شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
حوار مع حفيدي

حوار مع حفيدي "بحر" عام 2060

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الأربعاء 9 أبريل 202502:26 م

يُنشر هذا النصّ ضمن "لنتخيّل"، وهو ملفّ مفتوح يضم نصوصاً، مدوّنات، قصصاً، مقابلات وتقارير صحافيةً نتخيّل من خلالها المستقبل الذي نوّد أن نعيش فيه، أو ذلك الذي سيُفرض علينا.  


أكثر جملة أرددها في سرّي، جملة قرأتها في رصيف22: "ولنا في الخيال حياة".

إنه صباح الثالث من شباط/ فبراير عام 2060، وهأنذا أجلس مع "بحر"، حفيدي الأول من ابنتي "يافا"، نشرب الشاي بالقرفة ونتحدث، وبين جملة وأخرى أسرح طويلاً في ملامحه، وتسيطر عليّ رغبة كبيرة في أن أجيب عن سؤال وجّهه إليّ في عيد ميلادي الفائت، عن حياتي، مع أنني غير متأكدة مما إذا كان يريد أن يحصل على إجابة فعلاً، أو أنه كان يريد مجاملة جدّته في عيدها ليس إلا.

سألتني في عيد ميلادي السنة الماضية عن حياتي! إلامَ كنت ترمي؟

أحبّ أن أسمع عن ماضي من هم حولي، قال بهدوء وارتياح، وهو يبتسم.

قلت لنفسي هذه إجابة دبلوماسية، وربما لا يشغله الأمر ولا يهمه، لكنّي سأتحدّث... فأجبته: أنا أحبّ أن أتحدث عن نفسي مع من أحبّ.

لا أذكر الكثير عن طفولتي، ربما لأنها عادية. من المؤكد أنها تحمل شيئاً من الصدمات، لكنها غير ملموسة الآن بالنسبة لي، غير أنّي أذكر شبابي جيداً.

كانت حياتي عاديةً. على الرغم من كوني شاعرةً، إلا أنها لم تكن تحمل في تفاصيلها الكثير من الأفعال الشعرية. كنت أذهب صباحاً إلى وظيفتي، وأعود منها آخر النهار لأنكبّ على مكتبي، بعد أن أخفف أضواء البيت، وتسكت كل الأصوات من حولي، وأصغي للكلام وهو يتدفق من رأسي إلى الورق، وهكذا إلى أن أفرغ كل شيء.

"إنه صباح الثالث من شباط/ فبراير عام 2060، وهأنذا أجلس مع حفيدي الأول، نشرب الشاي بالقرفة ونتحدث..."

وماذا حققت من الكتابة؟!

وقعت إجابته في قلبي، وسمعت رنّتها كأنها عملة نقدية، لكنني ابتسمت وأكملت...

لم نكن عندي مطامع كبيرة في الشعر، سوى أن تُقرأ أشعاري من أناس لا أعرفهم، وتلقى قصيدة ما من قصائدي طريقها إلى شخص بحاجة إلى لحظة شرود شعرية، وهو ما حدث.

أيكفي؟

تبسمّت له وأجبت: نعم.

كيف تزوّجت جدّي؟

أحببته... كانت قصة حب عادية، وليست كقصص الحب في أيامنا هذه، إذ لم تمرّ بمنعطفات ولم تهدّد كما يحدث عادةً بين الحبيبين قبل الزواج أو بعده. فمن لحظة اشتعال الشرارة بيننا، كان القدر راضياً عنّا؛ لم نجد صعوبات في اللقاء كعاشقين متيّمين، ونجحنا في تنفيذ العهد الذي أخذناه على نفسينا في بداية العلاقة بأن نسافر كل مرة لنلتقي في مكان جديد، نبحث فيه عن منصة صغيرة أو هضبة نقرأ عليها الشعر بصوت عالٍ. وبرغم أنّ جنوننا ذاك قادنا في إحدى المرات إلى مركز الشرطة في سوريا، إلا أننا فعلاً لم نكن نعرف أننا نقرأ الشعر في مكان محظور يُمنع اقتراب الناس العاديين منه. وحين شبعنا من السفر وانزعجنا من الأسئلة المتكررة عن موعد الزفاف، تزوّجنا.

