شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
مشكلات العمل عن بعد... هل تتعارض الوحدة المهنية مع الحرية؟

مشكلات العمل عن بعد... هل تتعارض الوحدة المهنية مع الحرية؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة نحن والتنوّع

الاثنين 28 أبريل 202501:04 م

"في كثير من الأحيان، أجد نفسي أعمل وحدي في ركن هادئ من المنزل، فمع تقدم التكنولوجيا وازدهار اقتصاد العمل الحرّ، قد يجد المزيد منّا أنفسهم في هذا الوضع، يعملون من المنزل أو حتى يعملون لحسابهم الخاص. فالعزلة… الوحدة، إن لم تكن الوحشة، تُعدّ جزءاً ضرورياً من هذا الترتيب، خاصةً للكُتّاب". 

النصّ السابق هو جزء من مقال بعنوان: "ما يمكن أن يُعلّمك إياه همنغواي عن الوحدة المهنية"، للكاتبة تشاريتي سينغلتون كريغ، وهي كاتبة أمريكية متخصصة في المقالات الأدبية، ولها عدد من المؤلفات في فنون الكتابة بأشكالها المختلفة، وهي أيضاً أول من صكّ مصطلح "الوحدة المهنية"، أو على الأقلّ يمكننا القول بأنّ لا وجود للمصطلح على محركات البحث قبل مقالها المنشور قبل قرابة عشر سنوات.

تقول تشاريتي، في مقالها: "أُسمّي هذا الشعور بالوحدة المهنية، لا أقصد بالأمر حاجتي للخروج أكثر. في الواقع، أنا آخذ فترات راحة خلال اليوم لإتمام بعض المهمات، أو الذهاب للنادي الرياضي. بل أشعر بالوحدة بسبب اتخاذ جميع القرارات وأداء كل العمل بمفردي، أشعر بعزلة وبأن لا أحد يفهمني. إنه غياب شبكة علاقات تدعمني في تقلبات الحياة المهنية".

كيف ساهمت الشركات الكبرى في ازدهار العمل الحرّ؟

المقال الذي كُتب قبل عقد كامل، تنبّأ بأنّ هناك المزيد من الأشخاص سوف يشاركونها هذا الشعور بسبب ازدهار العمل الحرّ، لكنه لم يتوقع أن يصبح الأمر ظاهرةً عالميةً أشبه بالوباء، بسبب تزايد أعداد العاملين المستقلّين حول العالم بسرعة فاقت كل التقديرات.

يشير تقرير صادر عن البنك الدولي، إلى أنّ حجم قوة العاملين المستقلين عبر الإنترنت أكبر بكثير مما كان يُعتقد سابقاً. فعلى مستوى العالم، يتراوح عدد العاملين بنظام العمل الحرّ بين 154 و435 مليون شخص، أي ما يصل إلى 12% من إجمالي القوة العاملة عالمياً. 

مع نمو العمل الحر واعتماد ملايين الأشخاص على أنفسهم لكسب رزقهم، أصبح الانعزال المهني شعورًا شائعًا. فغياب التفاعل اليومي مع الزملاء والمديرين يجعل المستقلين يتحملون القرارات والمسؤوليات وحدهم. هذه العزلة لا تنبع فقط من العمل في المنزل، بل من غياب الإحساس بالانتماء إلى شبكة مهنية حقيقية داعمة

وفي الولايات المتحدة وحدها، ارتفع عدد المستقلّين بنسبة 90% بين عامي 2020 و2024. وتتوقع منصة "Statista"، استمرار هذا النمو، إذ يُقدَّر أنه بحلول عام 2027، سيصل عدد العاملين المستقلين إلى 86.5 ملايين شخص، أي أكثر من نصف إجمالي القوة العاملة في البلاد.

ويعود جانب كبير من هذا النمو إلى حاجة الشركات إلى قوة عاملة مرنة. فالمستقلون المؤهلون يمكن التعاقد معهم بسرعة لتنفيذ مهام عاجلة أو الانخراط في مشروعات تتطلب تخصصات دقيقةً، من دون التعقيدات اللوجستية المرتبطة بالتوظيف الرسمي.

