أبحث عن صديقي الذي غيّبته الحرب عن إرسال المقاطع الساخرة لي، تلك الخالية من أي هدف أو معنى سوى التسلية.
أفتقد ضحكاتنا معاً.
أفكر يومياً في السؤال عنه: "بعدك عايش؟"، وأدرك بأنني مثله تماماً، لم أتعافَ ونجوت بأنفاس مرتجفة وذاكرة بأعمدة متهالكة على وشك السقوط. ذاكرة الحاضر التي أربكت ذاكرة الماضي المشبعة بضحكات صديقي. ذاكرة كانت قبل رؤيتي الكم الهائل من صواريخ العدو وهي تحاول قتل جاري.
أفكر يومياً في السؤال عنه: "بعدك عايش؟"
أستعيد مكالمتي مع صديقي في أول يوم من أيام العدوان، أي عند ولادة ذاكرة ما أنا عليه اليوم. أنصت مجدداً إلى صمته في أثناء محاولتي تهدئته، إلا أنه هو من كان يحاول تهدئتي بصمته، فجعلني أبكي كما لو أنني أستغيث بالقاتل كي يتوقّف حتى انتهاء المكالمة.
كنت أطالب وحوش الطائرات الحربية ببعض الوقت علّني أستمع إلى ضحكة صديقي التي وحدها تنجّيني من الأعظم.
كان يستمع إليّ بهدوئه ويطمئنني: "ما حتموتي".
نعم كنا ننتظر أن ينتهي القاتل من إفراغ حمولته، لنعاود حياتنا التي اعتدناها أو على هذا تواعدنا؛ أن نستعيد ما لنا وهي دنيا بهموم متواضعة، أي حياة بلا أشلاء.
لم أخاطبه منذ أن تيقّنت من أننا لن نعود إلى سابق عهدنا، ولكنني أنتظر منه "سلفي" لأحوّلها إلى ستيكر كما سابقاً. أنتظر منه حديثاً لا تتوسّطه الحرب كما كانت جميع الأحاديث عن ذكاء طفله آدم، وعن الحيوان المميّز عند آدم، وعن روبي مطربته المفضلة.
لم أخاطبه منذ أن تيقّنت من أننا لن نعود إلى سابق عهدنا، ولكنني أنتظر منه "سلفي" لأحوّلها إلى ستيكر كما سابقاً. أنتظر منه حديثاً لا تتوسّطه الحرب كما كانت جميع الأحاديث عن ذكاء طفله آدم، وعن الحيوان المميّز عند آدم، وعن روبي مطربته المفضلة.
كأنني في انتظار شريط مصوّر من الماضي، أي قبل حرب الأجساد المقطعة. كأنني أحاول من خلال صديقي أن أسترجع شيئاً من عبق تلك الأيام التي كنا فيها "عايشين".
أنتظر منه مكالمةً طويلةً مملّةً لا تكترث سوى للضحك، مكالمة لا تشبه تلك التي كانت على صوت الصواريخ من حولي.
لكن صديقي الذي هلع إلى مواساتي بتلك العبارة: "حتعيشي"، لم يكن يعلم أنه أيضاً سيكون بعد وقت قصير من الحرب شاهداً على الصاروخ الذي سيقتل أحداً من أفراد عائلته.
فحين كنت أشيّع شهيدتي، كان صديقي يحمل نعش عزيزه.
أعلم بأننا عدنا بقلوب ضاقت شرايين إنعاشها إيّانا. عدنا بقلوب تشبه ذلك الزاروب الضيّق في حيّ قريتي، حيث ابتلع الصاروخ آخر قلب كان ينبض بامتنان النجاة. قلوبنا التي تشظّت فأمست بلا تدفّق حتى أنها تعاود نبضاتها فقط عند سماعها طيران العدو يحلّق فوقها. أسمعت يوماً عن القلوب التي تخاوت مع صواريخ الأعداء؟ عن القلوب التي لم يحرّكها غزل بعد العودة؟ لم تحرّكها "الحمدلله على السلامة" أو تعاطف ولم يحركها البقاء ولا حتى العودة؟
ما يجعلها قلوباً بدقات معتدلة، صوت الحرب مجدداً. عدنا مع الحرب حاملينها في قلوبنا، فالعدو استطاع أن يمتلك قلوبنا، وقد فتك بشرايينها الرئيسية حتى تيقّن من علّته.
عدت مع فراق من كنت أسترسل معه في اللامعنى، وفي أي مشهد خالٍ من الأشلاء. كنا نتبارز بـ"الريلز"، لتمرير وقتنا دون شعورنا بالذنب لأننا نلهو على أرض تشرّبت دماء الأشلاء.
قبل الحرب، كان لدينا كل الوقت بليالٍ بلا هلوسة وصدور بلا أنفاس متقطّعة.
قبل الحرب، كان عمرنا الذي مرّرناه برقصات حوّلناها إلى أمنيات استبعدنا عنها مقتل من كان سيتشارك معنا أفراح المستقبل أو هكذا خططنا.
قبل الحرب كانت لنا أمنيات بلا أشلاء، وأما بعدها فأصبحت لنا وجوه متيبّسة تحت الأنقاض.
كانت لدينا وجوه لها هوية لا عيب فيها. وجوه بتفاصيل ساحرة مخردقة بالأحلام قبل أن يخترقها بارود الأجساد المقتولة.
كانت وجوهنا خصبةً. يتكلمون عن أرض الزيتون المبارك ويتناسون من كان له الفضل في ريّ عطاء هذا التراب.
