
في العاشر من آذار/ مارس 2025، شهدت البرتغال زلزالاً سياسياً تمثّل في إسقاط البرلمان حكومة يمين الوسط، بعد عام واحد فقط من انتخابها، ما فتح الباب أمام انتخابات مبكرة مقرر إجراؤها في 18 أيار/ مايو المقبل.
وما بدأ كأزمة تتعلق باتهامات بالفساد لرئيس الوزراء لويس مونتينيغرو، بسبب شبهات تضارب مصالح مرتبطة بشركة عائلته، تحوّل سريعاً إلى معركة أيديولوجية حادة حول ملف الهجرة، وسط تصاعد لافت في الخطاب المعادي للأجانب.
في صدارة هذه المواجهة، يقف حزب "شيغا" اليميني المتطرف، الذي استغلّ الغضب الشعبي والتحديات الاقتصادية لتوسيع قاعدته. يستخدم الحزب خطاباً شعبوياً متشدداً، يربط الهجرة بالجريمة، ويحمّل المهاجرين مسؤولية الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، راسماً صورةً مقلقةً لمستقبل البرتغال إن لم يتم "التحرّك ضد التهديد القادم من الخارج".
هذا الحزب الذي لا يتجاوز عمره السياسي خمس سنوات، يترأسه أندريه فينتورا (41 عاماً)، الحاصل على دكتوراه في القانون والمعلّق الرياضي السابق، والذي نجح في تحويل كراهية الآخر إلى رياضته السياسية المفضلّة، مستعيداً افكاراً متطرفةً تعود إلى القرن الماضي.
وفي ظلّ عالم تحكمه سرعة التواصل والانتشار، لم يتردد شيغا في استغلال حادثة وقعت خارج حدود البلاد. إذ نشر الحزب فيديو لسائق تاكسي مصري في شرم الشيخ، ظهر فيه وهو يتحرش لفظياً بسائحة صينية، وهي واقعة أثارت جدلاً واسعاً في مصر في كانون الثاني/ يناير الماضي، وانتهت باعتقال السائق. لكن بدلاً من تقديم الفيديو في سياقه الحقيقي، استغلّه فينتورا، في حملة تحريض، مرفقاً بعبارة: "هذه نتيجة هجرة بلا هوية ولا احترام للمرأة! هل سنبقي الأبواب مفتوحةً؟ #يكفي".
الفيديو انتشر بسرعة، ووجد صدى كبيراً لدى أنصار الحزب، الذين طالبوا بمنع المهاجرين من العمل في قطاع سيارات الأجرة، وحرمانهم من الامتيازات القانونية، بحجة أنهم لا يحترمون القوانين والعادات المحلية، بل ذهب بعض المؤيدين إلى أبعد من ذلك، حين بدأوا يروّجون ادعاءات غير موثقة بأنّ سائقي الأجرة من أصول مهاجرة، خصوصاً المسلمين، يمثّلون خطراً على النساء والأطفال في البلاد.
استناداً إلى مبدأ الغاية تبرر الوسيلة، لجأ حزب 'شيغا' اليميني إلى نشر مقطع فيديو يوثّق حادثة تحرش وقعت في مصر، زاعماً أنها حدثت في العاصمة البرتغالية لشبونة
وعندما حاول بعض المتابعين تصحيح المعلومات، مؤكدين أنّ الفيديو صُوّر في شرم الشيخ وليس في لشبونة، أصرّ أنصار الحزب على روايتهم، بل زعموا أنّ الفيديو التُقط في العاصمة البرتغالية، وأنّ الشرطة ألقت القبض على السائق، في محاولة واضحة لتثبيت رواية مختلقة تخدم أجندة الحزب المتطرف.
ازرع خوفاً… احصد صوتاً
لم يكن استخدام "فيديو التاكسي" من قبيل المصادفة أو تصرّفاً عشوائياً. فاختيار هذه المهنة تحديداً يعكس وعياً مدروساً لدى حزب "شيغا" المتطرف، نظراً إلى كونها من أكثر الوظائف جذباً للمهاجرين في البرتغال. إذ يبلغ متوسط الدخل الشهري في البلاد نحو 1،100 يورو، في حين يستطيع سائقو "أوبر" و"بولت" وغيرهما، تحقيق دخل يتجاوز 2،000 يورو شهرياً، ما يجعل المهنة خياراً مغرياً للباحثين عن عمل مستقرّ.
