عاد التّشنج يلتفّ حول حوضي بسبب الجلوس المتواصل خلال ساعات العمل الطويلة. أقف قليلاً ، أميل ببطء يميناً ثم ّيساراً كراقصةٍ خرج أداؤها عن النّغم. يتسارع اهتزاز وسطي كأنني أحاول أن أنفض عنه هذا التّشنج المزعج. عبثاً! أمشي بضع خطوات ذهاباً وإيّاباً منهيةً وصلتي المملّة. أربط تشنّجي وأعود إلى العمل. تجول في خاطري فكرة أسخر منها، فأُسكتها وأقودها إلى زنزانة الأفكار المقموعة في صميمي. كيف تجرأت، أنا التي لم أحبّ رائحة السيجارة يوماً لا بل أتقزز منها وتكتم أنفاسي؟ أيُعقل أن أصبح مدخّنةً، أنا التي أتلو نصائح خشبيةً على المدخّنين وأستعمل أساليب خلاّقةً كي أحثّهم على الإقلاع عن عادة التدمير الذاتي تلك؟ أيُعقل أن أحمل علبة سجائر وقداحةً؟ لو كنت كذلك، لكان جسدي سيعطيني تذكيراً مستمراً بأن أتوقف عن العمل بشكل دوري، وأخرج إلى الهواء الطّلق، وأرى الشّمس، يدغدغ الهواء وجهي وشعري، فأنفث أخيراً دخان سيجارتي... وتشنّجي.
لكنني لست كذلك.
إنها ليست المرة الأولى التي تجول فيها فكرة التدخين في بالي. فكّرت في أن أحمل سيجارةً وأنفثها حين ماتت جدّتي. شعرت بالعجز تجاه شعور الفقد الأوّل، وبأنّ حزني مهما كبر لن يكفيني... رحلت جدّتي وانتهى الأمر، تلك الخلاصة كانت ثقيلةً لكنني مع ذلك لم أحمل سيجارةً. كان عقلي راجحاً يقول لي بأنّ هذا النيكوتين لن يبعث جدّتي حيّةً.
لم أقرأ يوماً عن سيكولوجيا المدخّن، ولم أخُض في أحاديث عميقة مع المدخّنين عن دوافعهم ورغباتهم وإشباعهم، على اعتبار أنّ هذا الموضوع مختوم عندي بالشّمع الأحمر وليس هناك أيّ شيء يضاف. لكنني اليوم أشعر بأنّه لو قدّم لي أحدهم سيجارةً، فسآخذها وأشعلها. سأقبّلها انتقاماً من شعوري بالعجز الفائق أمام كل ما لا أستطيع تغييره. عجز متراكم أقابله كل يوم. أقابله في كلّ ما تطلبه منّي الحياة دون أن تعطيني، على عكس الطبيعة. كأنّ الحياة قررت الخروج هي أيضاً من إطارها المألوف، ونسيت أنّ الأشياء لا تحدث بـ"كبسة زر". نسيت أنّ تكوين الإنسان يبدأ بنطفة، ثم جنين ثم تحمله أمّه تسعة أشهر ليصل إليها بعد ذلك طفلاً جديداً. لعلّها شاخت أو لعلّها تأكل من المصدر نفسه الذي أتغذى منه…
لكنني اليوم أشعر بأنّه لو قدّم لي أحدهم سيجارةً، فسآخذها وأشعلها. سأقبّلها انتقاماً من شعوري بالعجز الفائق أمام كل ما لا أستطيع تغييره. عجز متراكم أقابله كل يوم. أقابله في كلّ ما تطلبه منّي الحياة دون أن تعطيني، على عكس الطبيعة
هذا المصدر المجهول الذي لا أعرف منه حقيقة طعامي كلّ يوم، حقيقة قيمته الغذائية وما يحتويه فعلاً… كم من القوة والشباب سيعطيني؟ أسئلة كثيرة قد يعرف إجاباتها أخصائيّو العافية وطول العمر. ربما لو سمعت جدّتي باستحداث هذا الاختصاص، لطال عمرها من كثرة الضحك أكثر!
أكبر، وفيما أنا أستمع إلى أسرار العمر الطويل... يصغر قلبي، ويقصر الطريق نحو خيبات أخفيتها غصّةً في أعماقي حتّى صرت أتفاجأ بكم المواضيع التي تثير دمعاً خجولاً في مقلتي. وحين يستفاض في الحديث، تفيض عيناي دمعاً كنت أخجل من إظهاره على الملأ، لكن دفعه صار أقوى منّي.
