من الطابور إلى المخابرات… كيف صُمِّمت البيروقراطية لخنق السوري؟

من الطابور إلى المخابرات… كيف صُمِّمت البيروقراطية لخنق السوري؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الاثنين 12 مايو 202509:47 ص

كان عليك أن تمرّ بثلاثة مكاتب، وتوقّع على خمس أوراق، فقط لتشتري دفتراً من المكتبة... أما إن أردت أن تفتح مشروعاً أو تنتقل إلى حيٍّ جديد، فهناك خمسة أجهزة أمنية تنتظرك خلف الكواليس، وكل ورقة توقّعها قد تكون بداية تهمتك بالخيانة.

في سوريا الأسد، لم تكن البيروقراطية مجرّد نظام إداري معقّد… بل كانت سلطةً بحدّ ذاتها. سلطة لها أنياب وأذرع، تبدأ من مختار الحارة، ولا تنتهي عند مدير فرع فلسطين. كان النظام يعلم أنّ القمع لا يُمارَس بالسلاح فحسب، بل بالورقة، بالختم، بالطابور الطويل، وبالعبارة الأبدية: "راجعنا بعد أسبوع".

منذ تولّى حافظ الأسد الحكم عام 1970، بدأ مشروعه لبناء دولة "منظّمة"، لكن التنظيم كان خدعةً لغرس جهاز أمني في كل مؤسسة، وكل وزارة، وكل زاوية من زوايا الحياة اليومية. كانت البيروقراطية جداراً عازلاً بين الإنسان السوري ودولته، جداراً يُشيّد بلا طوب، بل بالتصاريح والأختام واللوائح. الهدف؟ ليس التنظيم، بل الخنق، السيطرة، وكسر إرادة السوري.

كان النظام السوري يعلم أنّ القمع لا يُمارَس بالسلاح فحسب، بل بالورقة، بالختم، بالطابور الطويل، وبالعبارة الأبدية: "راجعنا بعد أسبوع".

أيُعقل أن يُعامَل الإنسان السوري كغريبٍ في بلاده، ويُطالَب بإثبات هويته عند كل زاوية، وكأنّه لاجئ في وطنه؟ أيُعقل أن يكون الحبر على الورق أثقل من الكرامة، والختم أقسى من الرصاص؟.

تخيّل للحظة، أنّ السوري إذا أراد أن يستخرج سجلّاً عدلياً، يجب أن يحصل على موافقة من "الفرع"، والفرع ليس مجرد مؤسسة حكومية، بل تجسيد حيّ للرقابة المستمرة. 

يبيع قطعة أرض؟ يجب أن يمرّ عبر موافقات مالية، زراعية، أمنية، وحتى حزبية. كأنّ الأرض ليست ملكه، بل هي لعبة في يد السلطة التي تحركها كما تشاء. 

يفتح دكاناً صغيراً في حيّه؟ يحتاج إلى سجلّ تجاري، وموافقة بلدية، وموافقة أمن الدولة، وأحياناً إلى تقرير من المخاتير الثلاثة المحيطين، كما لو أن مكانه في الحياة لا يُمنح إلا بإذن من سلطات الظلّ.

لقد حوّلتنا هذه الدولة إلى موظفين في مسرحية عبثية، نُجيد أداء دور الانتظار، والخضوع، والتظاهر بأننا أحياء. وفي زمن بديع الأسد، مدير الأمن السياسي، كانت عبارة "أنت مطلوب لمراجعة الفرع"، كافيةً لتحوّل حياة الإنسان إلى كابوس طويل. لم يكن يعرف لماذا هو مطلوب، ولا متى سيعود. والمفارقة أنّ الفرع نفسه كان جزءاً من شبكة بيروقراطية معقدة، لا تعمل إلا لمصلحة النظام، لا المواطن. لم تكن الدولة تقوم على خدمة شعبها، بل على ترويضه، جعل الحياة نفسها رحلةً مستمرةً بين الطوابق والمكاتب، كلها بلا وجه، بلا روح.

هذا النظام الساقط لم يسرق وقتنا فحسب… لقد سرق أعمارنا، أرواحنا، ومعنى أن تكون إنساناً في وطنٍ يُجبرك على أن تتصرف كظلّك ، وهكذا تحوّل المواطن السوري من مفكّر، حالم، مبدع… إلى مراقب لنفسه، ومراقب عليه.

لم نُخلَق لنتعلّم الصمت، لكن البيروقراطية السورية جعلتنا نتقنه حتى صار طريقتنا الوحيدة للبقاء. صرنا نحلم بختم، لا بحياة . في مدرسة ابتدائية في ريف السويداء، رُفض نقل معلّمة إلى قرية مجاورة برغم الحاجة إليها، لأنها "ابنة أخ معارض في الثمانينات"، فحسب. عُزلت عن الأمل بسبب صلة دم، كما لو أن أفعال الأجداد يمكن أن تُقيّد أجيالاً جديدةً بحبال غير مرئية، لكنها ثقيلة كالجبل. وفي دمشق، رُفض طلب ترخيص عيادة لطبيب خرّيج فرنسا لأنّ اسمه لم يمرّ على "موافقة الفرع". لقد تحوّلت الموهبة والعلم إلى عبء، وصار العلم مجرد وثيقة بحاجة إلى ختمٍ لا يعترف بالكفاءة، بل بالولاء.

