من ينقذ الأشجار في سوريا؟

من ينقذ الأشجار في سوريا؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

بيئة ومناخ نحن والبيئة

السبت 17 مايو 202506:33 ص

في أول أيام شهر رمضان الفائت، دعاني صديقاي سلمى وهاني لزيارة مزرعتهما في بلدة جسرين في غوطة دمشق الشرقية. مضى على آخر مرة وطأت فيها أقدامهما هذه الأرض الشاسعة نحو عشر سنوات، إذ اضطرا إلى مغادرة البلاد مع اشتداد وتيرة المعارك عام 2013. ونحن نتجول في المكان المهمل وكنت أستمع إلى شرح هاني عما حصل في أرض العائلة والمنطقة عموماً، أخبرني بحسرة ودهشة: "قبل رحيلنا، ما كان بإمكاننا رؤية الطريق العام من هنا بسبب كثافة الأشجار، الآن، معظم الأشجار في أرضنا والأراضي المجاورة قُطعت، وها هو الطريق ماثل أمامنا بعد أن أصبحت الأرض شبه جرداء".

ما حصل في هذه الأرض ليس استثناءً. في الأشهر والسنوات الماضية، تجولتُ في كثير من قرى وبلدات ريف دمشق، وكان المشهد "محزناً" للغاية. رأيت كيف تحولت كثير من الأراضي الزراعية الشاسعة إلى شبه صحراء، يصعب أن تجد فيها شجرة يمكن أن تحتمي بظلها، وكيف تلتهم الكتل الأسمنتية القبيحة تلك الأراضي وما فيها من غطاء نباتي وقد حلت محله أبنية ومزارع ومعامل ومستودعات تتناثر في كل مكان بشكل عشوائي. لمحتً أشخاصاً يقطعون أشجاراً كبيرة ويحولونها بكل مهارة إلى قطع حطب صغيرة، ويخبئون وجوههم ويرفضون الحديث بشكل قاطع عن الأمر، وآخرون يقولون بكل بساطة: "بدنا نتدفى... عندك حل تاني؟".

بعد عام 2011، حين اندلعت الثورة السورية التي تحولت بعدها إلى حرب طاحنة، شهدت كثير من المناطق ارتفاعاً غير مسبوق في معدلات قطع الأشجار والاحتطاب الجائر، وللأمر أسباب عدة منها عدم توفر المحروقات وغلاء أسعارها وتالياً لجوء آلاف العائلات إلى الحطب كوسيلة للتدفئة وتحول الأمر إلى تجارة رابحة خاصة وأن تسعة من كل عشرة سوريين يعيشون تحت خط الفقر، والرغبة في الاستثمار العقاري والحصول على المكاسب السريعة بعد أن غدت الزراعة مهنة صعبة ومكلفة، إلى جانب غياب الرقابة والتطبيق الصارم للقوانين البيئية التي لها أن تكفل حماية الأراضي والغطاء النباتي.

يشير موقع "الرصد العالمي للغابات Global Forest Watch" إلى أن "سوريا خسرت بين عامي 2011 و2023 ما نسبته 28% من الغطاء الشجري، وهو يعادل 29.5 ألف هكتار"، ويعود ذلك إلى الحرائق والاحتطاب الجائر والقصف العشوائي بشكل أساسي

"من كان يفكر قبل عام 2010 أن يقطع شجرة في سوريا؟"، سؤال قد يفسر لنا جوانب كثيرة من هذه الكارثة البيئية، التي تتولد اليوم آمال ولو ضئيلة ببدء مجابهتها ووضع حلول جذرية لها، بعد سقوط النظام السوري وتولي إدارة جديدة للبلاد.

خسارة أكثر من ربع الغطاء الشجري

قد لا تتوافر أرقام وإحصائيات وافية ودقيقة عن حجم ما حدث في سوريا للغطاء الشجري، إذ إن سنوات الحرب وما رافقها من دمار وخسارات في الموارد البشرية والمادية والتقنية وصعوبة الوصول إلى كثير من المناطق، تصعّب تأكيد الواقع الحالي، لكن لا يصعب وصفه بأنه "كارثي" ويحتاج تحركاً عاجلاً.

