
"كنتُ بشتقلك وأنا وإنتَ هنا"... باغتني صوت أم كلثوم الذي لا يخطئه القلب قبل الأذن، في إحدى ليالي أمستردام. استوقفني صوتها القويّ، القادم من ألف نافذة في الذاكرة، فالتفتُّ وسألتُ زوجي: "هل ما سمعته حقيقي؟"، فأومأ برأسه موافقاً قبل أن يقول: "لنرَ من أين يأتي".
سحب الغناء أقدامنا لنجد أنفسنا أمام نادٍ ليلي يعجّ بشبان وشابات تبدو على ملامحهم/ نّ العربية السعادة والسرور، وهم يرقصون ويغنّون بانسجام، فيما يلوّح الهولنديون بأيديهم مع أول نغمة لأغنية أم كلثوم، وكأنهم يعرفونها منذ الصغر. في الزاوية، شابّ سوري يعلّم أصدقاءه الأوروبيين خطوات الدبكة، وهم يحاولون مجاراته بحبور الثملين.
فضاء ثالث
كان النادي الليلي أشبه بتقاطع بين الثقافات: موسيقى عربية تُعزف في قلب أوروبا، وجمهور متعدد الجنسيات من الأوروبيين والعرب ومن جنسيات مهاجرة مختلفة ممن جمعتهم أمستردام في أزقّتها. لم تكن الموسيقى مجرد وسيلة للترفيه أو الحنين إلى الوطن والذكريات الجميلة، بل نافذة مفتوحة تُعيد رسم ملامح هوية بدأت تتشكل في المهجر وتعبّر عن ذاتها.
في هذه الحفلات، تتلاشى الفروقات بين العربي والأوروبي، وتنساب الهويّة بسلاسة على سلّم الموسيقى. هنا، يختلط صدى العود بإيقاعات "الدي جي"، وتذوب خطوات الدبكة في صخب "الهاوس"، بينما تختفي الوجوه خلف ابتسامات لا تحتاج إلى جواز سفر.
شهدت هولندا مؤخراً تطوراً لافتًا في الفعاليات الموسيقية العربية؛ إذ تحوّل الحنين الثقافي إلى حركة موسيقية راسخة في مدن مثل أمستردام وروتردام وأوتريخت
في هذا الفضاء الهجين، يُصاغ مشهد موسيقي جديد، ليس شرقيّاً بالكامل وليس غربيّاً بالكامل، بل هو "الفضاء الثالث" الذي يلتقي فيه الحنين الشرقي بشغف الأوروبيين: دفء صوت أم كلثوم، والإيقاع الفريد الذي لا يشبه إلا نفسه.
تشهد أوروبا أخيراً، حضوراً ملحوظاً للفعاليات الموسيقية العربية. بدأ هذا الحضور كمبادرات صغيرة دفع الحنين أصحابها إلى إحياء ثقافتهم الموسيقية والتعريف بها. لكن ما كان تجربةً عابرةً تحوّل إلى مشهد موسيقي متنامٍ بل ومتجذّر في مدن أوروبية عدة، أبرزها أمستردام وروتردام وأوتريخت وغيرها.
لم تعد هذه الفعاليات حكراً على الجاليات العربية، بل باتت تستقطب جمهوراً متنوّعاً، أغلبه من الهولنديين والأوروبيين، ولعلّ فعاليات "ديسكو أرابيسكو"، من أبرز الأمثلة على هذا التحوّل في اندماج الموسيقى العربية في النسيج الثقافي الأوروبي المعاصر.
مساحة هجينة
تأسس "ديسكو أرابسكو"، في أمستردام عام 2019، على يد "الدي جي" المصري الهولندي معتز راغب، بدافع حنينه إلى أشرطة الكاسيت العربية القديمة من سبعينيات القرن الماضي وثمانينياته.
أراد من خلال هذه الفعاليات إحياء التراث الموسيقي العربي بأسلوب معاصر، دامجاً أنغام الشرق بإيقاعات الغرب كـ"الهاوس" و"الفانك" و"الديسكو". ومع مرور الوقت، تحوّلت الحفلة إلى مساحة هجينة عابرة للثقافات.
مغامرة ‘ديسكو أرابيسكو‘ لا تُكرّر الصور النمطية عن العالم العربي، بل تكشف ثقافة نابضة بالحياة تستحق الاحتفاء والاستمتاع بها
بُشرى يوسف (29 عاماً)، طالبة ماجستير في الإعلام في إحدى الجامعات الهنغارية مقيمة في هولندا، ترفّه عن نفسها بين الحين والآخر بحضور فعاليات موسيقية في "ديسكو أرابيسكو". تقول لرصيف22 :"كنت أفتقد هذا النوع من الحفلات. شعرت بأنني في وطني، وشعرت بفخر حين رأيت الثقافة والموسيقى العربيتين تنتشران في مدينة مثل أمستردام".
