بعد رفع العقوبات… هل تتحوّل سوريا إلى وادي السيليكون؟

بعد رفع العقوبات… هل تتحوّل سوريا إلى وادي السيليكون؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الاثنين 26 مايو 202511:42 ص


فَتح سقوط نظام بشار الأسد، آفاقاً واسعةً أمام السوريين والسوريات في المهجر، تحديداً أولئك الذين لطالما راودتهم الرغبة في توظيف خبراتهم للمساهمة في مشاريع بناء مستقبل البلاد. وقد تُرجمت هذه الرغبة إلى سلسلة من المؤتمرات المتخصصة، عكست تنوّع الخلفيات الأكاديمية والاقتصادية للمشاركين/ ات.

إلا أنّ هذه الجهود تزامنت مع تصعيد طائفي حادّ داخل سوريا، ما أثار تساؤلات جدّيةً حول مستقبل البلاد، ومدى واقعية المبادرات القادمة من الخارج: هل هي خطوات عملية نحو إعادة الإعمار أو مجرد أحلام بعيدة المنال؟

وسط هذا الجدل، جاء إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، عن نيته رفع العقوبات عن سوريا، ليتبعه الاتحاد الأوروبي بعد أسبوع، وتتحرر البلاد من القيود الاقتصادية، ولا سيّما المتعلقة بحرية تنقّل المال والدخول في النظام المالي العالمي، وحرية التحرك داخل الشبكة العنكبوتية، وغيرها من العقبات التي كانت تقف في وجه الشركات الناشئة والمشاريع الريادية، تحديداً في القطاعات الجديدة، ولتقف هذه المبادرات أمام التحدّي الحقيقي لإمكانية تحققها وقدرتها على التحول من مجرد أفكار إلى مشاريع قابلة للتنفيذ.

ولعلّ من أبرز هذه المبادرات مبادرة "سينك" التكنولوجية، التي أطلقتها مجموعة من المختصّين/ ات في هذا المجال، ممن يُعرَفون بـ"جماعة شغيلة"، ويتوزعون بين وادي السيليكون في كاليفورنيا في الولايات المتحدة الأمريكية، ودمشق، وبرلين.

تكنولوجيا الإعمار

"سينك" مبادرة عالمية ترمي إلى الربط بين روّاد/ رائدات الأعمال السوريين/ ات، وقادة: قائدات التكنولوجيا، وصنّاع/ صانعات التغيير، من أجل تعزيز التعاون والابتكار في مجالات التكنولوجيا وريادة الأعمال. وتعمل المبادرة على جمع الأفراد ذوي/ ات الاهتمامات المشتركة، الشغوفين/ ات بالتغيير المُحفّز، لتشكيل نواة عملية للتعاون العالمي حول مشاريع تستهدف سوريا بشكل مباشر، من خلال إنشاء بؤر متخصصة في مختلف دول العالم.

بعد رفع العقوبات الأمريكية والأوروبية، بدأ المهاجرون والمهاجرات من أصول سورية يفكّرون في استثمار مهاراتهم المتنوعة في وطنهم الأم

انبثقت فكرة "سينك"، من لقاء جمع عدداً من المختصّين/ ات في مجال التكنولوجيا في وادي السيليكون، حيث ناقشوا/ ن إمكانية الإسهام في إعادة بناء سوريا بعد سقوط النظام، فخططوا/ ن لعقد مؤتمرهم/ نّ الأوّل في دمشق في شباط/ فبراير الماضي. هدف اللقاء كان جمع البيانات والملاحظات والأفكار، بالإضافة إلى تقييم واقع البنية التحتية التكنولوجية في البلاد.

وبعد المؤتمر، جرى تحليل البيانات المستخلصة، وإعداد تقارير متخصصة، تمّت مشاركتها لاحقاً في مؤتمر ثانٍ عُقد في وادي السيليكون، بحثاً عن سبل ممكنة لتوليد قنوات دعم عملية، وفق ما يوضح علاء مصطفى، أحد منظّمي المبادرة في برلين. 

