تلازم عائلة آمنة البحطيطي، من مدينة غزّة، آمال مشتتة في العثور على شقيقها أمين، طبيب الأسنان الذي اختفت آثاره عقب خروجه من منزله في أواخر تشرين الأول/ أكتوبر 2023. منذ تلك اللحظة، لم تسمع العائلة أو تعرف معلومةً عنه، أو عن احتمال استشهاده أو أسره من قبل إسرائيل.
ظروف اختفاء أمين الغامضة، دفعت عائلة البحطيطي، إلى رفض أوامر النزوح الإسرائيلية لسكان المدينة بالتوجه جنوباً، على أمل العثور على ابنها أو محاولة معرفة مصيره، لكن دون جدوى.
"لم أدّخر جهداً في البحث عن شقيقي ضمن قوائم الشهداء والجرحى في المستشفيات. كما أنني أتتبّع قوائم الأسرى في السجون الإسرائيلية، وروايات المُحرّرين منهم، بغية معرفة أي معلومة عن مصيره"، تقول آمنه البحطيطي، لرصيف22.
في تمام الخامسة مساءً من يوم الأربعاء 30 آذار/ مارس الماضي، تلقّيت آخر اتصال من شقيقي، وقد أكدّ لنا خلاله أنه خرج من المنزل، لكن بعد نصف ساعة انقطع الاتصال به وما من مجيب حتى اللحظة
"لكن هذه الروايات، وأي تفاصيل ترد إلى مسامعي، تزيدان من حالة عدم اليقين حول مصيره المرهون للمجهول"، تؤكد آمنة.
تواصلت العائلة مع الصليب الأحمر وعدد من المؤسسات الحقوقية، ولا تزال ننتظر أي معلومة "تطفئ نار قلوبنا عليه"، كما تقول، شأنها في ذلك شأن آلاف العوائل التي فُقدت آثار أحبّتها جرّاء حرب الإبادة المستمرة على قطاع غزّة.
ويقدّر غازي المجدلاوي، مسؤول وحدة البحث في المركز الفلسطيني للمفقودين والمخفيين قسراً، أن أعداد هاتين الفئتين تُقدّر بما بين 8 إلى 10 آلاف مواطن، منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2023، وهو ما استدعى فكرة تأسيس المركز لتسجيلهم وحصر بياناتهم.
لكن في ظل استمرار القصف واجتياح المناطق السكنية وموجات النزوح المتكررة، هل يجد الفلسطينيون، مجتمعاً وجهات رسميةً، طريقةً ناجعةً وفعليةً لتقفّي آثار مفقوديهم؟
11 ألف أسرة تنتظر أحبّاءها
أم علي النجار، من مدينة رفح، تتشبث بخيوط أمل رفيعة، في أثناء بحثها عن نجلها الأصغر وسام، الذي فقدت آثاره خلال نزوحهم الأخير من المدينة.
يقول علي النجار، شقيق وسام، إنّ شقيقه اضطر إلى المكوث برهةً من الوقت في منزلهم في الحي السعودي، لأخذ بعض الأمتعة اللازمة لرحلة النزوح القاسية، على أن يلحق بالعائلة نحو منطقة المواصي غربي مدينة خان يونس.
"في تمام الخامسة مساءً من يوم الأربعاء 30 آذار/ مارس الماضي، تلقّيت آخر اتصال من شقيقي، وقد أكدّ لنا خلاله أنه خرج من المنزل، لكن بعد نصف ساعة انقطع الاتصال به وما من مجيب حتى اللحظة"، يضيف علي، في حديثه إلى رصيف22.
بصوتٍ من الحزن والأسى، يردف: "حاولنا التواصل مع أقاربنا وجيراننا علّهم يدلوا بأيّ معلومة قد تشير إلى مصيره، واحتمال أن يكون قد استُشهد أو أُسر من قبل الجيش الإسرائيلي. لكن معظهم كانوا قد نزحوا من الحيّ حين فقدناه".
وعلى الرغم من الظروف المريرة والقاسية التي تواجه العائلة في نزوحها، إلا أنّ جهودها لم تنقطع في البحث عنه داخل المستشفيات الحكومية والميدانية في مدينتَي خان يونس ودير البلح، والتواصل مع مسؤولي الدفاع المدني والمؤسسات الحقوقية، التي وفّرت روابط إلكترونيةً، لتسجيل المفقودين والمختفين قسراً، في محاولة لطرق باب آخر قد يفضي إلى معرفة مصير نجلها المفقود.
هذه الحال، تعكس أوضاع أكثر من 11 ألف أسرة من عائلات المفقودين الذين خلّفتهم حرب الإبادة الجماعية على القطاع، بحسب آخر إحصائيات المكتب الإعلامي الحكومي في آذار/ مارس 2025.
