الحملان تعرف الطريق… حكاية جدّتي من سيدي براني إلى الإسكندرية

الحملان تعرف الطريق… حكاية جدّتي من سيدي براني إلى الإسكندرية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الخميس 5 يونيو 202509:57 ص

قبل شهر من عيد الأضحى، وقفتُ مع جاري عند "الدرابزين" نتحدث عن إصلاحات العمارة. وجاري دائم الجدل حول التفاصيل. لم نصل يوماً إلى اتفاق، لكن هذه المرة قال جملتَين بنبرة بدت لي غريبةً، نبرة من يتعرّف إلى نفسه فجأةً، ثم حسم خلافنا المزمن حول خطة الإصلاح. فما الذي جدّ؟

كان جاري قد اشترى خروفاً لأول مرة منذ أن عرفته. بدا مبتهجاً طوال اليوم، وترك الحذاء الذي كان يلمّعه، وأخرج من جيب بيجامته ميدالية مفاتيح: نجمة من صفيح، محفور عليها الرقم ذاته الموجود في أذن خروفه الذي سيُذبح اليوم. أتذكّر والده الذي كان يُدخل الخروف إلى المنزل خفيةً بعد العشاء، خوفاً من أن يقع عليه النظر.

اليوم تُعلَّق في أذن الخروف، بعد بيعه، حلقة معدنيّة صغيرة تحمل رقم المشتري. تظلّ معه حتى لحظة الذبح. أصرّ ابني على أن نذهب لرؤية الحملان خلف محل الجزارة. هناك، كان يمكن تمييز بعض الجيران وهم يحملون ميداليات بأرقام خرافهم. بعضهم يحرّك عينيه فحسب، وبعضهم يتمايل بجسده مع خروفه من خلف السياج. وكان في الجوّ امتلاء غريب، كأنّ الخراف تنسلّ وتنساب إلى جوف الجيران.

انبرى طفل فجأةً، وانتزع الميدالية من يد أبيه، ودعك الرقم بيده ووجهه نحو خروفه، كأنّه يحاول حمايته من مصيره. لم يكن الخروف بالنسبة له طعاماً محتملاً، بل المستأنس الوحيد في هذا المكان، خفيف التواجد، لا يظهر إلا مع الإجازة والراحة.

هربت جدّتي من معركة سيدي براني، عام 1940، حين حاولت إيطاليا التوغل في الصحراء الغربية، فتصدّت لها القوات البريطانية. عبرت الصحراء من السلوم إلى العلمين، في رحلة انتهت بها عند أقارب لها في الإسكندرية.

رأيت في الأرقام المحفورة في حلق الخراف ظلّاً لشيء منسيّ، مألوف، كأرقام الكروت التي استخدمتها جدّتي يوماً لإدارة تجارة العائلة؛ بدلاً من الكتابة كانت تستخدم لغةً في الأرقام لا يعرفها أحد غيرها.

هربت جدّتي من معركة سيدي براني، عام 1940، حين حاولت إيطاليا التوغل في الصحراء الغربية، فتصدّت لها القوات البريطانية. عبرت الصحراء من السلوم إلى العلمين، في رحلة انتهت بها عند أقارب لها في الإسكندرية. هذه أولى الحكايات في عائلتي: طفلة بدويّة في الثانية عشرة من عمرها، فقدت والدَيها بسبب الجوع، وخاضت الطريق مع راعي أغنام. كانت تختبئ بين القطيع، تأكل مما تأكل الخراف، وتدفئ جسدها بصوف الحملان، قبل أن تكتشف أنّ الراعي يهرّب الذهب. تركته في منتصف الطريق، وكادت تهلك قبل أن تصل.

قضيت طفولةً متقطعةً في منزل جدّتي، وكانت الحكاية المفضّلة لي قبل النوم، حين تنسج لي قصصاً عن الجنرال ريتشارد أوكونور، بلكنتها التي تجعل الأسماء لا تُنسى، الجنرال الذي هاجم المواقع الإيطالية في سيدي براني، وخادمته التي حاولت قتله. كانت تبدأ دائماً بقولها إنها هربت قبل الاشتباك. لاحظت التناقض، ولم أخبر أحداً. كنت أراقبها في الليل، إذا غفلت وهي تحكي، مستعدّاً لأن ينبثق منها شيءٌ من روح الأغنام.

كان جدّي تاجر تحف وأنتيكات. وبعد وفاته شابّاً بمرض غامض - يقال إنّ الغزلان تموت من الصدمة حين تقبض ـ تولّت هي إدارة تجارته. تشرّبت أمّي وأخوالي الصنعة منها منذ صغرهم. لم تكن جدّتي "فائقة" ـكما هو منقوش في ختم يتدلّى من صدرهاـ أو "فايقة" كما نناديها، تذهب في سنواتها الأخيرة لمباشرة المحال، إلا في مرات قليلة. ما بقي عالقاً في الذاكرة، بجانب عراكها المكتوم والمنجز مع أصحاب المحال المنافسة، هي طاقيّتها السوداء العادية التي كانت ترتديها دائماً في الخروج، وطقسها السنوي في شراء الحملان الصغيرة، واعتناؤها بها في الحوش الخلفي للمخزن، حيث تراقب أوزانها وتفحص الجلد أسفل أذنيها.