لتفسير هذا التوجه الاقتصادي، نقرأ تقرير "Business Research Company"، الذي يشير بوضوح إلى أنّ الشركات الكبرى تلعب دوراً محورياً في هذا الاتجاه، إذ استخدمت 48% من الشركات منصّات العمل الحرّ في عام 2022. 

هل يضرّ العمل عن بعد بالصحة؟

وكنتيجة طبيعية لتنامي أعداد العاملين في المهن الحرّة، زاد الشعور بالوحدة المهنية التي يمكن تعريفها بأنها شعور بالعزلة النفسية والاجتماعية ينشأ لدى المستقلين، نتيجة غياب التفاعل اليومي مع الزملاء والمديرين، وافتقارهم إلى شبكة دعم مهني تشاركهم التحديات والنجاحات. تتجلى هذه الوحدة في الإحساس بالانفصال عن المجتمع المهني، وتحمّل المسؤوليات بمفردهم دون وجود من يشاركهم الرأي أو يقدّم لهم التقييم والمراجعة.​ 

وفقاً لموقع Leapers، يشعر 70% من المستقلّين بالوحدة أو الانفصال أو العزلة خلال عملهم الحرّ، ويشير التقرير إلى أنّ هذا الشعور لا ينبع فقط من العمل بمفردهم، بل أيضاً من تحمّلهم مسؤوليات كبيرةً دون وجود دعم أو تواصل مهني مستمر.​

فالوحدة لا تتعلق بعدد من حولك، حتى لو كنت جالساً في مقهى أو مكتب مزدحم، أو مساحة عمل مشتركة، فقد تشعر بالوحدة والعزلة إذا لم تجد من يشاركك مشاعرك، ويتفهم ما تمرّ به. من منّا أخبر صديقاً بأنه منهك، وكان ردّه: "خذ قسطاً من الراحة!"، غافلاً تماماً عن صعوبة ذلك على أصحاب المشروعات عن بعد؟ 

ربما عندما تسوء الأمور ولا تعرف من تلجأ إليه طلباً للدعم أو التوجيه، قد تشعر بوحدة شديدة، حتى عندما تسير الأمور على ما يرام، ولكنك ببساطة ترغب في بعض الآراء، أو نصائح حول موضوع ما أو عمل تقوم به، وغياب ذلك يؤثر سلباً على صحتنا النفسية، وجودة عملنا، وإنتاجيتنا، وثقتنا بأنفسنا، وحتى على صحتنا الجسدية.

تؤكد دراسة نشرتها دار BMC العلمية أن الوحدة تساهم في تدهور الصحة النفسية والعقلية، مما يؤدي إلى تراجع الفرص المهنية وارتفاع معدلات البطالة بين المستقلين.

الحديث عن تضرر الصحة الجسدية ليس من قبيل المبالغة، فقد أكد بحث جامعة كامبريدج، أنّ الشعور بالوحدة يرتبط بارتفاع خطر الإصابة بأمراض القلب والسكتة الدماغية والتعرض للعدوى، كما نشرت دار BMC المتخصصة في المنشورات العلمية، بحثاً هو الأول من نوعه، يؤكد أنّ الشعور بالوحدة يفاقم من تدهور صحة الإنسان الذهنية والنفسية، ما يؤثر على قدرته في العثور على وظائف وفرص مهنية، وقد يؤدي إلى البطالة.

تحديات في غياب الدعم المؤسسي

تعمل ياسمين إلهامي (32 عاماً)، مترجمةً حرّةً، وتقول لرصيف22، إنّ شعورها بالوحدة المهنية لن يجعلها أبداً تعود للعمل في الشركات، فشعورها بالحرية يطغى على أي مشاعر سلبية قد تنتابها، فهي ترى أنها جزء من طبيعة العمل الحرّ. 