يشير موقع "الرصد العالمي للغابات Global Forest Watch" إلى أن "سوريا خسرت بين عامي 2011 و2023 ما نسبته 28% من الغطاء الشجري، وهو يعادل 29.5 ألف هكتار"، ويعود ذلك إلى الحرائق والاحتطاب الجائر والقصف العشوائي بشكل أساسي. ورغم أن الأعوام ما قبل 2010 شهدت نسبة من هذه الخسارات، تبين المخططات البيانية ارتفاعاً هائلاً في هذه الخسارة بعد عام 2011.

ويكشف بحث نشره "مركز الأبحاث البيئية والتطبيقات الحرجية في برشلونة" عام 2024 عن "فقدان مستمر للغطاء الحرجي في سوريا، يتركز معظمه في سلسلة الجبال الساحلية في الشمال الشرقي وحول دمشق العاصمة في جنوب البلاد، وقد سُجِّل أعلى معدل إزالة غابات بين عامي 2010 و2015، إذ انخفض إجمالي الغطاء الحرجي بنسبة 11.5% (أو 37.9 ألف هكتار)".

كما أشارت دراسة نشرتها مجلة "ساينس دايركت" العلمية نهاية عام 2024 ونفذت على مجتمعين محليين في الساحل السوري، إلى أن "أنشطة قطع الأشجار زادت بمجرد بدء الحرب، حيث شارك المزيد من الأشخاص في التحطيب، وارتفع متوسط ​​الأيام التي يقضونها في قطع الأشجار أسبوعياً من 1.5 إلى 4".

للأمر بالطبع عواقب وخيمة على عدة أصعدة، كما تشرح الدكتورة والخبيرة البيئية غادة بلال، وهي عميدة المعهد العالي للتخطيط الإقليمي في جامعة دمشق: "تعتبر الأشجار عنصراً حيوياً وأساسياً من عناصر البيئة، وتشكل دوراً مهماً كغطاء نباتي وعنصر أساسي للتربة والمناخ والهواء بإغنائه بالأوكسجين، إضافة إلى إغناء التربة بالمغذيات مثل النتروجين والفسفور وضمان ثباتها وتماسكها، كما تساهم الأشجار في جانب الأمن الغذائي للإنسان، وعملية قطعها لها آثار طويلة وبعيدة المدى على الهواء والماء والتربة والمناخ والإنسان وحتى استمرارية الحياة، وهو أمر نشهده اليوم نتيجة الظروف الاقتصادية المتردية في سوريا وصعوبة الحصول على مواد التدفئة، إلى جانب محاولة الاستيلاء على بعض الأراضي التي تتبع ملكيتها للدولة".

هل القوانين كافية؟

داخل مكتبه في دمشق، التقينا مع مدير الحراج في وزارة الزراعة، السيد مجد سليمان، وأشار إلى "وجود ضغط كبير على المواقع الحراجية في سوريا خلال السنوات الأخيرة وعلى المجتمعات المحلية التي تعيش بالقرب منها، نتيجة تدهور الوضع الاقتصادي وعدم وجود المحروقات والكهرباء وصعوبة الوصول إلى الطاقة البديلة، والحرائق الكبيرة التي طالت مساحات واسعة من الحراج والغابات نتيجة التغيرات المناخية وعدم انتظام الهطول المطري، إلى جانب الممارسات البشرية غير المستدامة".

وينوّه إلى أن التعديات على الغابات تعتبر أخطر من الحرائق، ففي حال الأخيرة، تتجدد المواقع الحراجية من تلقاء نفسها في كثير من الأحيان خاصة في حال حدوث الحريق خلال فترة الحمل البذري للأشجار وبحدوث هطولات مطرية جيدة، أما الأفعال البشرية بما فيها التحطيب الجائر فهي تخرج الأرض الحراجية عن وظيفتها وتحوّلها نحو أغراض أخرى مثل زراعة الخضروات. وهذا لا ينفي بالطبع المسؤولية البشرية عن كثير من الحرائق نتيجة ممارسات خاطئة مثل حرق بقايا المحاصيل بطرق عشوائية ودون التقيد بالتعليمات والإرشادات، إلى جانب انتشار مكبات القمامة وعدم تنظيف جوانب الطرقات من الأعشاب والأشواك التي تشتعل بسرعة.