عبد الحق (28 عاماً)، شاب جزائري يعمل سائق أجرة في لشبونة، يروي لرصيف22، تجربته قائلاً: "كنت عاطلاً عن العمل لأشهر بسبب قلّة الفرص، أما اليوم فأعمل يومياً ما لا يقل عن 9 ساعات، وأتنقل بين جنسيات وثقافات متعددة. لم أواجه موقفاً يجعل أيّ راكب يشعر بالخطر، فأنا هنا لكسب لقمة العيش فحسب. لا أفهم لماذا يصرّ حزب مثل شيغا على استخدام منشورات مضللة لاتهام المهاجرين المسالمين بجرائم لا تمتّ إلى ديننا ولا إلى ثقافتنا بصلة".
يسعى حزب شيغا إلى ترويج شائعات تستهدف وظائف معينة يشغلها اللاجئون، وتدرّ عليهم دخلاً جيداً، في محاولة لإثارة الرأي العام ضدهم
ولم يكن الفيديو المسيء لسائقي الأجرة، الحالة الوحيدة، إذ طالت حملات التشويه حتى العاملين في قطاع توصيل الطعام. ففي أواخر شباط/ فبراير الماضي، نشر زعيم الحزب أندريه فينتورا، مقطعاً آخر يحمل عنواناً تحريضياً: "انظروا جيداً إلى هذا... هل هذا ما ننتظره ممن يوصلون لنا الطعام؟ هل هذا هو المستقبل؟ #إنقاذ_البرتغال".
يُظهر الفيديو شابّين آسيويين يتبادلان الطعام من حقيبة إلى أخرى، دون أي مؤشرات على وجود سلوك مسيء، إلا أنّ مجرد نشره من حساب فينتورا، منحه "مصداقيةً تلقائيةً"، فجّر معها سيلاً من التعليقات العدائية. كتب أحد المتابعين: "إذا دقّقتم جيداً... فالتشابه كبير مع أولئك الذين سمحوا لهم بالدخول بكل حرية...".
بينما علّق آخر ساخراً: "كنت أشتكي من غياب خدمة التوصيل في منطقتي، لكن بعد رؤية هذا، لا أحتاجها على الإطلاق!".
برغم هذه الحملات، يظلّ قطاع توصيل الطعام في البرتغال أحد المجالات التي يهيمن عليها المهاجرون، في ظلّ عزوف كثير من الشباب البرتغاليين عن العمل فيه. إلا أنّ ظروف العمل فيه تبقى قاسيةً، وتتطلب جهداً مضاعفاً وتحديات قانونيةً وواقعيةً مستمرّة.
كريم (30 عاماً)، مهاجر مصري يعمل في توصيل الطلبات، يشرح الأمر لرصيف22، بقوله: "أعمل 12 ساعةً يومياً، وأحياناُ أضطر إلى استئجار حساب من شخص آخر لأتمكن من العمل، لأنّ شركات التوصيل لا تمنح حسابات لمن لا يحمل إقامةً مؤقتة. قدّمت طلب الإقامة منذ أربعة أشهر، وما زلت بانتظار الردّ بسبب بطء الإجراءات في دائرة الهجرة".
وبرغم المصاعب، لا يرى كريم، أنّ البرتغال دولة عنصرية، لكنه يعتقد أن بعض السياسيين يستغلّون الأوضاع الأمنية والاقتصادية لزرع الخوف وكسب الدعم.
"هذه الأحزاب لا تهتمّ لا بالمواطن البرتغالي، ولا الأوروبي، ولا المهاجر. ما يهمّها فحسب هو استثمار الخوف من الآخر لتحقيق مكاسب سياسية".
