كيف يقامر

كيف يقامر "نتنياهو" بورقة "معاداة السامية" مع "وطنيون من أجل أوروبا"؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة

الاثنين 2 يونيو 202511:26 ص

مع تصاعد موجة الانتقادات الأوروبية لإسرائيل، واتخاذ خطوات غير مسبوقة في تاريخ العلاقات الثنائية، كقيام بريطانيا بتجميد مفاوضات الشراكة التجارية، وتصويت البرلمان الإسباني لصالح النظر في مقترح حظر تجارة السلاح مع إسرائيل، بجانب زخم الحراك الشعبي الأوروبي المستمر منذ اندلاع حرب الإبادة على غزة، أخذت صورة "الضحية" التي لطالما تلحّفت بها إسرائيل على مدى أكثر من سبعة عقود، تتهاوى أمام وعي جمعي بدأ يفيق من سطوة الرواية الإسرائيلية.

هذا التحول النوعي في المزاج الأوروبي، الذي يشكل كسراً لنمطية العلاقة القائمة على عقدة الذنب التاريخية، أربك إسرائيل التي باتت تجد نفسها في موضع مساءلة غير مألوف. 

وفي محاولة للالتفاف على هذا المسار الجديد، يسعى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، إلى النفاذ إلى الساحة الأوروبية من خلال بوابة الأحزاب اليمينية المتطرفة، التي تتقاطع مع تل أبيب في رؤى عنصرية إقصائية ومعادية للآخر.

ويبدو أنّ نتنياهو قد وجد ضالّته في تحالف "وطنيون من أجل أوروبا"، الذي يقوده رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، ويترأسه جوردان بارديلا، زعيم حزب التجمع الوطني الفرنسي. فما طبيعة هذا التحالف؟ وما الأدوار التي يمكن أن تلعبها إسرائيل في إسناده وتوظيفه لصالح إعادة تموضعها داخل المعادلة الأوروبية الراهنة؟

تحالف المأزومين

"وطنيون من أجل أوروبا"، تجمّع يميني قومي أُعلن عن تأسيسه في 30 حزيران/ يونيو 2024، في فيينا، بقيادة رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، بجانب حزب الحرية النمساوي بزعامة هربرت كيكل، وحزب "آنو" التشيكي بقيادة رئيس الوزراء السابق أندريه بابيش. وقد انضم إليه لاحقاً، زعماء مثل جوردان بارديلا، رئيس حزب "التجمع الوطني" الفرنسي، في محاولة لتوسيع نطاق هذا التكتل في البرلمان الأوروبي.

يُعدّ هذا التحالف تجسيداً لمحاولة خلق كتلة يمينية متطرفة متماسكة داخل الاتحاد الأوروبي، تسعى إلى تقويض النزعة الليبرالية والمؤسساتية التي يتبنّاها الاتحاد، وتروّج لسياسات معادية للهجرة، ورافضة للعولمة، ومدافعة عن "السيادة الوطنية" في مواجهة بيروقراطية الاتحاد الأوروبي.

يسعى تحالف ‘وطنيون من أجل أوروبا‘ إلى تشكيل كتلة يمينية متطرفة داخل الاتحاد الأوروبي، تناهض الليبرالية وتتبنى سياسات معادية للهجرة

حقّق هذا التحالف بقيادة باتريوس، فوزاً ساحقاً في الانتخابات الأوروبية التي جرت في 9 تموز/ يونيو 2024، حيث نجح في تشكيل كتلة واسعة في البرلمان الأوروبي، تضمّ 85 عضواً يمثّلون 14 دولةً اوروبيةً، ويضمّ التحالف 16 حزباً سياسياً أهمها: التجمّع الوطني (فرنسا)، فيدس (المجر)، فوكس (إسبانيا)، حزب الحرية (هولندا)، الرابطة (إيطاليا)، وحزب آنو 2011، (جمهورية التشيك)، فلامز بيلانغ (فلاندرز - بلجيكا)، حزب الحرية النمساوي (النمسا)، روش نارودوفي (بولندا)، تشيغا (البرتغال)، دانسك فولكيبارتي (الدنمارك)، لاتفيا فيرست (لاتفيا)، فوني لوجيكيس (اليونان)، وإيكر (إستونيا).

