تضرب علاقة اليونانيين بالمصريين جذورها في قلب التاريخ، فقد زار المؤرخ اليوناني الشهير هيرودوت مصر في القرن الخامس قبل الميلاد بعدما رست السفن اليونانية الآتية من جزيرة كريت على حدود الإسكندرية، كما بنى الإسكندر المقدوني المدينة التي تحمل اسمه لتكون عاصمة لمملكته.
وفي عهد محمد علي باشا، ازداد عدد اليونانيين في مصر التي احتضنتهم سنوات طويلة لم يكتفوا خلالها بترك بصمة واضحة في مختلف الجوانب الحياتيه بل أصرّ بعضهم على أن يدفنوا فيها.
الإسكندرية "الساحرة"
في رحلة مع الذكريات، يروي ستيلو فلتشكي، 74 عاماً، أن الإسكندرية كانت "مدينة كوزموبوليتية ساحرة"، ويقول: "كنا ننطلق في شوارع الإسكندر وخصيصاً في حي الإبراهيمية الذي كنا نطلق عليه اسم كوكينيا، أي الحي الأحمر، وهو نفس اسم أحد الأحياء الشهيرة في اليونان حيث المقاهي والمطاعم والبارات". كان أبناء الجالية اليونانية يجتمعون في بارات ومقاهي هذا الحي مع أبناء الجاليات الأخرى ومع المصريين الذين تأثروا بشكل كبير بالجالية اليونانية، و"كانت تنبعث أصوات الموسيقى وترتفع أصوات الضحكات من المقاهي، بالإضافة إلى روائح المخبوزات والخمور والأطعمة المميزة من متاجر الحلويات، وأشهرها محل بترو الذي تهدّم لاحقاً، وحلواني ديليس، وخاموس الذي اشتهر بالفينيكيا وهي حلويات رأس السنة، عدا المقاهي مثل تريانون وإيليت وأتينوس وغيرها من المحلات التي يحتفظ القليل منها بأسمائها حتى الآن"، حسبما يروي فلتشكي. جاء والد "الخواجة ستيلو"، كما يسميه البعض، إلى مصر عام 1925 وعمل "غرسون" في مطعم زفيريون في أبو قير، وهو نفس الحي الذي لا تزال الأسرة تقطن فيه حتى الآن. [caption id="attachment_132505" align="alignnone" width="700"] ستيلو على اليسار مع عائلته[/caption] التحق ستيلو بمدرسة أريستوفرونيوس اليونانية الابتدائية في حي فيكتوريا، وتخرج من مدرسة سولفاجو التجارية في الشاطبي، وهي من أقدم المدارس اليونانية التي بنيت تقريباً عام 1845 وكانت تخضع لإشراف الحكومة اليونانية. يروي: "كنا نتشارك مع المصريين الحصص الدراسية ولم نشعر بالغربة إطلاقاً. وفي عطلة نهاية الأسبوع كنا نذهب إلى الشاطئ وسينما أوديون التي بنيت عام 1953 وكانت تعرض أفلاماً عالمية تناسب الجاليات المختلفة في ذلك الوقت، إذ كانت تعرض فيلماً مصرياً وفيلماً أوروبياً، وبعد ذلك صارت تعرض فيلماً واحداً". ويستطرد بحسرة: "كان نشاط الجالية فعّالاً وكانت من أكثر الجاليات تنظيماً، فقد أسست هيئات ومؤسسات مستقرة قبل نشأة الدولة اليونانية الحديثة، فكانت هناك مدارس وكنائس منتشرة في كل أنحاء مصر، ومهرجانات ومعارض، ومسارح ومستشفيات تعالج الجميع بدون تمييز. ولم نكن نشعر بأننا أجانب أو أغراب عن المصريين، ولكن حالياً ينتابني هذا الشعور أحياناً، فقد تقلصت الجالية، وأصبحت ملامحنا غريبة على المصريين".اليونانيون "في كل حتة بمصر"
رئيس الجمعية اليونانية وعضو النادي اليوناني بالإسكندرية إدموند نيكولا أكاسيماتس أتى والده إلى مصر عام 1885 وأسس سلسلة متاجر منيرفا الشهيرة للملابس في محطة الرمل عام 1908. وتمتلك منيرفا أول سجل ضريبي لجالية أجنبية في الإسكندرية وهو ما يوضح مدى انخراط اليونانيين في السوق التجارى المصري.الجالية اليونانية في الإسكندرية: "كانت الإسكندرية مدينة كوزموبوليتية ساحرة. كنا ننطلق في حي كوكينيا، أي الحي الأحمر، وهو نفس اسم أحد الأحياء الشهيرة في اليونان"
