ذكّرتني الإسكندرية بنفسي التي أضعتها

ذكّرتني الإسكندرية بنفسي التي أضعتها

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الخميس 8 مايو 202512:36 م

هذه المرة أنا الزائرة، ولستُ بقاطنة. لم تكن الوجهة "سيدي جابر"، حيث مضت بي السنون، بل كانت فندقاً أثرياً في محطة الرمل. في اللقاء الأول، لم أجرؤ على المشي ناحية البحر. شيءٌ ما في صدري يخرج كلما ظهر لي البحر بين الشوارع الفرعية. مشيت بين الزواريب متجاهلةً ظهوره، تصلني رائحته الممزوجة بالملحِ والنسيم. كانت النفحات الباردة تداعب وجهي، وتُنعش روحي برغم حرارة الجوّ. لحظة مثالية لنفسٍ عميق.

قادتني خطواتي إلى مقهى كنت أجلسُ فيه بعد يومٍ طويل في الكلية؛ أشربُ القهوة وأتأمل من نوافذه المشرّعة، شكل الحياة الحافلة بالأحداث. من هناك، كنت أنتظر "الترام" المؤدي إلى وجهتي. تلك اللحظات كانت نوعاً من المصالحة المؤقتة مع معارك دراسية ولّيتها ظهري.

ذلك المقهى البسيط، بجدرانهِ المتهالكة وطلائه القديم الذي تشقق بفعل الزمن، احتضن كل لحظاتي. الكراسي الخشبية المصبوغة بالأزرق النيلي، والطاولات الداكنة التي توزّعت بشكل عشوائي، كانت تحمل آثار أكواب روّاد المقهى على مرّ السنين. لطالما شعرت بأنّ هذه العلامات تحمل رسالةً شجيّةً من أصحاب المكان: "أهلاً بك في الإسكندرية"، حيث الأزرق والبني، البحر والرمل، والإنسان الذي يمتزجّ بالألوان التي تهدأ لها نفسه.

لطالما شعرت بأنّ هذه العلامات تحمل رسالةً شجيّةً من أصحاب المكان: "أهلاً بك في الإسكندرية"، حيث الأزرق والبني، البحر والرمل، والإنسان الذي يمتزجّ بالألوان التي تهدأ لها نفسه.

الجدران كانت مزيّنةً بصور قديمة باهتة لفنّاني مصر العظماء. إحدى لحظاتي الممتعة هي محاولة تخمين هوية أصحاب الصور، حتى يلتبس عليّ الأمر فأهرب إلى أفكاري. في وسط الجدران، نافذة كبيرة مشرّعة تُطلّ على الشارع المزدحم، كانت تُدخل الهواء المشبع برائحة القهوة الطازجة وأصوات المارة، إلى جانب لمحة من زُرقة البحر التي تظهر خلف قسوة الإسمنت. حين أُطلّ برأسي إلى الأسفل، تخطفُ بصري حديقة غنّاء من الألوان الزاهية. نعم، إنهم البّاعة الجوّالون، بعرباتهم الخشبية الضخمة، حيث تتكدّس أنواع مختلفة من الفواكه والخضروات، ويحرص كل بائع على ترطيب بقعته بالماء، فتتباين الألوان بشكلٍ لافت؛ سواد الأرض بعد ارتوائها، ولون البرتقال، الفراولة، الكرز، والفلفل الرومي بأنواعه المختلفة.

أجلس على الكرسي المصبوغ بالأزرق؛ يشبه تماماً الكراسي الموجودة في المقاهي الشعبية. كان يصدر عنه صريرٌ خفيف مع كل حركة، لكنني، وبفعلِ الاعتياد، لم أعد أسمعه. طلبي الدائم: قهوة تركية من دون سكر، لتعيد إليّ الهدوء بعد يومٍ طويل في المستشفى. كانت أغاني أم كلثوم تنساب بصوتٍ خفيض من مذياع قديم في الزاوية. تمتزج تلك الألحان مع ضحكات الأصدقاء المتناثرة في الأرجاء، ونقاشاتهم الشغوفة حول أحلامنا التي كانت يوماً ما تبدو قريبةً، قريبةً إلى درجة أنني شعرت بأنني أستطيع لمسها بيدي.