يقول: "في طفولتي، عملت في وظيفتَين بجانب دراستي، وأنا أعلم جيداً أنّ السوريين/ ات بالمجمل 'جماعة شغيلة'؛ فالمعاناة والمآسي جعلتنا أكثر وعياً بقيمة العمل، ومن هنا ينبع تفاؤلي بهذه المبادرة".

أما عن سرعة انطلاق المبادرة، فيوضح فراس خليفة، أحد منظّمي مؤتمرَي دمشق من 7 إلى 8 شباط/ فبراير، ووادي السيليكون من 21 إلى 22 شباط/ فبراير، واجتماع برلين 25 آذار/ مارس، أنّ ذلك جاء استجابةً مباشرةً لحاجة البلاد إلى إعادة البناء، مشيراً إلى أنّ القائمين/ ات على المبادرة يأملون في تنظيم مؤتمر جديد قريباً في إحدى دول الاتحاد الأوروبي، استكمالاً لمسار العمل القائم.

تشبيك المهارات

حول لقاء برلين، يقول فراس خليفة، مؤسس شركة "كاربون موبايل" وعضو فرق "سينك" في وادي السيليكون ودمشق وبرلين: "نسعى إلى التواصل مع البيئة التكنولوجية المزدهرة في برلين، والاستفادة من الحراك المتنامي للشركات الناشئة السورية فيها، بهدف التعاون لإيجاد حلول عملية تُسهم في خلق فرص عمل للسوريين/ ات داخل سوريا، من خلال تطوير المهارات، وتقديم التوجيه، واستكشاف طرق دعم المواهب السورية عبر التدريب والتوظيف. كما تطمح 'سينك' إلى أن تكون مجتمعاً متنامياً يحتضن لقاءات دوريةً لتعزيز التواصل وتبادل المعرفة وتوسيع نطاق التأثير".

وفي حديثه إلى رصيف22، يضيف خليفة: "هناك تجمعات في سوريا تُعنى بحقوق الإنسان، والمساعدات الإنسانية، والرعاية الصحية، لكن لا يوجد كيان يركّز على التكنولوجيا. من هنا نشأت الحاجة إلى تأسيس هذا التجمّع، الذي لا يقتصر هدفه على التشبيك والتعارف، بل يتجاوز ذلك إلى بناء البلد من خلال التكنولوجيا، وتطوير الاقتصاد، وتبنّي مشاريع جديدة، وتنمية مهارات الشبّان/ الشابّات داخل سوريا، وتوفير فرص العمل".

ويتابع: "هدفنا هو تأمين 25 ألف فرصة عمل خلال خمس سنوات للسوريين والسوريات داخل سوريا، للعمل من بُعد لصالح جهات خارج البلاد وداخلها. هناك سوق عالمي يتنافس فيه عمّال من بُعد من بلدان مثل بولندا، الهند، فيتنام، وأوكرانيا، ونحن نمتلك المؤهلات والطاقات لنجعل من سوريا إحدى هذه الدول. لدينا شبّان وشابات يمتلكون/ ن الإمكانيات، ويحتاجون/ ن إلى تأهيل وتطوير مهاراتهم/ نّ فحسب، إلى جانب خلق فرص عمل. أما الخطوة التالية، فهي بناء نظام بيئي متكامل يشمل شركات ناشئةً، روّاد/ رائدات أعمال، واستثمارات مخاطرة داخل سوريا، وهو ما يتطلب بيئةً حاضنةً وبنيةً تحتيةً قادرةً على استيعاب التجربة والمخاطرة".

تهدف 'سينك' إلى توطين التكنولوجيا في سوريا وتوفير 25 ألف فرصة عمل عن بُعد للسوريين/ات خلال السنوات الخمس المقبلة

ويختصر رؤيته بقوله: "هدفنا أن تصبح سوريا قادرةً على منافسة المنطقة العربية بأكملها خلال خمس سنوات، وأن تتحوّل إلى وادي سيليكون مُصغّر".