حملت طفلتي تسعة أشهر. كانت تجربةً صعبةً وقاسيةً تسببت لي في إعاقة مؤقتة أثّرت على عمل الحوض والقدمين، لكن أهمّ ما تعلّمته منها أنّ داخل الإنسان قدرةً على التحمّل لا يمكن أن يعرفها، قدرة قوّة هي أكبر بكثير مما يعتقد. ولدت طفلتي، رممت نفسي بنفسي، وبدعم الطيبين حولي، حتّى مشيت من جديد. توقعاتي كلّها كانت مختلفةً. لم أتخيّل تجربة حملٍ بهذا الشكل، ولم أرغب بعد كل تلك المعاناة في أن أقضي وقتاً في العمل أكثر من الذي أقضيه مع طفلتي. هنا، يأتي دور الأخصائيين من جديد. يحاولون التخفيف عنّا وينصحوننا بالتركيز على نوعية الوقت لا على كميته، فدراساتهم تقول إنّ قضاء عشرين إلى ثلاثين دقيقةً مع أطفالنا يومياً، يمكنه تعويض غياب نهار كامل، وإعادة التّوازن إلى العلاقة بين الأهل والأولاد. لكن ماذا لو كانت الحياة أبسط، كالحياة في عالم طفلٍ صغير يروي وردةً في حديقة أو يتتبع النّمل كيف يعود إلى بيته؟ ماذا لو كانت الحياة أبطأ كخيط تُدخله جدّتي في الإبرة ثم تسحبه برفقٍ ويجول إصبعها به على النسيج بهدوء؟ ماذا لو أقررت بأنّ الحياة ليست هي من يسلبني ويعطيني، وليست هي من يرميني في الشيئ ونقيضه، وليست هي من تركض ثمّ تستحدث "مدربي حياة بطيئة"؟
تلك الحياة هي أنا، نحن، ونحن عاجزون. سأشعل سيجارةً. سأشعلها وأنا أشاهد التسجيلات المؤلمة نفسها منذ تسعة عشر شهراً، والتي يناشد فيها المنكوبون في غزّة، العالم ويسألونه: ماذا فعل؟ ماذا سيفعل؟ أنا جزءٌ من العالم العاجز وسئمت هذا السؤال. سأشعلها كلّما تمنيت أن أقضي ساعات أكثر مع طفلتي نراقب الزّهر في الرّبيع كيف يصير لوزاً، أو نتتبّع غيمةً تهرب وترسم أشكالاً نتخيّلها. سأشعل السيجارة في وجه طبق السّلطة الذي لم أعد أعرف إن كان يضرّني أو ينفعني، في وجه جسدي الهزيل الذي يطمح إلى أن تكون له حصّة في النوم والرياضة. سأشعل السيجارة في وجه بلاد لا أثق بها في اليوم التالي. ماذا لو عدنا نسكن بيوتاً صغيرةً، وحدنا دون "أخصائيين"، بيوتاً أمامها مسكبة خضروات وبئر ماء نظيفة، نزرع فيها ونأكل مما نزرع ونفرح بشتلتنا تكبر كل يوم، بهدوء وعلى مهل؟
تلك الحياة هي أنا، نحن، ونحن عاجزون. سأشعل سيجارةً. سأشعلها وأنا أشاهد التسجيلات المؤلمة نفسها منذ تسعة عشر شهراً، والتي يناشد فيها المنكوبون في غزّة، العالم ويسألونه: ماذا فعل؟ ماذا سيفعل؟ أنا جزءٌ من العالم العاجز وسئمت هذا السؤال
سأشعل تلك السيجارة في وجه هذا كله، لكن سأتركها تحترق.
صحيح أنني لم أستطع إيقاف الحرب المجنونة في غزّة، لكنني استطعت أن أبكي وبكيت.
صحيحٌ أنني لم أرَ مع طفلتي كيف أورق الزّهر في الربيع، لكنني مع كل صباح كنت أرى الشجرة قبل توجهي إلى عملي، وكنت أتمنى أن نلعب في ظلّها معاً.
هو قلبي، سأرعاه وسأحمل هذا العجز كله ثقيلاً، كما حملت طفلتي، عساه يكون "مؤقتاً" وعساه يلد أملاً يوماً ما فوق كلّ رمادٍ وكلّ نار…
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Thabet Kakhy -
منذ 4 أيامسيد رامي راجعت كل مقالاتك .. ماكاتب عن مجازر بشار ولا مرة ،
اليوم مثلا ذكرى مجزرة الحولة تم...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعيا بختك يا عم شريف
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمحاوله انقاذ انجلترا من انها تكون اول خلافه اسلاميه في اوروبا
Aisha Bushra -
منذ أسبوعA nice article,I loved it..
رزان عبدالله -
منذ أسبوعشكرأ
حكيم القضياوي المسيوي -
منذ اسبوعينترامب يحلب أبقار العرب، وهذه الأبقار للأسف تتسابق للعق حذاء المعتوه ومجرم الحرب ترامب!