جهد حقوقي… هل يُثمر؟
يوضح المجدلاوي، أنّ المفقود هو الشخص الذي لا يُعرف مصيره أو مكان وجوده نتيجة الأحداث الجارية، في حين أنّ المُختفي قسراً هو من توجد مؤشرات قوية أو شهادات لشهود عيان على اعتقاله من قبل قوات الجيش الإسرائيلي. ويلفت إلى أنّ الجيش يُنكر وجود هؤلاء لديه ويرفض تقديم أي معلومة بشأنهم.
ويضيف في حديثه إلى رصيف22، أنّ المركز أنشأ منصةً إلكترونيةً يستطيع الأهالي من خلالها تسجيل بيانات ذويهم المفقودين، ثم يتمّ التحقق من صحة تلك المعلومات بعد ذلك من خلال التواصل المباشر مع العائلات والشهود، موضحاً أنّ طواقم المركز تمكّنت حتى الآن من توثيق واعتماد أكثر من 200 حالة رسمية، والعدد في تزايد مستمر.
تواجه المراكز الحقوقية تحديات جمة، منها منع إسرائيل إدخال المعدات الثقيلة لانتشال من علقوا تحت الركام، وأجهزة فحص الحمض النووي. فيتعرف الأطباء والأهالي على أحبتهم بالطرق التقليدية، بالعلامة والمقتنيات
ويشير إلى أنّ طواقم المركز تتواصل مباشرةً مع أهالي المفقودين لجمع المعلومات وتحديثها، بالإضافة إلى الاستفادة من البيانات الرسمية والتقارير الصادرة عن المؤسسات المعنية، لافتاً إلى أنّ هذا النهج يضمن دقّة المعلومات الموثّقة وشموليتها.
"إنّ مساعيهم الحثيثة في تطوير قاعدة بيانات مركزية للمفقودين، ستكون قادرةً على الإحاطة بالقدر الكافي من البيانات والمعلومات عن المفقودين والمختفين قسراً، والتي يمكن توظيفها مستقبلاً في الكشف عن مصيرهم"، يؤكد المجدلاوي
ويردف: "مع توفر الظروف الأمنية الملائمة وتوقف الحرب، ينوي المركز تخصيص نقاط ميدانية في مختلف محافظات قطاع غزّة، تعمل على تسجيل المفقودين وحصر بياناتهم مباشرةً من خلال ذويهم. وهي خطوة أكثر فاعليةً بكل تأكيد".
عراقيل أمام إيجادهم
يواجه المركز تحديات جمّةً، أهمها، وفق المجدلاوي، منع إسرائيل إدخال المعدّات الثقيلة اللازمة لإزالة الركام وانتشال جثث المفقودين، وكذلك التقنيات والمعدات اللوجستية مثل أجهزة فحص الحمض النووي (DNA)، الضرورية لهذه الإجراءات.
كما يشير إلى استمرار القصف الإسرائيلي والقيود الأمنية الخطيرة، ما يجعل الوصول إلى بعض المناطق شبه مستحيل.
وكان الجيش الإسرائيلي قد استهدف مرات عديدة المعدّات الثقيلة الموجودة في القطاع، آخرها قبل أيام، حين استهدف مجموعةً من الآليات التابعة لبلدية جباليا مخرجاً إياها من الخدمة.
يُذكر أنّ قطاع غزّة يحتاج إلى أجهزة فحص الحمض النووي للكشف عن الجثث مجهولة الهوية التي تصل إلى المشارح والمستشفيات إثر القصف، وليس الجثث التي يُعثر عليها بعد فقدانها فحسب. وفي ظلّ منع إدخاله إلى القطاع، يضطرّ الأطباء والعائلات إلى الاعتماد على وسائل بدائية لتحديد هوية الضحايا، كعلامات خاصة في الجسد، والملابس، والمقتنيات الشخصية.
من يضغط على إسرائيل؟
وفي تعقيبه على رفض إسرائيل الإدلاء بأي معلومات عن المفقودين، وفي بعض الأحيان إنكار وجودهم في سجونه، يقول المجدلاوي: "حين ترفض إسرائيل تقديم معلومات بخصوص الأسرى، فإنّ طواقمنا تعمل على توثيق كل حالة بدقة، عبر جمع الأدلة والشهادات لتقديمها للجهات الدولية المعنية، مثل الأمم المتحدة والمحاكم الدولية، من أجل الضغط على إسرائيل للكشف عن مصير المفقودين ومحاسبتها على انتهاكاتها.
وحول جهود المركز في التعاون مع الهيئات الرسمية المحلية والدولية، يشير إلى أنّ التنسيق مع الصليب الأحمر والمنظمات الحقوقية الدولية قائم، "لكن للأسف، لم نرَ حتى الآن تحركاً جاداً من قبل اللجنة الأممية المختصة بحالات الاختفاء القسري. لكن من جهة أخرى، ثمة فريق قانوني يعمل على تقديم البلاغات، بالإضافة إلى وجود مُنسّقة تابعة للمركز في مدينة جنيف تقود التحركات الحقوقية في هذا الإطار"، يؤكد.