على إثر هذا الخرق للمنظومة الديمقراطية الأوروبية، وجد نتيناهو فرصةً سياسيةً جديدةً لإعادة إنعاش السرديات العنصرية السائدة ضد المهاجرين، خاصةًً ذوي الأصول العربية والمسلمة، حتى لو كان ثمن ذلك التضحية بمفهوم "معاداة السامية" نفسه. 

وفي هذا الصدد، يقول جورج صبرة، القيادي في حزب الشعب الديمقراطي السوري، والمقيم في باريس، في حديثه إلى رصيف22: "نتنياهو يتجاوز في هذا التحالف تاريخ اليمين الأوروبي، ويتسامح معه في معاداة السامية لقاء الحصول على دعم غير مشروط لسياساته العدوانية، وفي الوقت ذاته يتجاوز اليمين الأوروبي تحفظاته الأيديولوجية التاريخية على اليهود لتحقيق حضور، بعد الفشل المتتالي في تشكيل الحكومات برغم تقدّمه في الانتخابات في عدد من الدول الأوروبية، لذا كان لمواقف الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية الأوروبية سياسياً، وعبر الحراك الشعبي المتعاطف مع الفلسطينيين والمعارض للحرب الهمجية على غزّة، الأثر الأكبر الذي دفع نتنياهو إلى الدخول في هذا التحالف مع اليمين الأوروبي".

من جانب آخر، يقول الخبير في الشأن الأوروبي زاهي علاوي، المقيم في ألمانيا، في حديثه إلى رصيف22: "عند الحديث عن تحالف باتريوس، يجب علينا ألا ننسى أنّ التوجه الأساسي لهؤلاء هو التوجه اليميني، وحتى رفض فكرة الاتحاد الأوروبي، وأنّ هناك تغييراً في مواقف اليمين المتطرف في ألمانيا، خاصةً في ما يتعلق بالماضي النازي وفي العلاقة مع اليمين المتطرف الإسرائيلي، فكل الأحزاب اليمينية الأوروبية هي أحزاب يمينية متطرفة تكنّ العداء لسياسات الهجرة وللمسلمين وتنادي بالوطنية القومية لأوروبا".

ويوضح علاوي، قوله: "بمعنى آخر، هناك تغيير في الموقف والأيديولوجيا لدى هذه الأحزاب، وتالياً لا يوجد فرق بين هذه الأحزاب وبين حزب الليكود اليميني المتطرف بشكله الحالي. الليكود طوال حياته يميني، وتفاوت في الراديكالية والتطرف، والليكود ونتنياهو يحاولان تجميل الوجه البشع لإسرائيل لدى هذه الأحزاب اليمينية الأوروبية، وتشجيعها على دعم المخططات الإسرائيلية الساعية إلى تهويد فلسطين". 

مغازلة النازية

وفقاً لصحيفة "جيروزاليم بوست" الإسرائيلية، فقد أصبح حزب الليكود رسمياً عضواً مراقباً في هذا التحالف، بعد أن قررت مجموعة "وطنيون من أجل أوروبا" (PFE)، بالإجماع، قبوله ضمن الكتلة السياسية اليمينية في البرلمان الأوروبي خلال اجتماع لها عُقد في العاصمة الإسبانية مدريد، في شباط/ فبراير 2025، وبعد ذلك عدّ حزب الحرية النمساوي -الذي يعاني من عزلة دولية- أنّ العمل مع الحزب الحاكم في إسرائيل إنجاز دبلوماسي كبير له، لأنّ إسرائيل ما زالت تقاطع رسمياً هذا الحزب الذي أسسه نازيون سابقون في الخمسينيات، ويواجه حتى اليوم صعوبات كبيرةً في فكّ ارتباطه بالماضي النازي والنازيين الجدد داخل الحزب، وترى الجالية اليهودية في النمسا أنّ حزب الحرية النمساوي هو حزب "نازيين سرّيين"، نازيين يخفون أيديولوجيتهم علناً لأغراض سياسية تكتيكية، لكنهم عندما يجتمعون، يعبّرون بحرية عن أفكارهم الحقيقية. وقد شارك في هذا الاجتماع أعضاء بارزون من التيار اليميني في أوروبا، منهم رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، ومارين لوبان من حزب التجمع الوطني الفرنسية، وخيرت فيلدرز من هولندا، زعيم حزب الحرية، وماتيو سالفيني من إيطاليا، نائب رئيس الوزراء ووزير البنية التحتية والنقل.