سأكذب وستصدّقونني
لا يمكن فهم صعود حزب "شيغا" في البرتغال، بمعزل عن الموجة المتصاعدة لليمين المتطرف في أوروبا، حيث حققت الأحزاب القومية والشعبوية تقدماً ملحوظاً خلال السنوات الأخيرة، مستغلّةً قضايا الهجرة، والأمن، والهوية الوطنية لحشد الدعم الشعبي. وقد أثمر هذا التصاعد اليميني، والخطاب الموجَّه ضد المهاجرين، عن نتائج سياسية ملموسة، كما ظهر في الانتخابات الأخيرة في ألمانيا، التي تحمل تاريخاً طويلاً في قضايا العنصرية.
وعلى المنوال نفسه، يتبنّى "شيغا" خطاباً يمينياً متطرفاً يربط بين الهجرة والجريمة، ويدعو إلى تشديد السياسات تجاه اللاجئين والمهاجرين غير الأوروبيين. وكغيره من الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا، يستغلّ الحزب مشاعر الإحباط الاقتصادي وانعدام الثقة بالنخب السياسية لتوسيع نفوذه، مستهدفاً الطبقات الشعبية والمناطق الريفية المتضررة من الأزمات الاجتماعية.
ومع اقتراب الانتخابات المبكرة في أيار/ مايو المقبل، يعكس صعود "شيغا" توجّهاً أوروبياً أوسع نحو تشديد السياسات المناهضة للهجرة، في ظلّ سعي الأحزاب الشعبوية إلى استغلال التوترات الاقتصادية والاجتماعية لحشد التأييد، من خلال خطاب قائم على التخويف والانقسام، أكثر من تقديم حلول حقيقية.
في الانتخابات التشريعية التي جرت في 10 آذار/ مارس 2024، حقّق حزب "شيغا" تقدماً غير مسبوق، إذ ارتفع عدد مقاعده في البرلمان من 12 إلى 50 مقعداً من أصل 230، ليصبح ثالث أكبر قوّة سياسية في البلاد، بعد حصوله على 18% من الأصوات.
لم يكن تصويت "شيغا" لصالح إسقاط الحكومة محصوراً في اتهامات الفساد، بل جاء أيضاً نتيجة خلاف جوهري حول سياسات الهجرة. فبينما أقرّت الحكومة المقالة بأهمية الهجرة لمعالجة التراجع الديموغرافي، وبدأت بإجراءات تمنح أكثر من 400 ألف شخص حق الإقامة المؤقتة، كان "شيغا" يقود حملةً شرسةً ضد المهاجرين، عادّاً إياهم تهديداً للهوية الوطنية والأمن القومي.
في الوقت ذاته، صعّد الحزب بقيادة زعيمه أندريه فينتورا، من حدة خطابه المتطرف، مستخدماً منصات التواصل الاجتماعي للترويج لأفكاره العنصرية، عبر ربط المهاجرين بارتفاع معدلات الجريمة، ولا سيّما القادمين منهم من مجتمعات غير أوروبية.
وتجاوز الحزب حدود الخطاب، إذ طالب بإلغاء حقوق المهاجرين في المساعدات الاجتماعية، والتعليم، والرعاية الصحية، وحتى بمنعهم من العمل، زاعماً أنهم يزاحمون المواطنين البرتغاليين في سوق العمل.
رغم تبنّيه خطاباً معادياً للمهاجرين، يواجه حزب شيغا اتهامات بتورط بعض قياداته في قضايا هجرة غير شرعية وفساد
وفي تصريحات سابقة، أعلن فينتورا، أنه لن يدعم أي حكومة يمينية ما لم يحصل حزبه على أربع وزارات، من بينها وزارة الإدارة الداخلية، المسؤولة عن الأمن والشرطة والهجرة. هذا الطموح للسيطرة على مفاصل الدولة الأمنية، يثير تساؤلات جديةً حول نوايا الحزب في التعامل مع المجتمعات المهاجرة، خصوصاً في ظلّ خطابه المتشدد الذي يدعو إلى تقليص حقوقهم الأساسية.
ولم يكتفِ فينتورا، بذلك، بل لجأ إلى التضليل ونشر محتوى زائف، والتحريض المستمر ضد المهاجرين، حتى لو تطلّب الأمر التلاعب بالحقائق وترويج الأخبار الكاذبة.