وتعمل مديرية الحراج من خلال نحو 100 مخفر حراجي ونحو 800 عنصر مختص منتشرين في أنحاء البلاد على ملاحقة التعديات على الأشجار وحراسة المواقع الحراجية، وينتظم عملها وفق القانون رقم 39 الصادر عام 2023 تحت عنوان "الحفاظ على الثروة الحراجية وتأمين الإدارة المستدامة لها"، وقد شدد هذا القانون العقوبات والغرامات على كل من يضر بالغابات والحراج والأشجار، وهي تتضمن السجن واحتجاز الآليات ودفع مبالغ مالية كبيرة، ما ساهم إلى حد ما في التقليل من المخالفات الحراجية وفق ما يقول سليمان، لكن الجهود المطلوبة بهذا الصدد ما تزال كبيرة.

ترى الخبيرة غادة بلال وجود "سوء إدارة في حماية الموارد الطبيعية في سوريا وخاصة الغطاء النباتي. ولا بد من اعتماد دراسات علمية كتلك التي يقدمها معهد التخطيط الإقليمي على المستوى الوطني والمكاني، لرفع كفاءة إدارة الموارد الطبيعية وحمايتها من الكوارث مثل الحرائق والتجاوزات وقطع الأشجار"

"التعديات مرتبطة بشكل أساسي بالوضع الاقتصادي، واليوم مع وجود الإدارة الجديدة في سوريا تواصلنا مع الأمن العام ووزارة الدفاع والداخلية لتقديم مساعدة للضابطة الحراجية وتوقيف المخالفين، ووضعنا خطة متكاملة لتثبيت نقاط للأمن العام على مداخل ومخارج المحميات في كل سوريا لضبط أي تعدٍ على هذه المواقع، وتسيير دوريات مشتركة. الظروف الحالية ليست سهلة على الإطلاق، وقد شهدنا فوضى كبيرة عقب سقوط النظام لكن الأمور الآن تتجه نحو إعادة الضبط بقوة، ونتفاءل بأن إرساء الأمن أكثر سيخفف من التعديات على الحراج"، يقول سليمان.

ويشير إلى جملة من التحديات التي يواجهها عمل المديرية في مراقبة وضبط المخالفات والتعديات على الغطاء الشجري وإعادة توزيع وتنظيم العمل على كامل البلاد وفق رؤية متطورة، ومنها نقص الكوادر البشرية والمعدات والآليات، والحاجة إلى ميزانيات أكبر بما يسمح أيضاً بتحديث التقنيات بمجال الإطفاء والضابطة الحراجية مثل الحصول على طائرات مسيرة للمراقبة وتركيب خزانات في مناطق مرتفعة. 

بدورها ترى الخبيرة غادة بلال وجود "سوء إدارة في حماية الموارد الطبيعية في سوريا وخاصة الغطاء النباتي. ولا بد من اعتماد دراسات علمية كتلك التي يقدمها معهد التخطيط الإقليمي على المستوى الوطني والمكاني، لرفع كفاءة إدارة الموارد الطبيعية وحمايتها من الكوارث مثل الحرائق والتجاوزات وقطع الأشجار".

وتشير بلال إلى أن القوانين الموجودة حالياً في سوريا "جيدة، وفي حال تم تطبيقها واعتمادها ومتابعتها فهي تعتبر كافية لتحول دون حصول أزمات في فقدان الغطاء النباتي، لكن التجاوزات الكثيرة وعدم المتابعة يتطلب التزاماً أكثر، خاصة وأن الحقبة الطويلة من التجاوزات بدأت بالفعل تغيّر في طبيعة الأحراج، ولا ضير من تعديل القوانين بغرض تحقيق إدارة متكاملة لحماية المورد الطبيعي".