انضمّ حزب الليكود الإسرائيلي كمراقب إلى تحالف ‘وطنيون من أجل أوروبا‘، ما اعتبرته الأحزاب اليمينية في أوروبا ‘صك غفران ‘لماضيها النازي

من جانب آخر، قالت منظمة "جي ستريت" اليهودية اليسارية الأمريكية، إنّ نتنياهو "يُضاعف جهوده في التحالف مع قادة العالم غير الليبراليين والمناهضين للديمقراطية، خاصةً اليمين المتطرف في فرنسا (التجمع الوطني)، وإسبانيا (فوكس)، والسويد (الديمقراطيون السويديون) والذين لديهم تاريخ طويل في الانخراط في معاداة السامية أو تمكينها".

وترى المنظمة، أنّ تسامح نتنياهو مع هذه القوى اليمينية المتطرفة ينبع من مواقفها الداعمة لإسرائيل، ورفضها قيام دولة فلسطينية، وتأييدها جهوده في الإفلات من المساءلة عن جرائمه. كما ترى أنّ هذه التحالفات، وإن كانت تخدم طموحات نتنياهو السياسية، إلا أنها تتناقض جوهرياً مع المبادئ اليهودية، وتعرّض اليهود حول العالم لمخاطر متزايدة من قبل قوى اليمين المتطرف.

غسيل سمعة

للأحزاب اليمنية في الدول الأوروبية حضور قوي، خاصةً في إيطاليا والنمسا وألمانيا وفرنسا، وبرغم ذلك تبقى غير قادرة على إدارة اللعبة السياسية لصالحها، كما حصل في ألمانيا مع حزب البديل، الذي برغم فوزه الذي وُصف بالتاريخي، بحصوله على 20.8% من أصوات الناخبين، بعدد مقاعد لا يقلّ كثيراً عن مقاعد الحزب الحاكم الذي يرأسه ميرتس، إلا أنه فشل في تشكيل حكومة يكون فيها العنصر المؤثر. 

وجرت العادة أن تعارض الأحزاب اليمينة سياسات الحكومات، سواء على الصعيد الاقتصادي الداخلي أو على صعيد السياسات الخارجية، وهذه الأحزاب تقليدياً تقف بجانب إسرائيل في سعي محموم إلى غسل "عار النازية"، لكنه سعي يأخذ منحى جريئاً عبر التحالف مع حزب الليكود الإسرائيلي.

وفي هذا الإطار، يقول رضوان سالم، مؤسس مركز "بروجن" للدراسات الإستراتيجية والعلاقات الدولية، في حديثه إلى رصيف22: "هذا التحالف يعبّر عن مصالح آنية، فبرغم تقدّم تلك الأحزاب في أوروبا إلا أنها لم تتمكّن من استلام السلطة بسبب إرثها النازي، ومن هنا جاء هذا التقارب حتى يقال عنها إنها أحزاب غير نازية وتربطها علاقات جيّدة بدولة إسرائيل، وتالياً يمكن التحالف معها وتشكيل حكومات يمينيّة بقيادتها، ونتنياهو يحتاج إلى هؤلاء الشعبويين لمواجهة الموقف الأوروبي في الشارع الرافض للحرب في غزّة، ولكن في الحقيقة هناك فجوة كبيرة بين مواقف هذه الأحزاب وإسرائيل، وهذا يمكن أن يتكشّف عند وصول تلك الأحزاب إلى السلطة وتشكيل الحكومات وعندها قد تنقلب الأمور رأساً على عقب". 