طبّاخو السّم
برغم تبنّي حزب "شيغا" اليميني المتطرف خطاباً معادياً للمهاجرين، واستخدامه إياه كأداة لحشد الناخبين، إلا أنّ بعض أعضائه البارزين متورطون في قضايا تتعلق بالهجرة غير القانونية وفضائح فساد، ما يعكس تناقضاً صارخاً بين مواقف الحزب وسلوك قياداته.
ففي سابقة لافتة، اعترف خوسيه دياس فرنانديز، وهو نائب عن الحزب، بأنه كان مهاجراً غير شرعي في فرنسا خلال السبعينيات، حيث عمل هناك بطريقة غير قانونية، وتعرّض للطرد مرتين قبل أن يتمكّن لاحقاً من الحصول على إقامة قانونية.
أما ماركوس سانتوس، وهو نائب آخر عن الحزب، فقد اعتُقل مرتين في ولاية فلوريدا الأمريكية في عامي 2004 و2005، بسبب مخالفات تتعلق بالإقامة والهجرة غير الشرعية.
وفي كانون الثاني/ يناير 2025، ألقت الشرطة البرتغالية القبض على ميغيل أرودا، النائب في البرلمان عن حزب "شيغا"، بعد ضبطه متلبساً بسرقة حقائب من مطار لشبونة الدولي. وقد كشفت التحقيقات أنّ عدداً من الحقائب المسروقة وُجدت داخل مكتبه البرلماني، ما فجّر فضيحة سياسية كبرى وأثار موجة غضب في الأوساط الإعلامية والسياسية.
وعلى إثر ذلك، أعلن الحزب تعليق عضويته وفتح تحقيق داخلي في الواقعة، في محاولة لاحتواء الجدل واسع النطاق. إلا أنّ الحادثة أضافت مزيداً من الضغط على الحزب، الذي يواجه اتهامات متناميةً بالنفاق السياسي، إذ يتبنى مواقف متشددةً تجاه المهاجرين، بينما تتورط قيادات فيه، بممارسات غير قانونية تتعلق بالهجرة والجريمة.
ومع اقتراب موعد الانتخابات البرتغالية المبكرة في أيار/ مايو المقبل، يظلّ السؤال الأهم مطروحاً: هل سيواصل حزب "شيغا" استغلال المخاوف الاجتماعية والاقتصادية لترسيخ نفوذه؟ أو أنّ الناخبين البرتغاليين سيرفضون خطاب التخويف والتحريض؟
لقد أثبت الحزب استعداده لتوظيف التضليل الإعلامي والتلاعب بالحقائق من أجل كسب الدعم، في وقت تكشف فيه الفضائح التي تطال بعض قياداته عن تورطهم في الممارسات نفسها التي يسعون إلى شيطنة المهاجرين من خلالها.
وفي ظل تصاعد موجات اليمين المتطرف في أوروبا، تمثّل الانتخابات المقبلة اختباراً حاسماً لمستقبل التعددية والانفتاح في البرتغال. فهل ينجح "شيغا" في فرض رؤيته الإقصائية؟ أو تثبت البرتغال أنها دولة تنبذ الكراهية وتؤمن بالتنوع والعدالة؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 17 ساعةهذا ليس طبيعيا، وهو ينشئ في الحالات القصوى من اضطرابات ومشاكل نفسية. الإنسان العاقل عندما يواجه...
مستخدم مجهول -
منذ 17 ساعةAnyone that studies human psychology and biological functioning of the body and it's interactions...
مستخدم مجهول -
منذ 17 ساعة'لا يسخر قوم من قوم', لا أذكر هذه العنصرية عندما كنت في المدرسة في الجنوب.
للأسف أن المعتقد...
Mohammed Liswi -
منذ 3 أيامعجبني الموضوع والفكرة
Ahmed Alaa -
منذ 4 أياملا حول ولا قوة إلا بالله
Hossam Sami -
منذ أسبوعالدراما المصرية فـ السبعينات الثمانينات و التسعينات كانت كارثة بمعنى الكلمة، النسبة الأغلبية...