في ”سيدي جابر“، تقع الشقّة التي عشتُ فيها. صاحباها أم ماجد وزوجها الطيّب، عجوزان قبطيان أنارا عزلتي قبل أن أفعل ذلك. كان يرقّ قلبي لها حين أزورها لدفع الإيجار. كنت أشعر بأنها تذبل في كل مرة؛ صوتها يخبو وحركتها تتباطأ، لكنها برغم ذلك تأتي لاحتضاني وضيافتي. كنت أغضب من نفسي أحياناً حين أحاول التملّص من هذه اللقاءات الطويلة، لأنني أرى السعادة تتوهج في أعينهما لمجرد زيارتي العابرة. كنت أغيّر روتين زوجين يعيشان وحدتهما في مثل هذه السنّ؛ الأبناء مغتربون، الليل طويل بلا صخب، والأيام متشابهة -كما كانت تقول- حين أسألها عن حالها.

كنت أجلسُ في الصالون الذي يعجّ بالصلبان وتماثيل مريم العذراء، وببراويز متعددة لصور الأبناء والأحفاد، وصورة ضخمة للزوج حين كان ضابطاً في البحرية. أتأمل لوحة "العشاء الأخير" المعلّقة في المنتصف، والأثاث الكلاسيكي الذي يشبه أفلام الثمانينيّات، وأقتفي أثر الحياة التي كانت هنا ذات يوم.

كانت أغاني أم كلثوم تنساب بصوتٍ خفيض من مذياع قديم في الزاوية. تمتزج تلك الألحان مع ضحكات الأصدقاء المتناثرة في الأرجاء، ونقاشاتهم الشغوفة حول أحلامنا التي كانت يوماً ما تبدو قريبةً، قريبةً إلى درجة أنني شعرت بأنني أستطيع لمسها بيدي.

لطالما نبّهتني أم ماجد، إلى أن شبابيك الغرف عندي مغلقة أغلب الوقت. كانت تنصحني بفتحها كل صباح كي يغمرني هواء حقيقي. وفي بعض الأحيان، كانت تتصل لتطمئن إن كنت أنا من دخل الشقّة بعد عودتي من السفر. تدريجياً، أصبحت أشعر بمسؤولية أن يزعج هذا الضوء، الجهة المقابلة لسكان العمارة. كنت أطفئ كل الأنوار، عدا الممرّ، وأمشي في الشقة الفارغة فتنساب عند قدمَيّ المتباطئة، ظلالي. برغم محاولات أم ماجد الحثيثة، للتواصل، إلا أنني كنت أرنو إلى العزلة التي طاردت طيفها في النهار، ليبدأ معي ليل جديد، بلا نهاية واضحة، حيث يعود كل شعور تائه إلى مكانه الصحيح.

حين كنت أشعر بالضيق، كنت أذهب إلى البحر على قدمَيّ. يبعد عني مسافة عشر دقائق. أخرج من شقّتي الصغيرة إلى رحابة البحر، وبهذا الفعل، كنت أهدي رئتَيّ ما كانتا تصبوان إليه. لم أكن أتخيل أن أحب البحر بهذه الطريقة. لطالما كان شيئاً عابراً في المدينة التي وُلدت فيها. رؤيته كانت تذكّرني بعجزي عن الاندماج فيه، والتحرر أمامه. هذا الشعور الغريب بعدم الانتماء، أو الشعور الطاغي بأنني موجودة في بلادٍ أخرى، ظلّا يكبران فيّ. في الحقيقة، الأمر لا يتعلق بالعائلة. المكان هو الذي يحكّ جلدي، ويخبرني بأنه يجب عليّ الانتقال كثيراً حتى تهدأ روحي. هنا في الاسكندرية، أو ماريّـا كما يحلو لعشّاقها تسميتها، الأمر مختلف. عرفت شكلاً آخر للّون الأزرق، بتدرجاته كافة. كنت أظنّ أنني سأعتاد الأمر. أمرّ من خلاله كل يوم، لكن قلبي يبتهج في كل مرة. إنها سلسلة غير منتهية من الشَهَقَات الصغيرة التي تملأني عند رؤية البقعة الزرقاء الممتدة إلى السماء.

