السياسي"، لكن غياب المشاركة الشعبية وممثلي الضحايا، وانعدام الشفافية، يخلق شعوراً جماعياً بالغضب والانفصال. والسؤال المصيري يبقى: هل يمكن بناء سلم أهلي على ذاكرة ممزقة وغضب مكبوت؟
فنجاح مسار السلم الأهلي، أو فشله، مرهونان الآن بقدرة اللجنة والسلطة في دمشق، على جسر الهوّة الهائلة مع الشارع السوري، من خلال شفافية غير مسبوقة، في المبررات والمعايير والإجراءات التنفيذية.
كذلك يجب أن تكون هناك مشاركة حقيقية، لممثلي الضحايا والمجتمع المدني في صياغة مسار العدالة الانتقالية.
وبالطبع فإنّ إجراءات استعادة الثقة من قبل لجنة السلم الأهلي، ولجنة التحقيق الخاصة بأحداث الساحل، والحكومة على حدّ سواء، تثبت بشكل عملي أنّ تأخير العدالة ليس إنكاراً لها، وأنّ هناك خطةً واضحةً ومحددةً زمنياً، ووعود صوفان بمبادرات جديدة ستواجه اختباراً قاسياً على أرض الواقع وفي قلوب السوريين الغاضبين والمشككين.
فمعضلة الاستقرار مقابل العدالة ليست نظريةً؛ إنها تحدٍّ وجودي حقيقي لمستقبل سوريا.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Tayma shreet -
منذ 20 دقيقةGreat !
Mohammed Alamir -
منذ يوم❤️?
Bassel Hany -
منذ 4 أيام♥️
Bassel Hany -
منذ 4 أيام♥️
Bassel Hany -
منذ 4 أيام♥️
Bahta Bahta -
منذ 6 أياملم يفهم مذا تقصد