وتكمل: "بحسب ما رأيته، كان حضور غير العرب كبيراً، ولو لم يكن هؤلاء فعلاً يحبّون الموسيقى العربية، لما انتظروا في طابور استمرّ لساعة ونصف الساعة للدخول إلى الحفلة. وهذا يؤكد أنّ الموسيقى العربية بدأت فعلاً تشقّ طريقها إلى المشهد الليلي الأوروبي. فعندما يقف أشخاص هذا الوقت كله من أجل الاستماع إلى موسيقانا، فإنّ هذا بحد ذاته يُعدّ إنجازاً".
تأتي مغامرة "ديسكو أرابيسكو" الموسيقية خارج الاختزال النمطي السائد الذي وُضع فيه العالم العربي كمرادف للحروب والمآسي، إذ تسعى إلى تقديم الثقافة العربية بصورة مختلفة، نابضة بالحياة، وجديرة بالاحتفاء.
الدمج بالطرب
تقول بشرى: "الموسيقى أداة فاعلة في تعزيز التقارب الثقافي، ولا سيّما في المجتمعات الأوروبية، فهي لغة عالمية تستطيع أن تنقلنا من عالم إلى آخر حتى لو لم نفهم الكلمات. لا، الموسيقى وحدها لا تكفي للاندماج، ولا يمكن أن تحلّ محلّ مؤسسات الاندماج، لكنها بالتأكيد وسيلة من وسائل التقارب بين الثقافات والشعوب. نحن مثلاً لم نزُر إسبانيا في حياتنا، لكن الموسيقى الإسبانية استطاعت أن تُدخلنا في أجوائها، وتحبّبنا إليها، إلى درجة أنها تغرينا بسماعها باستمرار".
وعن تجربة الاندماج من خلال الموسيقى، تروي آيات حريدين (33 عاماً)، وهي تعزف على آلة الكمان ضمن كورال "New life"، في مدينة خروننجن في هولندا، لرصيف22: "لقد استطاعت الموسيقى العربية أن تصل إلى الجميع، لأنها عظيمة في جوهرها؛ فالكلمة العربية، واللحن العربي، والنغمة الشرقية، جميعها تحمل طابعاً عالمياً. وأنا على يقين بأنّ الثقافة العربية، سواء كانت موسيقيةً أو أدبيةً أو شعريةً، تحظى بالاهتمام والاحترام في مختلف أنحاء العالم، ولها حضور كبير وقبول واسع".
وتكمل: "الموسيقى، بطبيعتها، لغة كونية تتجاوز الحواجز اللغوية والثقافية، وتخترق القيود التي قد تفرضها الأحرف أو الكلمات غير المألوفة. إنها قادرة على الوصول إلى الجميع. والموسيقى العربية تحديداً، لها جمهور واسع في كل بلد، وقد نجحت في خلق مساحات حقيقية للاندماج، وغالباً ما تتفوق في تأثيرها على مؤسسات الاندماج الرسمية. فهي، مهما كان نوعها، تصل إلى القلب والأذن والروح بسرعة، لأنها ببساطة لغة الروح، وهذا ما يجعلها أبلغ من أي خطاب أو وسيلة تعبير أخرى".
الامتنان بالغناء
كارلا نبكي (26 عاماً)، سورية مقيمة في هولندا ومؤسسة فرقة "New Life Choir"، تروي لرصيف22، تجربتها في الاستفادة من موهبتها في الغناء والعزف للتعريف بهويتها، فتقول: "عند وصولي إلى مركز اللاجئين، شاركت في أنشطة Meet & Greet، وهي أنشطة لا منهجية تسهم في الدمج من خلال أنشطة متنوّعة مثل الطبخ المشترك مع الهولنديين. وفي إحدى تلك اللقاءات، اقترحت إنشاء فرقة غنائية للمشاركة في احتفال 'سنتر كلاس' التقليدي، وهي الشخصية الهولندية المشابهة لسانتا كلوز، ويُحتفل بها في الأول من كانون الأول/ ديسمبر من كل عام".
نجحت الفرق الموسيقية العربية في المهجر في بناء جسر ثقافي حيّ مع الجمهور الأوروبي عبر موسيقاها التي تتجاوز اللغة إلى تقاربٍ إنساني مشترك
تُضيف نبكي: "شكّلنا الفرقة بسرعة، واستعنا بخبرة زميل من كورال حلب ليعلّمنا التناغم الصوتي. وتواصلنا مع جهات ثقافية زوّدتنا بأغانٍ يحبّها الهولنديون مثل أغنية 'Ik houd van jou'. تعلّمناها وأدّيناها بطابع شرقي خفيف، مع الحفاظ على روحها الأصلية ومضمونها اللغوي".