قضيت طفولةً متقطعةً في منزل جدّتي، وكانت الحكاية المفضّلة لي قبل النوم، حين تنسج لي قصصاً عن الجنرال ريتشارد أوكونور، بلكنتها التي تجعل الأسماء لا تُنسى، الجنرال الذي هاجم المواقع الإيطالية في سيدي براني، وخادمته التي حاولت قتله.

في أوائل التسعينيات، حين اضطرت جدّتي إلى تقليص تجارة التحف، صارت تجلب حَمَلاً إلى المنزل الكبير بعد انقضاء عيد الفطر، لترعاه وتُسمّنه حتى يحين موعد ذبحه في عيد الأضحى، ويكون آنذاك في طور تحوّله إلى خروف؛ تتبدّل الرأس أسرع من الجسد.

كانت تمقت إلى هذه الدرجة الطراز الإيطالي الذي بُنيت به العمارة التي عاش فيها جدّي. كان للبيت جناحان متماثلان، ولكل غرفة بابان، تتوسطهما صالة مربعة، تقتطع جزءاً من مساحة المدرسة. في تلك الصالة يُربط الحمل، بحبل مشدود إلى جنزير مثبت في الحائط، طوله متران وثلاثون سنتيمتراً، ينتهي بعنقه، ليمنع العبور إلى المطبخ والحمام.

لم يكن يقلقنا في أثناء نومنا، حتى وهو يخشخش ويكرّر صوته كنذير في الليل. لم يكن وجوده مزعجاً، بل كان أرحم من دقّات الساعة. وكانت تستمرّ الحركة والسهر في البيت؛ فالثانية صباحاً تبدو مثل التاسعة مساءً، وحتى عندما كنا نخلد إلى النوم حين تأتي أمي وأخوالي تباعاً من محال جدّي.

أحد ألطف الأقارب كان ضيفاً غير مرحّب به من قبل جدّتي: ابن شقيق جدّي. لم تنفِ ذلك يوماً، ولم تسخر من الأقاويل التي تزعم أنه يتحول أحياناً إلى قطّ في الليل، لكنها صحّحت مرةً، أمام الجميع على السفرة، بجدّية تامة، قائلةً إنه يتحول إلى ابن آوي، لا إلى قطّ.

كان يكتفي بالابتسام على العشاء، إذا ما شاكسه أحد وتوسع في الحديث. كان جميل الرأس، بعينين لامعتين غريبتين، تنكمش عظمة رقبته حين يبتسم، ويشبه مخلوقاً لم أكن أعرف اسمه آنذاك.

وفي الليالي التي كان يبيت فيها عندنا، لم نكن نخشى تحوّله، بل كنا نخشى أن تبقى جدّتي مستيقظةً بسببه، إذ كان يلعب مع خروف العيد. 

كان البيت يمتلئ في وقفة عيد الأضحى، حيث يقام احتفال بحضور الجزّارين، وهم يرتدون "البالطو" الأبيض. كانوا منظّمين في رتب ومهام. تُعلَّق الزينة، ويشغَّل الكاسيت بصوت عالٍ، ويظلّ باب البيت مفتوحاً، ونستقبل الجيران في العمارة والعمارات المجاورة.

كان البيت يمتلئ في وقفة عيد الأضحى، حيث يقام احتفال بحضور الجزّارين، وهم يرتدون "البالطو" الأبيض. كانوا منظّمين في رتب ومهام. تُعلَّق الزينة، ويشغَّل الكاسيت بصوت عالٍ، ويظلّ باب البيت مفتوحاً، ونستقبل الجيران في العمارة والعمارات المجاورة.


تأتي جدّتي لتجلس على مقعدها وتشاهد الذبح، ونقف جميعاً في دائرة حول الجزّارين والخروف. كانت جدّتي تألف الجزّارين الشباب وهم يبذلون أنفسهم في الذبح. كانت تبدو كأنها تستمع إلى حديث طويل جداًٍ، بصبر وفهم.

نتبارى جميعاٍ، كباراًٍ وصغاراًٍ، في غمس كفوفنا بدم الخروف وبصم الحوائط. كان هناك حائط معدّ للبصم، يقع قبل المطبخ، وعلى خالتي الكبيرة أن تمسح بخفّة خطوط الدم السائل من بصمات الكفوف، لتبقى على اللوحة.

وإذا تزامن العيد مع الطراوة التي تسبق الصيف، يُترك الخروف معلّقاً بعد ذبحه، في "جنش" مثبت بالحائط المقابل للجنزير الذي رُبط فيه.

كنت أسرح في رؤيته منعكساً في زجاج "ضلفتي النيش"، وفي المساحة التي ينظّف فيها الخروف باستمرار، وبشكل فيه هوس.

لم تهذِ جدّتي قبل وفاتها إلا نادراً. كانت تهمس في الليل: زويدة. الكلمة الوحيدة التي ظلّت ترددها. لعلّها اسم القرية التي تلت سيدي براني، في طريقها إلى الإسكندرية، وشعرت فيها يوماً بالارتياح، أو لعلّها القرية الأخرى، التي لم تصلها قطّ، على الطريق المعاكس، بعيداً عن الحرب، وعن كل ما عرفته لاحقاً.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image