مقايضة إستراتيجية

ويتفق مع هذا الرأي، الدكتور سعيد سلام، مدير مركز "فيجن" للدراسات الإستراتيجية، الذي يوضح في حديثه إلى رصيف22، أنّ "المعطيات المتراكمة تشير إلى وجود تفاهم سياسي غير معلن لكنه فعّال، وصفقة سياسية ضمنية بين رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وتحالف 'باتريوس'، تقوم على مقايضة إستراتيجية في مواقف الطرفين، حيث إن تحالف 'باتريوس'، الذي يواجه إرثاً ثقيلاً من معاداة السامية وإنكار المحرقة، يسعى إلى 'تبييض' تاريخه عبر التقارب مع الكيان الإسرائيلي، ليكسب شرعيةً سياسيةً ومظلّة تحصين أخلاقيةً في الغرب، وفي المقابل يحصل نتنياهو على دعم سياسي مهم لمواقفه الرافضة لحلّ الدولتين والترويج لسياسات التوسع الاستيطاني، وفي معركته ضد المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية".

ويسترسل سلام، بالقول: "المثال الهنغاري يكشف جوهر هذا التفاهم، حيث رفضت حكومة فيكتور أوربان اليمينية، العضو الأساسي في 'باتريوس'، تنفيذ مذكرة التوقيف الصادرة بحق نتنياهو، في تعبير عملي وواضح لكيفية ترجمة هذه الصفقات إلى حماية سياسية وقانونية ملموسة، واستخدام السلطة القضائية كسلاح سياسي".

ويلفت إلى أنّ أحزاب هذا التحالف تُظهر في مواقفها دعماً ضمنياً للاستيطان، وأحياناً دعماً صريحاً، "وهناك وفود من داخل التحالف زارت المستوطنات في الضفة الغربية والقدس المحتلة، وبعضها تبنّى روايات تشكك في أحقية الفلسطينيين بالأرض"، ما يعكس تبنّياً غير مباشر لشرعية الاحتلال والاستيطان الإسرائيلي، بالإضافة إلى ذلك فإنّ بعض قادته يلمّحون إلى دعم سياسات التهجير القسري للفلسطينيين، ويروّجون لخطابات إنكارية للوجود الفلسطيني.

يتجه الليكود للتحالف مع اليمين المتطرف الأوروبي لمواجهة التحول المتزايد في مزاج الشارع الأوروبي المتعاطف مع الفلسطينيين

ويضيف: "في ظلّ هذا التحالف، ما نشهده اليوم إعادة تموضع إستراتيجي؛ فتحالف الليكود–باتريوس، يشكّل تحولاً نوعياً في خريطة الاصطفاف السياسي الأوروبي تجاه إسرائيل. ولطالما حافظ حزب الليكود على علاقات متينة مع القوى الوسطية والليبرالية في أوروبا، لكن مع استمرار حرب الإبادة في قطاع غزة، يجد اليمين الإسرائيلي نفسه في مواجهة متصاعدة مع تلك القوى التي باتت تنتقد علناً سياسات الاحتلال، وتدعو بوضوح إلى تطبيق حلّ الدولتين".

في هذا السياق، يتجه الليكود نحو التحالف مع قوى يمينية متطرفة تتشارك معه العداء للمؤسسات الليبرالية وللعولمة، في محاولة لبناء جبهة سياسية موازية داخل أوروبا، مناوئة للمؤسسة الليبرالية، تعيد رسم شبكة تحالفات إسرائيل الدولية، وتوفر لها دعماً في منابر أصبحت أكثر انتقاداً لسياستها، مثل المفوضية الأوروبية، وبرلمانات دول كإيرلندا، وإسبانيا التي تقود جهوداً للاعتراف بالدولة الفلسطينية.

كما يسهم هذا التحالف في تعميق الانقسام داخل الاتحاد الأوروبي حول القضية الفلسطينية، حيث لا تزال بعض الدول توفّر غطاء سياسياً لإسرائيل وتعرقل اتخاذ مواقف جماعية ضد الاحتلال. وهذا الانقسام يفضي إلى حالة من الشلل السياسي، تعيق قدرة أوروبا على بلورة موقف موحّد إزاء الصراع.

ويختم بالقول: "ما نشهده اليوم هو استقطاب حادّ داخل أوروبا، تحوّلت معه القضية الفلسطينية من قضية تحرر وحقوق شعب طُرد من أرضه ويكافح من أجل إنهاء الاحتلال، إلى ورقة في صراع أيديولوجي بين اليمين المتطرف والمؤسسة الليبرالية".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image