فلولا وجوه من فارقونا لكانت أرضاً بلا ثمر، بلا رائحة، وبلا أنس. لولاهم لكانت صحراء.
تسألني نورهان: "شو يعني نعيش؟". نورهان التي أرادت أن تنحت خيوط وجهها الذي راكم الويلات بفعل ألم رؤية الأكفان المرقّمة
وقفت أمام الدمار بعد عودتي، وانتظرت أن يقابل وجه شهيدتي وجهي المتعب. انتظرت طويلاً عند دمار استهدافها، حتى استنشقت رائحة الفاجعة.
كنت أقف عند ناصية الحلم لأستفيق من كابوس الخبر.
تلك الرائحة التي تعاود اجتياح ذاكرتك لتمرر القتل بكل شراسته، لتخبرك مجدداً بأنّ وجه الشهيد التي تقف في انتظاره لن يطلّ لينقذك من رصاص الحرب الذي يرافقك كل صباح، وتلتقطه برأسك المضطرب نتيجة كل هذا الموت من حوله.
وجه شهيدتي غفا قبل عودتي، استقرّ عند تلك الأرض التي يتحدّانا العدو لسرقتها فهو وحده قادر على أن يبني عند خرابها انتصاراً.
وجهها بقي بالقرب من مخلّفات الصاروخ الذي سلخ عنه سترته، فتلاشى شيئاً فشيئاً حتى صار لشهيدتي وجه بدماء تطاير عند حديقة زهورها، وعينان حين أطبقت جفنيهما جعلت من الانتظار وعداً حتى القيامة.
وحده العدو قادر على أن يحوّل الأرض التي نزف عندها وجه شهيدتي، إلى مكان صالح للحياة، لأنه قاتل بلا رحمة يدوس الوجوه المدماة ويكمل طريقه.
تسألني نورهان: "شو يعني نعيش؟". نورهان التي أرادت أن تنحت خيوط وجهها الذي راكم الويلات بفعل ألم رؤية الأكفان المرقّمة.
فبعد إعلان وقف إطلاق النار في غزة، كانت نورهان تنشر على صفحتها الخاصة فرحتها.
قلّدتها وجاهدت ولو قليلاً في استرجاع بعض من العافية بعد مشاهدتي أهل غزّة وهم عائدون، فكانوا أقرب إليّ عند عودتي إلى الديار المنكوبة.
نورهان الفتاة الفلسطينية التي نتشارك معاً هواجسنا وقراءاتنا عن أحوال العدو في منطقة الشرق الأوسط "الجديد"، وتقدّمه نحونا.
نورهان التي تحدثني عن جدّتها من حيفا، وعن مخيم عين الحلوة، وعن كل شيء… فكل شيء يعني فلسطين.
أنا وصديقي ونورهان، سواسية في الفاجعة وسواسية في القهر.
لا أعلم إن كان صديقي يشاهد مجازر غزّة، أو ما زال آبهاً لها، إلا أنّ بكاء نورهان يصلني.
هذه الفتاة التي تعاونني على التمسّك بحدادي، بعدما رأيت كل الذين من حولي وقد تلوّنوا باللامبالاة والاستسلام للتطبيع مع العدو، وكأنهم تواطأوا أيضاً على قلبي الضعيف.
ترسل إليّ نورهان: عادت الحرب إلى غزّة. علمت بعد تلك الرسالة بأنني سأفتقدها كما صديقي. فالحرب وحدها تستطيع أن تدمجنا في حزننا، وتجرفنا نحوه حتى يستحيل انتشالنا.
أرادوا أن يكبّلوني بسيناريو الهزيمة، وأن يشعروني بأنني على خطأ، فقط لأنني ما زلت هناك متكئةً على قبر شهيدتي.
فالحزن على الأشلاء أصبح تهمةً يمارسها من لا يفقه فراق الحرب.
ترسل إليّ نورهان: عادت الحرب إلى غزّة.
علمت بعد تلك الرسالة بأنني سأفتقدها كما صديقي.
فالحرب وحدها تستطيع أن تدمجنا في حزننا، وتجرفنا نحوه حتى يستحيل انتشالنا.
بإمكانك أن تنتشل الجثث، ولكن لن تستطيع أن تنتشل الأحياء أصحاب القلوب المحتضرة.
لن تستطيع إنعاش وجوه الشهود على تلك المجازر.
لذلك لن تقاوم الأشلاء التي ستجدها في وجوهنا، أنا وصديقي ونورهان.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
diala alghadhban -
منذ يومينو انتي احلى سمرة
حاولت صور مثلك بس كان هدفي مو توثيق الاشياء يمكن كان هدفي كون جزء من حدث .....
ssznotes -
منذ يومينشكرًا لمشاركتك هذا المحتوى القيم. Sarfegp هو منصة رائعة للحصول...
saeed nahhas -
منذ يومينجميل وعميق
Mohamed Adel -
منذ أسبوعلدي ملاحظة في الدراما الحالية انها لا تعبر عن المستوى الاقتصادي للغالبية العظمى من المصريين وهي...
sergio sergio -
منذ أسبوعاذا كان امراءه قوية اكثر من رجل لكان للواقع رأي آخر
أمين شعباني -
منذ أسبوعهذا تذكيرٌ، فلا ننسى: في فلسطين، جثثٌ تحلق بلا أجنحة، وأرواحٌ دون وداعٍ ترتقي، بلا أمٍ يتعلم...