أما إن أردت أن تتزوّج؟ فلا تقلق، هناك موافقة أمنية تنتظرك أيضاً! نعم، حتى الحب والزواج لا يتمّان إلا بعد مرورهما من بوابة الأمن والموافقة الرسمية. تخيّل أن ينتظر قلبان الختم ليتلاقيا، وكأنّ الفرح ذاته يحتاج إلى إذن مكتوب. وكأنّ الحب مؤامرة، والزواج مشروع سياسي يجب أن تدرسه الجهات المختصة أولاً. كوميديا سوداء؟ ربما. لكنها الحياة اليومية لسوري يحاول أن يعيش ببساطة. في بلدٍ يصبح فيه الزواج قراراً أمنياً، والحلم مشروعاً مشبوهاً، تصبح الحياة نفسها جريمةً معلّقةً تنتظر التحقيق.

السوري اليوم لا يطلب العدالة فقط… يطلب ألا يُدفن حياً بين ملفّات الدولة وموافقات الفرع وتوقيع الموظف الغاضب فحسب! كل ذلك لم يؤثر على جسد الإنسان فقط، بل على روحه. لقد أعادت البيروقراطية تشكيل سيكولوجية المجتمع السوري بالكامل. تَشرّب المواطن السوري الخوف، والتأجيل، والانكماش على الذات. أصبح يرى في كل موظف صغير مسؤولاً كبيراً، وفي كل ختم رعباً خفياً. صار يعاني من قلق دائم، إحساس بالعجز، وانتظار مؤبّد. الكاتب السياسي الأمريكي "جيمس سكوت"، في كتابه الشهير "Seeing Like a State"، يتحدّث عن كيفية تحوّل البيروقراطيات إلى أدوات للهيمنة، تُعيد إنتاج السيطرة لا التنظيم، وتكسر العلاقة بين الدولة والناس عبر أنظمة تبدو حياديةً، لكنها تخدم سلطات القمع.

لقد أعادت البيروقراطية تشكيل سيكولوجية المجتمع السوري بالكامل. تَشرّب المواطن السوري الخوف، والتأجيل، والانكماش على الذات.

أما الباحث الفرنسي ، ميشيل فوكو، فقد تناول فكرة "الرقابة الشاملة" التي تجعل الفرد يراقب ذاته قبل أن يراقبه الآخرون، وهو ما نجح فيه النظام السوري بامتياز، حيث أصبح كل مواطن جهاز رقابة على نفسه، وعلى من حوله، خوفاً من المصير المجهول.

هذا النظام الساقط لم يسرق وقتنا فحسب… لقد سرق أعمارنا، أرواحنا، ومعنى أن تكون إنساناً في وطنٍ يُجبرك على أن تتصرف كظلّك ، وهكذا تحوّل المواطن السوري من مفكّر، حالم، مبدع… إلى مراقب لنفسه، ومراقب عليه. أصبح أكثر خوفاً من تلك الأوراق التي تعيش في زوايا مكتبه، أكثر من خوفه من السجون حتى. كان النظام يريد أن يُقنع السوريين أن الخلاص لا يأتي من أفكارهم، بل من "الورقة المختومة"، من الانتظار، ومن التوسّل للموافقة.

وحتى مع تغيّر الدولة اليوم، أو تحوّلاتها الشكلية، لا يزال الطابور يلاحق السوري، والختم يسكن ذاكرته، والخوف يترسّب لاوعيه. فهل يستطيع السوري أن يتحرر من هذا القيد الذي زرعه النظام في أعماقه؟ وهل سيتمكن من تجاوز هذا الخوف المتجذر في كل زاوية من حياته اليومية؟

هل سيتخلص السوري من داءٍ لم يخلقه لنفسه، بل وضعه النظام الساقط داخل اللاوعي فيه؟ هل سيظلّ يعيش كأداة مطواعة في يد الدولة، أو أنّ إرادته ستنتفض، وتعيد بناء العلاقة مع الحرية والكرامة؟

من هنا، بدأ مفهوم "البيروقراطية" يتجاوز حدوده كمصطلح إداري ليغدو علامةً مميزةً للهيمنة النفسية والاجتماعية. كانت البيروقراطية في عهد الأسد، هي القاموس الذي يكتب مصير الفرد: "من الطابو إلى المخابرات، حيث كل حركة تأخذك نحو لامكان، لاشيء".

لم يكن المواطنون السوريون يعيشون حياتهم في مجتمع طبيعي، بل كانوا في معرض اختبار مستمر لولائهم عبر أسئلة غير مباشرة، تهديدات ضمنية، وختم يجبرهم على التنازل عن حقهم في العيش بحرية وكرامة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image