وتواصل كارلا حديثها: "بدأت الفكرة كتعبير عن امتناننا للهولنديين الذين رحّبوا بنا، ومع الوقت تحولت إلى فرقة تؤكد أنّ اللاجئين يحملون فكراً وطاقات ومواهب. برغم التحديات مثل الحواجز اللغوية وضيق غرفة التدريب، تمكّننا من تقديم أغنيات عربية، خاصةً لفيروز، بجانب أغانٍ هولندية، في محاولة لتعزيز التواصل الثقافي بين الشرق والغرب".
الغناء من اليسار إلى اليمين
تعبّر نبكي، عن تجربتها في الاندماج في المجتمع الهولندي عبر الكورال، بالقول: "أسّسنا جسراً ثقافياً وتعرّفنا إلى العديد من الأشخاص خارج إطار الموسيقى، فتجاوزت العلاقات حدود كونها مجرد تعاون موسيقي، لتصبح روابط إنسانيةً حقيقيةً؛ لم تُبنَ بالكلام أو الشعر، بل بالموسيقى وحدها".
وتستذكر أثر الفرقة على الجمهور قائلةً: "خلال حفلاتنا، روينا قصصنا وقدّمنا عروضاً عن سوريا، ولاحظنا تأثر الجمهور بشدّة: تنهمر دموعهم، ثم يقتربون لطرح المزيد من الأسئلة، ما أكّد لنا وجود اهتمام صادق بقصصنا".
كما شاركت الفرقة في برامج تلفزيونية وإذاعية، من بينها فعالية "Sound of Change"، حيث غنّى لاجئون عرب مع فنّانين هولنديين مثل Caro Emerald، ما أكد وجود تأثير وتغيير، وإن لم يظهرا بشكل ملموس بعد.
وتختم: "برغم أنّ إنجازاتنا إيجابية ومُحفّزة، يبقى أيّ تصرّف سيئ صادر عن مقيم من أصول مهاجرة كافياً لإلغائها؛ خصوصاً في ظلّ تحوّل الخطاب السياسي من يساري متسامح إلى يميني متشدّد يسعى لإعادة اللاجئين إلى بلادهم".
"وردة" أبلغ من الكلام
في أحد المطاعم الشرقية في أمستردام، وعلى أنغام عود أحمد (27 عاماً) -الذي اكتفى بذكر اسمه الأول- وهو يدندن أغنيةً لوردة الجزائرية التي يصدح صوتها في ردهة المطعم، قاطعه زبون هولندي بدهشة قائلاً: "كيف يمكن أن ندعو هذه السيدة للغناء هنا؟". ابتسم أحمد وأجاب ببساطة: "لا يمكن، فقد توفيت قبل وقت". ولخّص له شيئاً من سيرة وردة الجزائرية، قبل أن يسأله مجدداً: "ولماذا تحب أن تعيد عزف أغانٍ لمغنّية تكبرك بأجيال؟"، فردّ أحمد قائلاً: "لأنها ببساطة جزء من ذاكرة المنطقة وعاطفتها".
تلك اللحظة العابرة ليست مجرد حوار طريف في مطعم، بل هي تعبير عن كيفية عبور الموسيقى للزمن والحدود، وارتباطها العميق بالهوية والحنين. فمنذ عقود طويلة، أرهقت الحروب المنطقة العربية وأفرغتها من كثير من مفرداتها التي تثير الشجن في النفوس، خاصةً في قلوب المغتربين والمهاجرين. لكن الموسيقى وجدت طريقها نحو الضفة الأخرى من العالم. وما كان حينها مجرد متنفس لأبناء الشتات، أصبح اليوم لغة تقاطع تثير البهجة في النفوس.
فالظاهرة لا تقتصر على البارات أو صالات الرقص، بل تفتح باباً واسعاً لنقاش أشمل حول العيش المشترك والهوية الثقافية؛ فالموسيقى، بكل ما تحمله من عذوبة وعمق، نجحت في خلق مساحة ينتمي إليها الجميع دون أن يضطر أحدهم إلى التخلي عمّن يكون.
وفي نهاية تلك الليالي، حين تخفت الأضواء وتبرد الأرصفة، يبقى الأثر: إحساس عابر لكنه صادق بأننا، لوهلة، رقصنا جميعاً على الإيقاع نفسه، وتشاركنا لحظةً إنسانيةً نادرةً وسط عالم مزدحم بالاختلافات.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Alamir -
منذ 23 ساعة❤️?
Bassel Hany -
منذ 4 أيام♥️
Bassel Hany -
منذ 4 أيام♥️
Bassel Hany -
منذ 4 أيام♥️
Bahta Bahta -
منذ 6 أياملم يفهم مذا تقصد
Tayma shreet -
منذ 6 أيامWow !