مشاركة المجتمع المحلي

إلى جانب التحريج الصناعي وإنتاج الغراس الحراجية ووضع خطط تعويضية لتأهيل الغابات المتضررة وإعادة ترميمها ورفع مساحة الرقعة الحراجية، تعمل مديرية الحراج على تشجيع المجتمع المحلي على المشاركة في التشجير، ورفع الوعي بأهمية الغابات وضرورة الحفاظ عليها، وإطلاق مبادرات توعوية تشجيرية للاهتمام بالشجرة. يقول مدير الحراج مجد سليمان: "تتمثل رؤيتنا الجديدة في تعزيز المشاركة المجتمعية في أعمال التحريج، فنقدم تسهيلات لحملات التشجير ونشجعها وأيضاً ننظمها ونشرف عليها فلا تكون عشوائية، ونعدل القوانين ذات الصلة كي لا تكون بيروقراطية، كما نعمل على تعزيز الرؤية الاستثمارية للحراج بزراعة أنواع متعددة الأغراض مفيدة للمجتمع المحلي، مثلاً عندما أزرع الخرنوب إلى جانب الأشجار فإنني أشجع المجتمع المحلي على حب الشجرة وحمايتها لأنه يستفيد منها".

يرى سليمان بأن "القوة في أن نعيد الأمر لأهله، بتشكيل لجان محلية تنسق مع الجهات الحكومية لمراقبة التعديات واتخاذ الإجراءات القانونية. يجب أن نحرّك الغيرة عند الناس لأجل الغابة، فبناء المجتمع والوعي هو الأساس".

في هذا الصدد تشير الخبيرة غادة بلال إلى أن المشاركة المجتمعية في حماية الغطاء النباتي ضرورة لا بد منها في كل العمليات والدراسات والمشاريع التي تحقق العملية الإنمائية. لكن هل تتم بالشكل الصحيح؟ نسألها فتجيب: "الحقيقة أنها لا تحدث بشكل ممنهج ومستدام وضمن خطة متكاملة ومعتمدة، فلا بد أن تدخل ضمن سياسات واستراتيجيات تعتمدها الدولة وتتابعها من بداية الفكرة إلى وضع الخطة وآلية العمل والتنفيذ، وأن تراعي الشروط البيئية الصحيحة التي تحقق الاستدامة".

"المشاركة المجتمعية في حماية الغطاء النباتي ضرورة لا بد منها في كل العمليات والدراسات والمشاريع التي تحقق العملية الإنمائية. لكن هل تتم بالشكل الصحيح؟".

وتختم بالقول: "المطلوب اليوم أن تتعامل الجهات الحكومية وحتى القطاع الخاص مع الغطاء النباتي والأشجار وفق خطط ودراسات إستراتيجية تدعم حفظ وصيانة هذا الغطاء وضمن خطط تنموية إنمائية مستدامة، وهذه الخطط تتطلب قوانيناً وتشريعات تحقق تنفيذ صون الموارد الطبيعية بما فيها الأشجار والغطاء النباتي، وأن تكون شاملة لكل المشاريع التي تتعامل مع استعمالات الأراضي المختلفة". 

ويمكن أن نضيف بعض التوصيات التي أدرجتها مجلة "ساينس دايركت" في البحث المذكور آنفاً لحماية الغطاء الشجري في سوريا، ومنها "دعم الحكومات والسلطات المحلية لمجتمعات الغابات في إيجاد مصادر طاقة بديلة ونظيفة للطهي والتدفئة، وتثقيف المجتمعات حول ممارسات الإدارة المستدامة للغابات، وتحسين الخدمات في المناطق الريفية لمكافحة الفقر وتقليل الضغط على موارد الغابات. كما ينبغي على الهيئات الدولية النظر في دمج استراتيجيات تعالج فقر الطاقة في خططها الإنسانية وخطط إعادة الإعمار، وقد يشمل ذلك ضمان الوصول إلى مصادر طاقة بأسعار معقولة، وإعادة بناء البنية التحتية للطاقة".

*أُنتج هذا المقال بالتعاون مع منظمة "تاز بانتر" الألمانية ضمن مشروع كرين بانتر، وقد نُشر لأول مرة عبر "صحافيات من أجل المناخ" .


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

فلنتشارك في إثراء مسيرة رصيف22

هل ترغب/ ين في:

  • الدخول إلى غرفة عمليّات محرّرينا ومحرراتنا، والاطلاع على ما يدور خلف الستارة؟
  • الاستمتاع بقراءاتٍ لا تشوبها الإعلانات؟
  • حضور ورشات وجلسات نقاش مقالات رصيف22؟
  • الانخراط في مجتمعٍ يشاركك ناسه قيمك ومبادئك؟

إذا أجبت بنعم، فماذا تنتظر/ ين؟

    Website by WhiteBeard
    Popup Image