شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
شيفرة جدران الإسكندرية

شيفرة جدران الإسكندرية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والتنوّع

الخميس 13 فبراير 202511:16 ص

في طفولتي، كانت أمي تصطحبني في زيارات سرية إلى منزل إحدى صديقاتها. كانت تلك الزيارات محاطة بالغموض، إذ تكذب على أبي بشأنها، وتوصيني بعدم الإفصاح عنها. تكريماً لذكرى أمي، قرّرت البحث عن تلك الصديقة، رغم أنني لا أعرف اسمها ولا عنوانها. كل ما أتذكره من تلك الزيارات هو الشاب الذي كان يرسم على جدار منزلها رجلين يتصارعان. أشكال صغيرة رسمت بأيدٍ دقيقة للغاية، كان يعود إلى الرسم مراراً ليضيف إليه شيئاً جديداً، كأنما ينفخ فيه الحياة.

رغم مرور عشرين عاماً على تلك الأيام، وجدت نفسي مدفوعاً لإعادة بناء المسار الذي سلكناه آنذاك، لاستعادة تفاصيل تلك الزيارات. ظننت أن رحلة البحث قد تكون ممكنة، إذ لا تزال بعض الأحياء القديمة تحتفظ بنقوش وكتابات سكانها. خطتي هي أن أسلك ذات الطريق الذي أحتفظ في ذاكرتي ببعض تفاصيله، وأن أترك كل رسم أو عبارة على الجدران ومداخل العمارات يقودني، خطوة بخطوة، نحو غور المدينة، وصولاً للمنزل المفقود.

وقفت على محطة قطار الرمل الميري، وأثناء انتظار القطار، لفتني نقش خلف حجرة حجز التذاكر. كانت لعبة السيجا محفورة على الحائط، تلك اللعبة التي كنا نعرفها باسم XO. تذكرت على الفور مدرّسي في المرحلة الابتدائية، الرجل الذي عُرف بأخلاقه المهذبة وطيبته الفائقة. لكنه قرّر يوماً ترك التدريس والعيش داخل المحطة. سمعت الكثير من الأقاويل عن تدهور حالته النفسية، وكيف كان يقضي أمسياته يلعب السيجا مع أوغاد الحي.

شيئاً فشيئاً، انتهى به الأمر وحيداً، يواجه الجدار ونقشه المفضل. ذلك النقش الذي اكتشفته اليوم كان أثره الأخير، كأنه أراد أن يترك بصمته في مكان اختار أن يكون عالمه الخاص، عالماً ثابتاً بينما كل شيء من حوله كان يتغير. في خطة إنهاء تشغيل القطارات في الإسكندرية واستبدالها بخطوط المترو الحديثة، تم الإعلان عن إلغاء المحطة. بدا الأمر وكأنه إعلان نهاية للعبة السيجا، خلف حجرة حجز التذاكر.

أبواب عربات القطار تترك مفتوحة بشكل دائم، وحين يكون القطار مسرعاً، تبدو كبوابات زمنية

اخترت مقعداً في عربة القطار قرب الباب، أبواب عربات القطار تترك مفتوحة بشكل دائم، وحين يكون القطار مسرعاً، تبدو كبوابات زمنية. كانت رؤية اسم صديق قديم لي مكتوباً على السور سعادة مباغتة لا تشبه شيئاً آخر. كان يحب أن يكتب اسمه فقط، يتبعه علامة الهاشتاج، وأحياناً حرفين من اسمه، بقلم عريض الحافة باللون الأسود. القطار يمر سريعاً بين محطة السوق وغبريال، وفي كل مرة يظهر اسمه على السور كأنه شهاب عابر. كل ما أستطيع فعله هو الاقتراب من باب عربة القطار، التحديق للحظة خاطفة، واستعادة ملامح وجهه البريئة وابتسامته العطوفة الممزوجة بالتهكم، التي كانت تصلح لكل المواقف.

خسر والده في حادث خلال السنة الأخيرة من دراسته. لسنوات، كانت تلك طريقته في التعبير عن غضبه وحزنه المكتوم> ربما كان يرغب في إعلان دائم عن اقتران اسمه بأبيه، ليحيا سوياً في الجدران. مضت أكثر من عشر سنوات منذ أن كتب اسمه على عمدان النور والأسوار، لكن تلك اللحظة تنبض دائماً كأنها بالأمس.

ها قد اقتربت من الوصول إلى المحطة الأخيرة. الإسكندرية، كأي مدينة، حوائطها عارية للجميع، لكنها تخبئ في مسامها أسرار الأوغاد الذين يعيشون فيها مثل الفطريات، وكأنهم خالدون. لا يطالهم الدهان وعمال البلدية، ولا تغيرهم الفصول. مصابون بغواية الحوائط النظيفة أو الخالية من الكتابة، ينظرون إلينا من الحوائط بنظرات خالية من التعبير، تراقبنا بينما نحن نمضي.