في ”سيدي جابر“، تقع الشقّة التي عشتُ فيها. صاحباها أم ماجد وزوجها الطيّب، عجوزان قبطيان أنارا عزلتي قبل أن أفعل ذلك.

حين وصلت إلى المقهى، جئتُ إليه وأنا أحمل الحنين في يد، وفي اليد الأخرى شوقاً ساكناً، حتى لا يراني خالية اليدين. جلست على الطاولة نفسها. لا شيء تغيّر عدا النادل. قاموا ببعض الترتيبات في أرفف الكتب، وزادوا طاولةً لبيع المقتنيات اليدوية، وهناك عبق حزين تعثّر بي قبل أن أُدركه.

تأملت المكان. شعرت بأننا نُحمّل الأماكن أكثر مما تحتمل. صنعنا لها مجداً خيالياً يطوف في أذهاننا. أبصرَت أعيننا الغضّة الشعور أكثر من تفاصيل المكان. اخترنا ما نريد لعقولنا أن تحتفظ به إلى الأبد، وتركنا الصورة الأكبر حبيسة الأيام. عادت موحشةً وباردةً؛ ذكرياتنا وحدها من كانت تنعشها.

كنت أستمع إلى موسيقى عمر خيرت. اختيار عشوائي، لكنه كان يتناغم مع اللحظة. تأملت الشارع وكأني المتفرج الوحيد. صوت السيارات المتعاقب مع الموسيقى جعلا عقلي يهدأ. حين رأيت أفواج الطلبة وهم يسيرون في الشارع المجاور للكلية، حاملين معاطفهم البيضاء، تساءلت: هل أحلامهم بيضاء مثل معاطفهم؟ أو أن الأيام لطّختها بالواقع الذي ارتطم بهم بُغتةً؟

ذكّرتني الإسكندرية بنفسي التي أضعتها. كنت أعتقد أني تحولت إلى كائن لا يطيق الجلوس وحده. العودة هنا جعلتني أدرك أنني كائن معجون بوحدته، يحملها كعباءة دافئة أينما حلّ، لكن البقعة التي عشتُ فيها لم تساعدني على ذلك؛ جعلتني كائناً يفزعه الصمت الطويل. كنت أهاب مواجهة التفكير في ما مضى، ظننت أنني إذا فعلت، سأفتح جراحاً قديمةً، إلا أنّ الإسكندرية همَست لي بأنها النور الذي يخترق سواد الذاكرة، ويكشف كل شيء على حقيقته، حتى الألم الخفيّ. هذا التصالح جعلني أشعر بالأمان، وأطمئن إلى فكرة العودة كزائرة مُخلصة.

تُوشك الرحلة القصيرة على الانتهاء، وهأنذا في مقهى "تريانون". أجلس في انتظار السيارة التي ستقلّني إلى المطار. أتأمل شكل هذه العودة المليئة بالحنين إلى روح قديمة، تركتها هائمةً في الطرقات، فتيّةً، غير مبالية إلا بعالمها. إنها العودة بعد غياب أعوام، الغياب الذي كان منحوتاً داخل مكعبات إسمنتية، لا شكل واضحاً للحياة فيها. لا أعرف كيف نجوَت. نسيت شكل المشي بطريقة عشوائية في أي مكان وزمان. لذّة العيش استقامت بعد أول خطوة خطوتها في شوارع "ماريا". نهلتُ من طرقاتها عبق الحرية، وسمحت لنفسي بأن تضيع في تفاصيلها كما كنت أفعل في الماضي. 

الآن، وأنا أستعدّ للمغادرة، أدرك أنني لا أترك هذه المدينة خلفي، بل أعود إلى ذاتي، إلى ذلك الجزء الذي ظننته تلاشى في الزحام، حيث تنكشف لي الحياة بحقيقتها المعقدة والبسيطة في آن معاً، دون الحاجة إلى تفسير.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image