"من أكثر العوامل التي دفعت اليونانيين للرحيل هو تبدّل ثقافة بعض المصريين. فمع الوقت زحفت ثقافة عدم قبول الآخر" يقول مراد حشمت، الرئيس التنفيذي لأوركسترا أوبرا القاهرةيقول إدموند البالغ من العمر حالياً 79 عاماً: "اليونانيون كانوا في كل حتة بمصر" موضحاً: "كان لليونانيين وجود في جميع المحافظات، ولكن العدد الأكبر كان في الإسكندرية ثم القاهرة مروراً ببورسعيد وأسيوط وأسوان وقد بلغ عددهم حوالي 400 ألف". [caption id="attachment_132503" align="alignnone" width="700"] رئيس الجالية اليونانية ادموند مع بعض اعضاء الجمعية اليونانية[/caption] عملت الجالية اليونانية، كما يروي إدموند، في جميع المهن والحرف، فكان منهم الترزي (الخياط) والنجار والغرسون وأصحاب البقالات وبائعو الأقمشة وأصحاب مصانع الزيوت، وفي شارع كنيسة الأقباط يوجد مقهى طناشي الذي يجتمع فيه سائقو التاكسي اليونانيون وأصحاب الحرف البسيطة، ويقول: "تعلم العديد من المصريين بعض الحرف على يد اليونانيين". وكان مصنع الخواجة زيربيني في كفر الزيات من أكبر مصانع الزيوت في مصر بالإضافة إلى مصانع السجائر والأخشاب، "فحين تسير في شوارع الإسكندرية أو القاهرة كنت ترى التنوع والاندماج بين المصريين واليونانيين والجاليات الأخرى من خلال أسماء لافتات المحلات المسطورة بالعربية واليونانية"، بحسب إدموند. خلال النصف الأول من القرن العشرين، يتابع إدموند، كان لليونانيين 16 مدرسة ومستشفيان ودار للأيتام وأخرى للمسنين. [caption id="attachment_132507" align="alignnone" width="700"] طلاب المدرسة اليونانية بالاسكندرية[/caption] ويعتبر النادي البحري اليوناني أول نادٍ رياضي بحري تأسس في مصر عام 1909 و"كانت تمارس فيه مسابقات الرياضات المائية بين جميع طوائف الشعب". وكانت الجمعية اليونانية أول جمعية يونانية تأسست خارج اليونان في 25 أبريل 1843، بمبادرة من القنصل الأول لدولة اليونان ميخائيل توسيتسا، وحملت بدايةً اسم "الجمعية اليونانية المصرية للسكندريين"، وفي عام 1888 تم تغيير اسمها إلى "الجمعية اليونانية بالإسكندرية". تحمل اللائحة الداخلية للجمعية رقم سجل 304 ومعتمدة من وزارة الشؤون الاجتماعية بتاريخ 04/03/1968، طبقاً لاتفاقية "مونترو" المبرمة بين حكومة اليونان ومصر في العاشر من فبراير عام 1949، والتي تنص على أن الجمعية اليونانية بالإسكندرية تتألف من أعضاء ذوي أصول وجنسيات يونانية، ومقيمين بمدينة الإسكندرية والمناطق المحيطة بها. وحتى اليوم، يستمر عمل الجمعية في تقديم خدمات اجتماعية وثقافية ودينية لأعضائها.
"الحياة لم تعد كما كانت"
تقول كاليوبي نيانوري المولودة لأب يوناني وأم فرنسية إنها قضيت أجمل أيام عمرها بالقاهرة، وتروي: "تشاركنا مع المصريين جميع جوانب الحياه الاجتماعية، فكنا نحتفل بأعياد الميلاد ونجتمع حول موائد إفطار رمضان". [caption id="attachment_132500" align="alignnone" width="700"] كاليوبى مع والدتها ووالدها[/caption] وتسترجع كاليوبي ذكريات قديمة: "في الصباح، كنا نتناول القهوة بمقهى ‘الأمريكيين’ أو نذهب للإفطار في ‘جروبي’ بشارع عدلي مع أصدقائنا المصريين، وفي المساء كانت الحياة صاخبة: نذهب لمشاهدة العروض المسرحية والرقص أو نجتمع في النادي اليوناني بوسط المدينة". [caption id="attachment_132499" align="alignnone" width="700"] كاليوبى فى المدرسة اليونانية بالقاهرة[/caption] لكن الحياة "لم تعد كما كانت"، بحسب كاليوبي المتزوجة من مصري. تقول: "تأثرنا كثيراً بقرار الرئيس جمال عبد الناصر بتأميم الصناعات الأجنبية، وزادت القيود على اليونانيين وهاجر كثيرون من أبناء الجالية، وأغلق العديد من المحلات وتعثرت العائلات اليونانية مادياً، حتى أن بعض المدارس اليونانية ألغت المصاريف عن اليونانيين لتمكين أبنائهم من استكمال المراحل الدراسية". تضيف كاليوبي بأسى: "تضرر والدي كثيراً وأصيب بذبحة صدرية تأثراً