في طفولتي، كانت أكبر الأساطير التي تُروى يومياً هي عن عبارات "جمال الدولي"، مشجع نادي الاتحاد. لقد كان أسطورة حية، يتجاوز نجوم "سيد البلد" في الشهرة. نسج الناس قصصاً عنه من خيالهم، مستندين إلى الحادث الشهير الذي تعرّى فيه في الملعب، وعباراته التي غطت أسوار كامب شيزار والأزاريطة. من ينسى: "أنا بحب ماما وبابا وليلى علوي"، و"متر الوطن بكام".

على بساطتها، كانت تلك العبارات تُفهم، وتُؤوّل، ويعاد اكتشافها مراراً، كأنها أبيات هايكو شعبية: مرحة، جريئة ووقحة بفخر. لم تكن مجرد كلمات، بل كانت مرآة لروحٍ تبحث عن هوية وسط الفوضى. الأطفال والصعاليك كانوا دائماً يسعون لتقليدها، وكأنهم في مسابقة مفتوحة لاكتشاف الذات.

الإسكندرية، كأي مدينة، حوائطها عارية للجميع، لكنها تخبئ في مسامها أسرار الأوغاد الذين يعيشون فيها مثل الفطريات، وكأنهم خالدون. لا يطالهم الدهان وعمال البلدية، ولا تغيرهم الفصول

الجدران لم تكن مجرد سطح، بل كانت دفاتر مفتوحة لأحلامهم وأوهامهم. حتى ولو كانت الكتابة على الجدران واعية جداً لزوالها، كانوا يؤمنون بأن الحوائط لا ينبغي أن تكون نظيفة أبداً، وأنها وُجدت لتروي قصصهم. يخوضون، بقصد أو دون قصد، تنويراً هزلياً عن الحياة، والخيال، والهوية، مستوحى من رجلٍ عاش كأن العالم ملعب كبير، والجدران هي صفحات حياته المفتوحة للجميع.

في أوقات الاضطرابات تصبح الجدران شفرة احتجاج، وتصبح تعبيراً عن الاحتراق في الحب، وعن آلهتنا، وعن أفكارنا التي تدق بداخلنا للخروج. ومن بين هذه العلامات، برز نجم ساطع آخر من نجوم الحوائط: إعلان "التيتي بلياردو"، الذي بدا وكأنه يغزو كل حائط، دون أن يسعى للتشويه أو الاستيلاء على الفضاء. كانت تلك الإعلانات تحمل شيئاً من الغموض، كأنها رسائل سرية تُترك للأعين الفضولية. أحياناً، كنت أتخيله إعلاناً عن ترابيزات بلياردو متخيلة تنزل من السماء، كأنها دعوة خفية للعبة لا تنتهي، حيث تتقاطع الكرات مع أحلام المارة، وتتسع الطاولة لتشمل عوالم بأكملها.

هناك، على أبواب الحمامات العمومية من الداخل، وفي مستوى الجلوس على الكبّانية، تتجلى أقذر وأقبح العبارات. كل كاتب يعرفها، وكل قارئ يمر بها، وكأنها طقس عبور غير معلن. تعليق عن رغبة في معاشرة الرجال، يليه رد برسم مبتذل، ثم تعليق آخر يعيد الحوار إلى بدايته، وصولاً إلى جملة تختصر كل شيء، موجهة إلى الجميع، ممن تركوا آثارهم على الباب. تتحول الأبواب إلى لوحات متجدّدة، يتبادل فيها روّاد الحمامات تعليقاتهم وكأنهم يكتبون على صفحات لا تنتهي.

يضعف التفاعل لسنوات، ثم ينبعث من جديد، كأنما الكلمات ترفض أن تُدفن. يحدث تجاوز لفهم التعليقات، فتتحول إلى خليط من الجنس والعنف والتهريج، كأنها مرآة مشوهة لما يدور في الأعماق. يبدأ كل شيء بفكرة بسيطة: إذا كان يمكنه أن يترك أثراً، فأنا أيضاً أستطيع. هكذا تُكتب الكلمات، لأنها وحدها التي تصمد أمام الزمن، بينما كل شيء آخر يتلاشى. "حج مبرور"، "ممنوع إلقاء المخلفات"، "تسكر تبكي زي العيل"، كلمات تتراكم فوق بعضها، طبقات من ثقافة سرية.