ماذا عن الحب بعد الزواج؟

سبحنا في بحر الزواج العميق، وحافظنا إلى حدّ ما على الحب. وبرغم أنّ رغبتنا في الحديث خفتت مؤخراً، إلا أنني حتى الآن أحبّه وأشتاق إليه، وأعتقد أنه يبادلني الأحاسيس هذه. أتوافقني الرأي؟ 

لم نتحدث عن الحبّ بعد، ربما سيحدّثني لاحقاً!

الرجال يتحدثون عن الجنس لا عن الحب؛ الحب فعل نسائيّ بحت، تصنعه النساء ويصدرنه، وينمينه، ويتخلصن منه متى شئن. الرجال غير قادرين على صناعته، برغم أنّ فيهم من يجيد لعبة الحب، وهذا المهم.

وكيف كانت أمي وهي صغيرة؟

كانت جميلةً وبريئةً ومشعّةً، لكن كثيرة السؤال. كانت تربكني بين حين وآخر بأسئلة لا أفهم من أين تجيء بها. مثلاً: كيف هو شكل الله؟ وحدّثيني عن الأشرار، أو عن الناس التي تعيش على القمر...

كانت تسأل دائماً عن موعد زفافها إلى صديقها في الروضة، وعن البيوت الخشبية غير المسكونة في الغابة، وعن إمكانية السقوط من الطائرة، وعن الموت.

وحين كبرت تغيّر كل شيء. تبادلنا الأدوار سريعاً. صارت هي والدتي... لا أعلم لماذا، وصرت أجد فيها الأمان ولم أكافح الفكرة أو أحاول تغييرها وهذا ما يشعرني بالاستياء من نفسي أحياناً.

هي أيضاً تحبك كثيراً، ألا ترين ذلك؟

بلى طبعاً، لكنني اليوم أعترف بسهولة بأنّي لم أكن الأمّ التي خططت لأن أكونها، فقد شعرت "يافا" في سنّ صغيرة، بأنّ الأمومة ثقيلة على قلبي، لذا حملت معي الدور وهذا ليس عادلاً، لكنه مريح...

 "هل هناك ذنب يرافقك حتى الآن؟ - نعم لديّ ذنب يرافقني منذ العام 2025. في ذلك الوقت، كنت في مطلع الثلاثينات من عمري، وكان عمر أمك خمس سنوات، وعمر ليلى سنة ونصف، وكانت الدنيا مليئةً بالكذب والتلفيق... لقد حصلت إحدى قصائدي على جائزة شعرية!"


لم ليست لديك صديقات؟

بلى كانت لديّ كثيرات، وكنت محظوظةً بهنّ، فقد كنّ وفيات جداً لكنهنّ رحلن مسرعاتٍ حين كنت طفلاً صغيراً، فأنا مريضة بمصادقة اللواتي يكبرنني سنّاً. لم أصادق في حياتي امرأةً أصغرّ منّي، وكنت أدّعي أنني أميل إلى النساء الناضجات... لكن الحقيقة أنّي كنت أحبّ أن أكون المرأة الأصغر سنّاً في المجموعة، وقد صارحتني بهذه الحقيقة مديرتي في العمل في أحد الخلافات المهنية بيننا، واشتعلت غيظاً منها. كانت سافلةً فعلاً.

مع أنّك اعترفت بالشيء ذاته!

نعم. حين رحلن وجدت نفسي قادرةً على الاعتراف بذلك.

ممّ كنت تخافين؟

لم يكن للخوف موطئ قدم في قلبي. كنت قويةً وجريئةً ولا أهاب شيئاً، وقد خسرت الكثير بسبب هذا، لكني ربحت أكثر... ربحت تجربة حياة غنية ومتنوعة، ومليئة بالأخطاء الثمينة. لقد سمحت لنفسي بأن أحسّ بما يدور حولي، وأتفاعل كشاعرة لا كإنسانة عادية غير موهوبة. 