وتصف ياسمين، شعورها بالوحدة المهنية، بأنها تحتاج أحياناً إلى وجود مستقلّين آخرين واجهوا مشكلاتها التقنية نفسها، حتى تستشيرهم وتتأكد من أنها ليست الوحيدة التي عانت من تلك المشكلات.

وتمثل غروبات المستقلّين على موقع فيسبوك، المساحة الوحيدة التي يتبادل فيها هؤلاء فيها الآراء والمعلومات والشكاوى من صعوبات المهنة، وتُستخدم كثيراً للتحذير من بعض الشركات الوهمية أو بعض العملاء الذي يسرقون مجهود العاملين عن بعد دون رادع، فضعف نظم الحماية المهنية، يُعدّ من أبرز مشكلات العاملين المستقلّين. 

تُدار معظم جوانب العمل، كالتواصل وإصدار الفواتير، بشكل إلكتروني، ما يسمح لبعض العملاء بتجاهلهم أو تأخير مستحقاتهم دون مساءلة. ولأنّ المستقلين غير مُصرّح لهم قانونياً بتشكيل نقابات، فلن يتمكنوا من الدفاع عن حقوقهم في المستقبل القريب.

هذا الجانب هو ما أغفله المركز المصري للدراسات الاقتصادية في تقريره، حيث حاول عقد مقارنة بين العاملين المستقلين في مصر والهند، والإجابة عن سؤال: لماذا يربح الهنود 44 ضعف ما يربحه المصريون؟ واعتمد التقرير على منصة Upwork، كمقياس وحيد للمقارنة، معللاً الأمر بأنّ المصريين غير قادرين على الالتزام بساعات العمل الطويلة التي يضعها الهنود في سوق العمل. 

والحقيقة أنّ "Upwork"، مرحلة متقدمة يجب على من يريد التمكن منه أن يعمل في المنصات العربية، والتي بنظرة واحدة إليها سيدرك من يتصفحها تدنّي أجورها إلى درجة غير مقبولة. أما العملاء المباشرون، فتنتشر بين بعضهم سلوكيات لا تشجع على النمو والتطوير، اللذين يمهّدان الطريق للعمل في المنصات العالمية، وهو ما يزيد من الشعور بالوحدة وعدم التحقق.

هل يمكن أن يكون الذكاء الاصطناعي زميلك في العمل؟

أما داليا (31 عاماً)، فتعمل مصممة غرافيك، وتقول لرصيف22، إنها على الرغم من احتكاكها الدائم بالعملاء والاجتماع بهم، إلا أنها تفتقد الدعم المهني المتمثل في وجود فريق عمل تشاركه القرارات، ووجود مُوجّه يطالع عملها ويُطمئنها على جودته قبل تسليمه، أو حتى مجرد الدردشة الخفيفة في أوقات الراحة التي تخفف من الضغط الناتج عن تعدد المهام والمسؤوليات.

لكن بعد ظهور ChatGPT، تغيّر كل شيء، فهو يساعدها على تنظيم أفكارها، ويقدّم لها نصائح فنيةً للمشروعات التي تعمل عليها، حتى أنه خفف من وطأة شعورها بالوحدة، التي كانت تجعلها تفكر في العودة إلى العمل في الشركات كالسابق.

حديث داليا، يؤكد بروز دور الذكاء الاصطناعي بالنسبة لبعض المستقلّين كأكثر من مجرد أداة ذكية لإنجاز المهام، فالمستقلّ الذي يفتقر إلى زميل يناقشه أو مدير يمنحه توجيهاً، أصبح يجد في الدردشة مع الذكاء الاصطناعي وسيلةً للتفكير بصوت عالٍ، ما يضفي قدراً من الألفة على تجربة العمل.

وهو ما تؤكده دراسة حديثة تناولت دور الذكاء الاصطناعي في التخفيف من الشعور بالوحدة بين كبار السنّ، ما يشير إلى إمكانية استخدام هذه الأدوات أيضاً لتوفير دعم اجتماعي للمستخدمين الذين يفتقرون إلى التفاعل البشري المنتظم.