ويعبّر خليفة، عن دهشته من حجم الكفاءات السورية العاملة في قطاع التكنولوجيا: "كنا نعلم أنّ هناك أعداداً كبيرةً من السوريين/ ات في هذا المجال، لكن لم يكن هناك أي إطار جامع. السوريون/ ات منتشرون/ ات في أنحاء العالم ويعملون/ ن في مجالات متعددة، لكنهم/ نّ متفوّقون/ ات في قطاع التكنولوجيا بشكل خاص. هذا اللقاء كشف لنا عن إمكانياتنا، التي لم نكن ندركها بسبب غياب التجمعات التخصصية التي توحّدنا".

وقد شهد مؤتمر "سينك دمشق"، حضور أكثر من 750 مشاركاً/ ةً، فيما بقي عشرات الأشخاص على قوائم الانتظار أو انضموا لاحقاً إلى المبادرة.

في الوقت المناسب

وفي ما يخصّ الوضع الأمني وإمكانية الاستثمار في سوريا، يقول خليفة: "أنا رائد أعمال منذ 15 عاماً. أدرت أربع شركات، ولم تكن الظروف مثاليةً حين أطلقت أيّاً منها. أسّسنا 'سينك' ليس لأنّ الظروف مناسبة، بل لأنّ الحاجة ملحّة. نحن، ومعنا كثيرون/ ات، نؤمن بأنه يمكننا العمل لتغيير الظروف، وجعلها أكثر ملاءمةً".

ويضيف: "لا بدّ من وجود خطة تُخرج الناس من حالة البقاء على قيد الحياة، نحو التفكير في المستقبل، والتطوير، والأمل. الانشغال ببناء البلد يخلق وحدةً مجتمعيةً حقيقيةً، ويحدّ من التمييز والطائفية. ففي لقاءاتنا، يشارك أشخاص من مختلف الطوائف والأعراق في سوريا، يتحدثون بلغات متعددة، ويجتمعون في مكان واحد، توحّدهم التكنولوجيا وتجمعهم على مشاريع مشتركة، بدلاً من النزاعات".

ويختتم حديثه بالقول: "هناك تواصل مع مسؤولين في الداخل السوري، وهناك رؤية إيجابية، برغم أنّ الوضع الأمني لا يزال غير مستقرّ. شخصياً، أرى أنّ سوريا اليوم تمثّل أرضاً خصبةً للاستثمارات، خصوصاً للشركات الناشئة. هذه المرحلة، برغم ما تحمله من مخاطر، تمثّل أفضل فرصة للاستثمار، كونها تأتي بعد الحرب مباشرةً، حيث الحاجة كبيرة، والطموح أكبر".

تأنيث التكنولوجيا

من بين المحاور التي توليها مبادرة "سينك" اهتماماً خاصاً، مسألة العدالة الجندرية، من خلال السعي إلى منح النساء أدواراً قياديةً وتمكين المزيد منهنّ في قطاع التكنولوجيا. فقد شهدت الفعاليات الثلاث التي نظّمتها المبادرة حتى الآن حلقات نقاش مخصصةً لدور المرأة في هذا المجال، تخللتها قصص وتجارب ملهمة ومؤثرة لنساء سوريات يعملن في قطاع التكنولوجيا.

هذا ما تؤكّده علياء أسعد، وهي عضو في فريق "سينك برلين" ومديرة المنتجات في إحدى الشركات التكنولوجية في العاصمة الألمانية.

وتضيف في حديثها إلى رصيف22: "في قطاع التكنولوجيا، لا يوجد تمثيل كافٍ للنساء. أعمل في هذا المجال منذ 15 عاماً في ألمانيا، وكنت المرأة الوحيدة في العديد من الفرق الهندسية لسنوات طويلة. كما توجد مشكلة حقيقية في وصول النساء إلى الأدوار القيادية، إذ إنّ مواقع القيادة لا تزال محصورةً في الغالب على الرجال. وحتى خلال دراستي علوم الكمبيوتر، كان عدد الطالبات قليلاً جداً. لذلك، من خلال 'سينك برلين' نسعى إلى مشاركة تجاربنا كنساء في هذا القطاع، بهدف تمكين السوريات من خلال تسليط الضوء على التحديات المشتركة، وتقديم نصائح عملية للتعامل معها".