بقرار التأميم الذي جعله يمر بأزمة مالية، حتى قرر العودة إلى اليونان رغم أمنيته أن يدفن في مصر". بعد سنوات قليلة من وفاة والدها، تزوجت كاليوبي من رجل مصري وعادت إلى مصر وتروي: "تغيّر الحال كثيراً فلم يعد هناك وجود لليونانين كما مضى وبيعت معظم المحلات اليونانية إلى مصريين، وللأسف حالياً كل الفيلات والمباني التي كان يطغى عليها طراز العمارة اليوناني تهدمت وبنيت مكانها عمارات ضخمة قبيحة". الآن، يحاول ابن كاليوبي، بولا، استعادة بعض تراث أجداده من خلال افتتاح مطعم "أوبا" بالإسكندرية، والذي يأتي إليه مَن تبقوا من أبناء الجالية اليونانية. [caption id="attachment_132506" align="alignnone" width="700"] بولا صاحب مطعم اوبا اليوناني[/caption] تشير الكاتبة نجاة عبد الحق في كتابها "الطوائف اليونانية واليهودية في مصر... النشاط الاقتصادى والابتكار قبل ناصر" إلى أن تقلص أعداد أفراد الجاليات الأجنبية ورحيل الكثير منهم من مصر لم يبدأ فقط بعد ثورة يوليو، مشيرةً إلى قانون التمصير لعام 1947 الذي فرض على الشركات الأجنبية تمصير إدارتها وتشغيل نسبة من المصريين لا تقل عن 51% من العاملين، وأن تكون مراسلات الشركة باللغة العربية. [caption id="attachment_132502" align="alignnone" width="700"] مطعم اوبا اليونانى الذى يمتلكه بوله بالاسكندرية[/caption] وترى الكاتبة أن تعدد أسباب رحيل هذه الجاليات الأجنبية يرجع إلى إصدار قرارات التأميم التي أثرت على عملية الابتكار ودورها في دفع الاقتصاد، وكذلك تصاعد الخطاب القومي والإسلامي، وحادث حريق القاهرة الذي استهدف الكثير من منشآت تمتلكها الجاليات الأجنبية، وحرب السويس 56 وصولاً إلى قرارات التأميم الكبرى عام 1961، وكانت كلها تطورات ضخمة تمت في عقد زمني واحد كانت فيه مصر من أكثر الدول في إفريقيا تحقيقاً للنمو الاقتصادى.هجرة بلا عودة
في حي مصر الجديدة الذي كان يسكنه بعض أبناء الجالية اليونانية، وبالقرب من المدرسة اليونانية، يسكن مراد حشمت، الرئيس التنفيذي لأوركسترا أوبرا القاهرة والمولود لأم يونانية. أتت والدة حشمت إلى مصر عام 1960 و"لم تشعر بالغربة إطلاقاً بين المصريين"، حسبما يروي، مرجعاً ذلك إلى "ثقافة التعددية" التي كانت تتميز بها مصر في ذلك الوقت. [caption id="attachment_132501" align="alignnone" width="700"] مراد حشمت[/caption] ويقول حشمت، 56 عاماً: "تركز اليونانيون في القاهرة في منطقة مصر الجديدة وشبرا، وكانت مصر حاضنة لهم بعد الحرب العالمية الثانية". لم يدخل حشمت الجمعية ولم يلتحق بالمدرسة اليونانية "إلا أنني ارتبطت بشكل كبير بوالدتي التي اكتسبت منها اللغة اليونانية، كما أثرت الثقافة اليونانية بشكل كبير في شخصيتي"، يقول. ويضيف: "لا أزال على اتصال مع المدرسة اليونانية حيث تتلقى ابنتاي دروس الرقص اليوناني وتشاركان في أنشطتها. ويتابع بأسى: "للأسف، قلّ عدد اليونانيين في مصر بشكل ملحوظ وأرى ذلك من خلال عدد تلاميذ المدرسة اليونانية الذين لا يتعدون العشرات، ولم يعد عدد اليونانيين يتعدى الأربعة آلاف في جميع أنحاء مصر، وأصبح هناك فرق شاسع بين المجتمع المصري الآن والمجتمع القديم". من أكثر العوامل التي دفعت اليونانيين للرحيل، بحسب حشمت، تبدل ثقافة بعض المصريين، إذ يقول: "كان المصري قديماً منفتحاً على الآخر ويقبل التعددية وكانت البيوت يسكنها مصريون ويونانيون وأرمن وإيطاليون دون الشعور بأي فارق عرقي بينهم، ومع الوقت زحفت ثقافة عدم قبول الآخر عند البعض فقرر كثيرون العودة إلى موطنهم الأصلي، وهو ما دفع أختي وابنتي الكبرى للهجرة إلى اليونان بدون عودة".رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.