تشير بيانات البنك الدولي إلى أن عدد العاملين المستقلين حول العالم يتراوح بين 154 إلى 435 مليون شخص، بما يصل إلى 12% من إجمالي القوى العاملة عالميًا. ومع هذا النمو السريع، يكشف تقرير لموقع Leapers أن 70% من العاملين عن بُعد يعانون مشاعر الوحدة أو الانفصال، ما يسلط الضوء على الجانب النفسي الخفي لهذا النمط المهني الجديد

ومع ذلك، من المهم الإشارة إلى أنّ دراسة مشتركة بين MIT وOpenAI، توصلت إلى أن الاستخدام المفرط للـChatGPT، قد يرتبط بزيادة الشعور بالوحدة والاعتماد العاطفي على الأداة، ما قد يقلل من التفاعلات الاجتماعية الواقعية. ​ 

لذا من الضروري استخدامها بشكل متوازن وعدم الاعتماد الكامل عليها كبديل للتفاعل البشري الحقيقي.​

هل يمكن التغلب على الوحدة المهنية؟

إذا كان الذكاء الاصطناعي ليس الحلّ الآمن الذي يمكن أن يعوّض العامل المستقل عن شعوره بالوحدة، فإنّ منصة Pollen، وهي منصة مخصصة للعمال المستقلّين في مجالات العمل الحرّ، تقترح في مقالها أربع إستراتيجيات عملية لمكافحة الوحدة كعامل مستقلّ.

الإستراتيجية الأولى تركز على إنشاء روتين يومي والالتزام به، فهو يمنح اليوم شكلاً واضحاً، ويُقلل من الفوضى ويعزز الشعور بالاستقرار، ولذلك فإنّ تحديد ساعات عمل منتظمة، وأخذ فترات راحة، ودمج أنشطة اجتماعية بسيطة في الجدول اليومي، كلها ممارسات تساعد على تقليل العزلة.

كما تنصح بالخروج من فقاعة العمل المنزلي، وممارسة العمل في مساحة عمل مشتركة workspace، لأنّ التواجد في بيئة يعمل فيها الجميع يساعد على زيادة الإنتاجية والإنجاز من ناحية، ومن ناحية أخرى يساهم في توسيع الشبكة الاجتماعية، وربما تكوين صداقات جديدة. 

أما الحلّ الثالث، فيعتمد على التكنولوجيا وإقامة اجتماعات بشكل دوري مع زملاء يعملون في المجال نفسه، لأنّ الشعور بالانتماء إلى جماعة بالرغم من بُعد المسافات، سوف يساهم في كسر حاجز العزلة، ويضيف عنصر التفاعل البشري للعمل الرقمي. 

وأخيراً، تُوصي المنصة بإعطاء أولوية حقيقية للعناية بالنفس والصحة النفسية، وبوضع حدود زمنية للعمل، وأخذ فترات راحة، وممارسة النشاط البدني، وتناول طعام صحي، حتى طلب الدعم المهني عند الحاجة، فالعناية الذاتية ليست رفاهيةً، بل ضرورة تُمكّن المستقلّ من الاستمرار والإبداع في مسيرته المهنية.

في عصر أصبحت فيه الحرية المهنية خياراً متاحاً ومغرِياً، تُصبح الوحدة المهنية الثمن الخفي الذي يدفعه المستقلون يومياً، وبينما قد لا يمكننا التخلص من هذا الشعور بالكامل، فإنّ الاعتراف به يمثّل الخطوة الأولى نحو تجاوزه، سواء ببناء مجتمعات مهنية، أو استخدام أدوات ذكية كمرافقين في الطريق، أو حتى مشاركة قصصنا وتجاربنا. نحتاج إلى إعادة تعريف النجاح المهني ليشمل أيضاً شعورنا بالانتماء والدعم، فالعمل الحرّ لا يعني أن نكون وحدنا.



رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard
Popup Image