تسعى النساء السوريات المهاجرات العاملات في مجال التكنولوجيا إلى أن يكنّ جزءاً فاعلاً في بناء سوريا، من خلال خلق فرص عمل للنساء السوريات في هذا القطاع

وتشير أسعد، إلى أنّ هذا التجمع يكشف عن "القوة التي تمتلكها السوريات في مجال التكنولوجيا، والمنظور الفريد الذي يضفنَه إلى هذا القطاع. هناك الكثير ممّا يمكن تعلّمه من تجاربنا هنا في ألمانيا، ونطمح إلى نقل هذه المعرفة لدعم مزيد من النساء للدراسة في هذا المجال، والسعي إلى أدوار قيادية فيه، والمساهمة لاحقاً في بناء سوريا".

وتعبّر أسعد، عن تفاؤلها قائلةً: "من الجميل أن يعمل الإنسان على مبادرة تنبع من شغفه، وأن يشعر بأنه يساهم في بناء وطنه. ونحن كنساء، سنكون جزءاً أساسياً من عملية بناء سوريا، فالتكنولوجيا ليست مجرد أداة، بل قوة حقيقية وفاعلة في مسار الإعمار والتغيير".

الأمن أولاً

عن مؤتمر دمشق، يقول باسل أوجيه، الرئيس التنفيذي لشركة "ليغا داتا"، ونائب الرئيس السابق لشركة "ياهو"، خلال مشاركته من بُعد في اجتماع برلين من مقرّ إقامته في وادي السيليكون: "كان المؤتمر خطوةً أولى نحو تحقيق هدفنا في خلق 25 ألف فرصة عمل في مجال التكنولوجيا داخل سوريا. استمعنا إلى احتياجات العاملين/ ات هناك، وناقشنا في وادي السيليكون سبل تحويل هذه الاحتياجات إلى مشاريع واقعية. نأمل أن يتجاوز عدد أعضاء المبادرة 35 ألف عضو تقريباً".

ويسلّط أوجيه، الضوء على تحدي العقوبات الاقتصادية، مؤكداً أنّ تحركاتهم من الولايات المتحدة لا تزال محدودةً، بينما تتيح ألمانيا فرصةً أكبر لخلق شراكات مستقبلية. ويضيف: "نركّز على الفرص وليس على الصعوبات فحسب، فالرغبة في العمل والتطوير موجودة بوضوح داخل سوريا، ودورنا هو تمكينها عبر التدريب وتطوير المهارات وفتح أبواب العمل".

أما علاء مصطفى، مهندس شبكات الكلاود في برلين وعضو تنظيمي في "سينك دمشق" و"سينك برلين"، فيؤكد أنّ الإيمان بعمل المجموعة هو ما يمنح المبادرة قوّتها، يقول: "حتى لو لم نحقق الهدف العددي الكامل، تبقى أهمية 'سينك' في قدرتها على جمع السوريين/ ات من كل مكان، لبناء بيئة عمل ومجتمع مشترك. نحن قطع أحجية مبعثرة، وهذه المبادرة محاولة لإعادة تشكيل الصورة".

ويضيف لرصيف22: "نعمل حالياً على توسيع المبادرة لتشمل سوريين/ ات في مدن أوروبية أخرى، بحيث تصبح 'سينك' منصّة جامعة لكل من يعمل/ تعمل في مجال التكنولوجيا ويرغب/ ترغب بالمساهمة في بناء سوريا".

وفي ما يتعلق بالتحديات الأمنية، يعلّق الصحافي المتخصص في الشأن الأمني مهند صبري، لرصيف22، قائلاً: "لا يمكن الحديث عن إعادة إعمار حقيقية في ظلّ انفلات أمني وغياب سيادة القانون. الإصلاح القضائي، وضمان العدالة، ووجود نظام حكم نزيه، كلها شروط أساسية تسبق أي عملية تنموية".

ومن المنتظر عقد مؤتمر قريب في أوروبا يجمع العاملين/ ات السوريين/ ات في قطاع التكنولوجيا، استكمالاً للمسار الذي بدأ في دمشق ووادي السيليكون، واستعداداً للمرحلة المقبلة من المبادرة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image