ربما لهذا السبب تحديداً، تجذبنا النقوش على أغطية البلاعات. يكفي أنها العبارة الوحيدة التي تخفي خلفها فضاءً مفتوحاً، ينتمي إلى سريان قولون المدينة، حيث يتدفق كل شيء بلا توقف. وليس من الغريب أن تكون تصوراتنا الأولى عن حياة السجناء في الليل مرتبطة بالكتابة بالدماء على الجدران، أو بحفر نفق، كأنما الكلمات والنقوش هي دائماً أولى محاولات التمرد على العزلة، وأولى إشارات الحياة في الأماكن التي تبدو بلا حياة.

يضعف التفاعل لسنوات، ثم ينبعث من جديد، كأنما الكلمات ترفض أن تُدفن. يحدث تجاوز لفهم التعليقات، فتتحول إلى خليط من الجنس والعنف والتهريج، كأنها مرآة مشوهة لما يدور في الأعماق

أتذكر حين تم توصيل خطوط الغاز الطبيعي إلى المنازل، كان عامل الشركة يمر ويكتب حرفاً ورقماً على كل عمارة. كانت تلك الكتابة بالنسبة لي بمثابة وصم مرعب، كأنها شيفرة سرية لا أستطيع فكّها. ماذا تعني؟ هل تميّز سكان العمارات؟ هل هي مرسوم واجب النفاذ؟ قضيت طفولتي خائفاً من هذه العلامات، وكأنها تحمل تهديداً مبهماً، يلوح في الأفق دون تفسير.

أكثر المشاهد رسوخاً كان صراع أبي الطويل مع صاحب العمارة، الذي تجرأ وكتب بجوار نافذتنا عبارة "المنزل للبيع". كأن الكلمات تلك كانت طعنة مباشرة في قلب الاستقرار. انتصر أبي في النهاية، لكن الخوف من الكتابة بقي معي، يتسلل من الحوائط كظلال لا تزول.

لم يهدأ هذا الخوف إلا حين زرت عمي الكبير لأول مرة. كان يجلس مرتاحاً في غرفة بسيطة، وخلفه ورق حائط يصوّر شلالاً متدفقاً. كأن الشلال يغمرني بالسكينة، يمحو عني أثر الكتابات التي طاردتني طويلاً، ويعيدني إلى شعورٍ نادرٍ بالأمان، حيث لا كلمات تهدد ولا حوائط تنطق بما لا يُقال.

وصلت إلى المحطة الأخيرة للقطار، ومنها كان من السهل إعادة بناء المسار من الذاكرة، وصولاً إلى منزل صديقة أمي. في المدينة القديمة، تظل التجربة حيّة بفضل البقايا الأثرية المنتشرة في المناطق المفتوحة ومداخل البيوت. اختيار الحائط المناسب كان دائماً ذكياً: أمام القطار أو الترام، أو على السور في الاتجاه العكسي لمرور السيارات، حيث يضمن الحائط الحماية من التغيير أو المساس.

قادني رسم لأفعى بجسم طويل للغاية إلى حي سكني بدا مألوفاً بمجرد أن تخطيت عتبته. كان من المريب أن أسأل المارة عن منزل يحمل على مدخله رسماً لمصارعين، لكنني وجدته أخيراً. كان الجدار متآكلاً، محمياً بفضل استقرار إسطبل أحصنة لبائع بصل بجواره.

ها أنا أمام منزل صديقة أمي، تلك المرأة التي تخلّت عن عائلتها ومكانتها العالية لتختار حياة أخرى، محفورة في ذاكرتي برسم المصارعين. أحدهم خسر مباراته، لكنّه لا يزال مصارعاً من الدرجة الأولى، بأسلوب يختلف عن المصارعين التقليديين. لديه فرصة جيدة للبقاء حياً داخل الحائط، تماماً كما بقيت تلك الذكرى حيّة في داخلي. الآن، أمدّ يدي نحو الباب، وهذا هو صوت يدي.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

منبر الشجعان والشجاعات

تكثُر التابوهات التي حُيِّدت جانباً في عالمنا العربي، ومُنعنا طويلاً من تناولها. هذا الواقع هو الذي جعل أصوات كثرٍ منّا، تتهاوى على حافّة اليأس.

هنا تأتي مهمّة رصيف22، التّي نحملها في قلوبنا ونأخذها على عاتقنا، وهي التشكيك في المفاهيم المتهالكة، وإبراز التناقضات التي تكمن في صلبها، ومشاركة تجارب الشجعان والشجاعات، وتخبّطاتهم/ نّ، ورحلة سعيهم/ نّ إلى تغيير النمط السائد والفاسد أحياناً.

علّنا نجعل الملايين يرون عوالمهم/ نّ ونضالاتهم/ نّ وحيواتهم/ نّ، تنبض في صميم أعمالنا، ويشعرون بأنّنا منبرٌ لصوتهم/ نّ المسموع، برغم أنف الذين يحاولون قمعه.

Website by WhiteBeard
Popup Image