لا أكتب هذه الكلمات كصحافي، ولا كباحث اجتماعي، ولا حتى كناشط يهوى الظهور.
أكتب ربما لأنني كنت هناك. كنت طفلاً يشبه آلاف الأطفال الذين نشأوا في بيئات تتقن التستر أكثر مما تتقن التربية، وفي بيوت تُتقن العقاب أكثر مما تُتقن الحنان أحياناً...
حين ظهرت "لينا سلوان"، لم أرَ في حديثها جرأةً فارغةً أو حبّاً للفت الأنظار. رأيتُ فتاةً قررت أن تضع اسماً لما مرّت به. أن تُسمّي الإساءة باسمها، وأن تشير إلى العنف بلا تجميل، وأن تقول: "لقد تأذّيت".
لينا لم تأتِ بجديد من حيث الفعل، بل من حيث القول. قالت ما لم يُقَل، وفعلت ما لم نجرؤ على فعله نحن: لقد واجهت.
واجهت التاريخ الشخصي، واجهت الألم، وواجهت الرأي العام القاسي، والرأي الخاص الأشدّ قسوةً.
حين ظهرت "لينا سلوان"، لم أرَ في حديثها جرأةً فارغةً أو حبّاً للفت الأنظار. رأيتُ فتاةً قررت أن تضع اسماً لما مرّت به. أن تُسمّي الإساءة باسمها، وأن تشير إلى العنف بلا تجميل، وأن تقول: "لقد تأذّيت".
لكن حين تحدثت، لم تجد آذاناً تُنصت. لم تجد سوى أصوات تُقاطع. أصوات لا تسأل: "ماذا حدث؟"، بل تسأل: "ماذا كنتِ تلبسين؟". لا تسأل: "من آذاكِ؟"، ولا تحاول الفهم، بل تُجهّز قائمة اتهامات: "تسعى إلى الشهرة"، "تتجاوز حدودها"، "تشوّه صورة العائلة"، و"لديها أفلام إباحية".
المشكلة ليست في أنّ لينا تكذب، بل في أنّها تقول الحقيقة.
وحين تكون الحقيقة موجعةً، الناس تُسارع إلى إنكارها. ففي علم النفس، هذه الظاهرة تُعرف بـ"آليات الدفاع". حين يعجز العقل عن تحمّل واقع صادم، يبدأ بخلق حواجز: ينكر، يُسقط، ويُبرّر.
حين تقول فتاة إنها تعرّضت للعنف من أمّ أو أب أو زوجة أب، يُسارع الناس إلى تقليب حياتها:
لماذا هذه الصور "الجريئة"؟
هل هي "محترمة" بما يكفي لتستحقّ التعاطف؟
وكأنّ التعاطف أصبح مشروطاً بالسلوك، لا بالإنسانية.
نعم، نحن نحبّ الضحايا "المناسبين"، أو للأدقّ "المناسبات".
نحبّ من يبكي بصمت، دون ضجيج، دون تحدٍّ، ودون أن يكشف لنا قبحنا نحن.
نحبّ الضحية التي تطلب السماح وهي تتألّم، لا تلك التي تطلب الحساب.
نحبّ الضحية التي تطلب السماح وهي تتألّم، لا تلك التي تطلب الحساب.
ولأنّها اتّهمت من هم/ هنّ من دمها ولحمها، أصبح من الأسهل اتهامها، بدلاً من مواجهة ذكرياتنا التي لم تُدفن.
المجتمع لا ينكر العنف، لأنه لا يراه، بل لأنه يخاف رؤيته. يخاف من الاعتراف بأنّ الأذى قد يصدر من الأب مثلاً، أو من زوجة الأب، وهذا مثل آخر من رواية لينا. لذا نُطلق حملة تشكيك ونُطلق الشتائم باسم الدين والأخلاق.
وما لا نفهمه هو أنّ العنف العائلي لا يبقى داخل البيت، بل يسكن داخل النفس.
الطفل لا ينسى.
والطفل الذي يُضرب لا يتعلم الاحترام، بل الخوف.
وهذا الخوف يكبر معه، يظهر في علاقاته، في عمله، في صوته، وفي عينيه، وإن بان أنّهما تسعان السماء.
لا يُشفى الإنسان من طفولته، بل يحملها معه. يحاول أن يُرمّم ما تهدّم فيه، أو يُسقط ذلك على غيره.
أنا كما ذكرت كنت واحداً منهم.
أعرف كيف يشعر الطفل حين ينام، وهو ممسِك بدمعته، لأنها دمعة سببها عزيز.
وأعرف كيف يكبر هذا الطفل، وهو يخفي هشاشته خلف صوته العالي.
و"لينا" ليست وحدها.
قررت أن تكون صوتاً فحسب، صوتاً لآلاف لم يستطيعوا أن يتكلموا.
ولهذا يحاول البعض إسكاتها بكل وسيلة.
لأنّ صوتها يوقظ فيهم ذنوباً لم يُحاسبوا أنفسهم عليها.
"لينا" ليست وحدها. قررت أن تكون صوتاً فحسب، صوتاً لآلاف لم يستطيعوا أن يتكلموا. ولهذا يحاول البعض إسكاتها بكل وسيلة. لأنّ صوتها يوقظ فيهم ذنوباً لم يُحاسبوا أنفسهم عليها.