يدعو حمّاد إلى أهمية العمل الفلسطيني المُوحّد على ملف المفقودين، من خلال ائتلاف يضمّ مؤسسات حقوق الإنسان، وممارسة الضغط على إسرائيل ودعم المنظمات الحقوقية العاملة في هذا المجال
ولا تقتصر جهود المركز على الجوانب التوثيقية فحسب، بل تشمل أيضاً، وفق المجدلاوي، تقديم الدعم القانوني للأسر من خلال تقديم الشكاوى للجهات الدولية، ومتابعة القضايا في المحاكم، وتوجيههم للإجراءات القانونية المتاحة.
آليات التوثيق والبحث
بدوره، يوضح حسين حمّاد، الباحث في مركز الميزان لحقوق الإنسان، أنّ انتهاكات المفقودين تُعدّ من الانتهاكات الظاهرة حديثاً في الأراضي الفلسطينية، منذ حرب الإبادة. وتجري عملية توثيقها كغيرها من الانتهاكات، وتبدأ العملية بإبلاغ ذوي المفقود، ثم تخاطب إسرائيل، ولا سيما مصلحة السجون الإسرائيلية، ويأتي الردّ بأنه موجود لديهم مع مكان اعتقاله، أو غير موجود، وهنا يجري إبلاغ الأهل بأنّ ابنهم في حكم المفقود.
يقول حمّاد، في حديثه إلى رصيف22: "نقوم بجمع المعلومات حول شهود شاهدوا المفقود قبل فقدان آثاره، لتصنيفه كمفقود أو مخفيّ قسراً. ومن ثم توثّق حالته عبر البيانات الشخصية، وظروف الفقد والاختفاء، والظروف المحيطة وأنشطة وعمليات الجيش الإسرائيلي في المنطقة. ثم يجري تصنيف الحالة وتدخل في قاعدة بيانات خاصة بالمركز".
ويبيّن أنّ طواقم المركز لا تقف مكتوفة الأيدي حين ترفض إسرائيل الكشف عن مصير أشخاص معيّنين توجد معلومات حول اعتقالهم.
"نقوم بالخطوات الرسمية في هذا الخصوص، بدءاً من إرسال الاستفسار للتأكد من عدم وجود خطأ أو تأخر من قبل الجيش الإسرائيلي في تسليم المعتقل لمصلحة السجون الإسرائيلية، ومن الممكن بعدها تصعيد الأمر قضائياً عبر اللجوء إلى المحكمة العليا"، يردف حمّاد.
أما بخصوص حالات إعلان إسرائيل عن وفاة شخص عُدّ مفقوداً أو مخفيّاً قسراً، فيذكر حمّاد أنّ المركز يعمل على تفعيل الآليات القضائية باعتبار ذلك جريمةً، حيث يُطلب من المحكمة فتح تحقيق حول ظروف مقتله أو وفاته، ثم ننتظر النتائج لبناء ملف حول القضية، ومن ثم التصعيد في المحاكم الإسرائيلية، واللجوء إلى المحاكم الدولية ومنها محكمة الجنايات.
يطالب حمّاد، أهالي المفقودين بضرورة التبليغ عن أبنائهم لاستنفاذ الإجراءات الحاسمة لكونهم مفقودين أو مخفيين قسراً، وإتاحة المعلومات اللازمة من قبل جهات الاختصاص الحكومية، ونشرها في وسائل الإعلام، والبدء الفعلي بفتح تحقيقات وإعداد ملفات تقاضي متكاملة.
وفي ختام حديثه، يدعو الباحث في المركز الحقوقي إلى أهمية العمل الفلسطيني المُوحّد على ملف المفقودين، من خلال ائتلاف يضمّ جميع مؤسسات حقوق الإنسان والجهات القانونية المختصة، وممارسة الضغط على إسرائيل ودعم المنظمات الحقوقية العاملة في هذا المجال، وتقديم المساعدة التقنية والمالية لتعزيز قدرات التوثيق والمتابعة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 13 ساعةزاوية الموضوع لطيفة وتستحق التفكير إلا أنك حجبت عن المرأة أدوارا مهمة تلعبها في العائلة والمجتمع...
Bosaina Sharba -
منذ 6 أيامحلو الAudio
شكرا لالكن
رومان حداد -
منذ أسبوعالتحليل عميق، رغم بساطته، شفاف كروح وممتلء كعقل، سأشاهد الفيلم ولكن ما أخشاه أن يكون التحليل أعمق...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعهذا ليس طبيعيا، وهو ينشئ في الحالات القصوى من اضطرابات ومشاكل نفسية. الإنسان العاقل عندما يواجه...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعAnyone that studies human psychology and biological functioning of the body and it's interactions...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوع'لا يسخر قوم من قوم', لا أذكر هذه العنصرية عندما كنت في المدرسة في الجنوب.
للأسف أن المعتقد...