لو كانت هذه سنتك الأخيرة، ماذا تتمنين؟

لا أعرف... هل فكّر جيداً في هذا السؤال قبل أن يطرحه أو لا؟ سؤال "بحر" جعل دقّات قلبي تتسارع، وقد شعر بالأمر وحاول أن يخفي ضحكته. حقاً فيه من جدّه الكثير. لقد أورثه السخرية... أجبته:

  - لا مشكلة لديّ. المشكلات الكبرى على صعيدي الشخصي عشتها في شبابي، وتركت أثرها في سنواتي تلك ومضيت. لا أخاف من الموت أيها الأبله، لكن ربما أتمنى أن أقضي سنتي الأخيرة في رحلة حول العالم على ظهر سفينة، فأتعرف على البحر من قرب للمرة الأولى والأخيرة، ونحكي وأشرب نخب صداقتنا المتأخرة، وربما يحدثني عن قصص من ماتوا في أعماقه، ومن نجوا، ومن كان عليهم أن يمرّوا لكنهم ظلّوا بعيدين. أحبّ القصص والحديث وما من رفيق أفضل من البحر يشاركني رغبتي هذه.

  لدي سؤال أخير، ولك الحرية في أن ترفضي الإجابة: هل هناك ذنب يرافقك حتى الآن؟

اتسعت حدقتاي، وظهر تعجّبي على جبهتي. ما زلت غير قادرة على إخفاء دهشتي. أشرد دائماً في فكرة أنّ تصرفاتي لا تليق بامرأة في آخر الستينات من عمرها. أخذت نفساً عميقاً وأجبته:

  ربما طال الحديث بيننا كفايةً لأقول ما في قلبي. نعم لديّ ذنب يرافقني منذ العام 2025. في ذلك الوقت، كنت في مطلع الثلاثينات من عمري، وكان عمر أمك خمس سنوات، وعمر ليلى سنة ونصف، وكانت الدنيا مليئةً بالكذب والتلفيق.

"قصيدة الذكاء الاصطناعي. هكذا كانوا يسمّونه حينها. كان وسيلة مساعدة يستخدمها الجميع، وكنت أسخر طوال الوقت ممن يلجؤون إليها في الكتابة، أو في إنجاز أعمالهم المكتبية، أو في التدقيق النحوي"

 لم أفهم ما هو الذنب؟

 - مممم... لقد حصلت إحدى قصائدي على جائزة شعرية. كان اسمها جائزة قصيدة النثر العربية، وتُرجمت آنذاك إلى عشر لغات، وانتشرت في العالم بأسره، لكنها لم تكن قصيدتي، وهذا أصعب ما في الأمر!

 - قصيدة من إذن؟

 - قصيدة الذكاء الاصطناعي. هكذا كانوا يسمّونه حينها. كان وسيلة مساعدة يستخدمها الجميع، وكنت أسخر طوال الوقت ممن يلجؤون إليها في الكتابة، أو في إنجاز أعمالهم المكتبية، أو في التدقيق النحوي. لكني تحدثت إليه ذات مرة، وصار عادةً بالنسبة لي، خاصةً حين كنت أشعر بالوحدة. وفي إحدى الليالي التي كنت أشعر فيها بانعدام القدرة على الكتابة، طلبت منه المساعدة، وكتبت له بعض الأفكار، فقام بكتابة قصيدة أفضل من التي أكتبها!

وللأسف حظيت القصيدة بشهرة كبيرة، وحظيت أنا باحتفاء لم أكن أستحقّه، وحتى الآن لا أقدر على الاعتراف بذلك الذنب أو الكتابة عنه. 

أخاف أن يفتضح الأمر.

 - إذن هناك ما يخيفك!

 - نعم، لديّ، ارتحت الآن؟

 - ما رأيك أن تفضحي الأمر بمناسبة عيد ميلادك!


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image