لكن هل يمكن أن نبني مجتمعاً سويّاً إذا كنّا نُحاكم الضحية أكثر من الجاني؟
هل يمكن أن نربّي أطفالنا على السلام، إذا كنا ندافع عن العنف تحت اسم "الخصوصية العائلية"؟
هل نريد فعلاً أن نعيش في بيئة عادلة، أو نريد العدل فحسب حين لا يكون الكيل في صفّنا.
إلى كل من حاول التشكيك، أو التبرير، أو السخرية من ألم لينا:
أنتم لا تدافعون عن القيم، بل عن الجُناة.
وأنتم لا تحمون الأسرة، بل تكتمون الألم باسمها.
وأنتم لستم محايدين… الصمت في وجه الظلم ليس حياداً، بل تواطؤ.
لقد مرّت السنوات، تغيّرت الفصول، ونبتت أزهار كثيرة، لكن الذاكرة لم تذبل.
الألم لم يُمحَ.
والدموع… لم تجفّ تماماً.
نحن لا نطلب معجزةً. ولا نعشق الـ"فضائح". نحن نطلب شيئاً بسيطاً… الاعتراف.
الاعتذار.
نية الإصلاح.
إن كنت يوماً قد أذيت طفلاً، أو ضربته لأنّك كنت "مُرهقاً"…
اعتذر واشرح نيّتك.
ليس لأنّ الكلمة تشفي، بل لأنها تفتح باباً للشفاء.
ليس لأننا نحتاجها فحسب، بل لأنك تحتاج أن تقولها.
كلّنا نخطئ.
لا نملك كلنا الجرأة لنقول: "كنت قاسياً، وسأكون أفضل".
هل نبرر الأذى؟ هل نسامح بلا مساءلة؟
المسامحة، كما يصفها الدكتور عماد رشاد عثمان، في كتابه "أبي الذي أكره"، ليست قبولاً بالفعل المؤذي، بل إدراك أنّ بعضاً ممن آذونا، لم يعرفوا غير ما عرفوه.
كثيرٌ من المؤذين، خصوصاً في سياق الأهل، تصرّفوا من مكان جهل، من تراكمات قهر هم أنفسهم لم ينجوا منه.
مارسوا العنف وهم يظنونه "تربيةً". كرروا ما عاشوه، دون أن يتوقفوا ليسألوا: "هل ما أفعله صحيح؟".
وهنا تأتي المسامحة كمساحة داخلية، لا بينك وبينهم، بل بينك وبين نفسك.
لكي تتحرر من ثقل الغضب، من حمل لا تستحقه.
وليس بالضرورة أن تُصالح الجاني، ولكن أن تُصالح نفسك على الماضي.
ونحن حين نطلب من المؤذي أن يعتذر، لا نطلب منه إذلالاً، بل نفتح له باباً لفهم ما فعله.
نقول له: "تستطيع أن تبدأ من جديد، أن تُعيد بناء ما انكسر… لا أحد يولد جلّاداً، لكن الجلاد من يختار ألا يتغير".
نحن حين نطلب من المؤذي أن يعتذر، لا نطلب منه إذلالاً، بل نفتح له باباً لفهم ما فعله. نقول له: "تستطيع أن تبدأ من جديد، أن تُعيد بناء ما انكسر… لا أحد يولد جلّاداً، لكن الجلاد من يختار ألا يتغير".
أنا وكل ناجٍ من أي نوع إساءة، برغم كل ما مررنا به، لسنا ضحايا حياتنا.
ما عشته لم يكسرني، بل كشف لي عمّا لا يُهزم فيّ.
بهذا المحاربَ الذي في داخلي، وبكم أنتم أيها الجناة، أفتخر.
شرفٌ لي أن أكون هذا الإنسان، أن أكون "أنا"… كما أنا. كل ندبة تحمل قصةً، وكل صمتٍ تحوّل إلى وعي.
نحن لا نعيش في ظلّ الماضي، بل نقف عليه، شامخين لا منكسرين.
هذا أنا، وهذه ندوبي… فمن أنت؟
إلى لينا:
صوتك ليس عبئاً.
ولا حديثك فضيحة.
أنت لست وحدك.
طوبى لك.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومينزاوية الموضوع لطيفة وتستحق التفكير إلا أنك حجبت عن المرأة أدوارا مهمة تلعبها في العائلة والمجتمع...
Bosaina Sharba -
منذ أسبوعحلو الAudio
شكرا لالكن
رومان حداد -
منذ أسبوعالتحليل عميق، رغم بساطته، شفاف كروح وممتلء كعقل، سأشاهد الفيلم ولكن ما أخشاه أن يكون التحليل أعمق...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعهذا ليس طبيعيا، وهو ينشئ في الحالات القصوى من اضطرابات ومشاكل نفسية. الإنسان العاقل عندما يواجه...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعAnyone that studies human psychology and biological functioning of the body and it's interactions...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوع'لا يسخر قوم من قوم', لا أذكر هذه العنصرية عندما كنت في المدرسة في الجنوب.
للأسف أن المعتقد...