لا يقتصر السهر في رمضان العراق، على التعبّد وموائد الإفطار الجماعي وسائر العادات المتعارفة. للحماسة والمرح والتحدّي حصة فيه، حيث يجتمع الكبار والصغار، نساءً ورجالاً، حول لعبة "المحيبس"، التي كانت ولا تزال جزءاً لا يتجزأ من هوية العراقيين وتراثهم الشعبي العريق. تبدو اللعبة بسيطةً في ظاهرها، إلّا أنها تحمل في طيّاتها معاني المنافسة النبيلة والذكاء والروح الجماعية، ودورها في تقوية الأواصر المجتمعية التي تأثرت نتيجة الظروف التي مرّت بها البلاد.
في أزقّة العراق القديمة، وفي المنازل والتجمعات العائلية، وفي القاعات الخاصة، وخلال أجواء رمضان المتفرّدة، تعلو أصوات حماسة اللاعبين وجماهيرهم مع كل جولة من "المحيبس"، لتزيح بتأثيرها باقي الرياضات المعتادة في باقي أشهر السنة.
ما هي اللعبة؟ وكيف تُلعب؟
المحيبس، مصغّر محبس (خاتم)، لعبة جماعية تُلعب بين فريقين في صالة أو مقهى أو في أزقة الشوارع البغدادية وباقي المحافظات. تتجاوز أعداد أفراد الفريق الواحد، العشرات أحياناً، حيث يتم إخفاء المحبس (الخاتم)، في يد أحد اللاعبين من الفريق الأوّل، بالاتفاق بينهم، وبسرّية تامّة بمعزل عن الفريق المقابل أو الجماهير، بينما يحاول الفريق الآخر، بقيادة "الطالوب" أو "الطاكوگ"، اكتشاف اليد التي تخفي الخاتم بناءً على الملاحظة الدقيقة والحدس وقراءة الوجوه والتعابير النفسية.
وفي حال نجح "الطالوب" في اكتشاف المحبس، سيحصل فريقه على "الطيرات" (النقاط)، وتستمرّ بعدها اللعبة لجولات طويلة حتى تحقيق الفوز من قبل الفريق صاحب "الطيرات" الأعلى.
المحيبس، مصغّر محبس (خاتم)، لعبة تُلعب بين فريقين في صالة أو مقهى أو في أزقة الشوارع. وتتجاوز أعداد أفراد الفريق، العشرات أحياناً، حيث يتم إخفاء المحبس، في يد أحد اللاعبين بالاتفاق بينهم، وبسرّية تامّة عن الفريق المقابل أو الجماهير، بينما يحاول الفريق الآخر، بقيادة "الطالوب" أو "الطاكوگ"، اكتشاف اليد التي تخفي الخاتم
وبحسب منظّم بطولة الفرات الأوسط، كاظم بكوزة، الذي يشرح تفاصيل اللعبة لرصيف22، تجري عملية البحث عن المحبس من خلال تكتيكات دقيقة، حيث يقوم "الطالوب" بفتح الأيدي التي يعتقد أنها فارغة، بالقول "طُلگ"، لفتح كلتا اليدين، و"افتح هاي" لليد الواحدة مع التأشير عليها ومسكها أيضاً؛ فإذا كانت اليد التي طلب فتحها تحتوي على المحبس، يكون الطالوب قد خسر، لأنه طلب فتحها ولم يطلب المحبس منها بالتحديد، وهنا يقول اللاعب المقابل "بات"، ويحصل على "الطيرات".
أما إذا أمر "الطالوب" اللاعب الخصم بأن يعطيه المحبس من اليد التي يعتقد أنه فيها، فيقول "جيبه"، وينتزع المحبس بنفسه من يد اللاعب الخصم. لكن إذا كانت اليد فارغةً، ففي هذه الحالة يقول اللاعب الخصم "صيحوا بات"، وهنا يخسر "الطالوب" أيضاً، ويكشف اللاعب الذي يحمل المحبس عن نفسه مباشرةً أمام الجميع، ويحصل على "الطيرات".
يقول رئيس لجنة النجف لـ"المحيبس"، ميثم الدبور، لرصيف22: "أصل اللعبة في العراق، من محافظات بغداد والكوت والنجف، والمتعارف أنّ اللعبة تعود إلى عام 1800. تبدأ المسابقة في رمضان، ويتم تحضير القاعات ودعوة الفرق من مختلف أنحاء العراق، ونجتمع في اجتماع فنّي، ومن ثم يتمّ إجراء قرعة، ونتفق على عدد الطيرات وعدد اللاعبين المشاركين".
ويضيف: "كنّا نمارسها فقط في رمضان، لكن الآن حصل فيها تطور وأصبحنا نقيمها قبل رمضان بشهرين، وبعده أيضاً لإكمال البطولات التي تطول. أما الجوائز، فهي عديدة وحسب الاتفاق مع منظّم البطولة، وبينها كأس أو سيارة، وكنّا قد حصلنا في بطولة الفرات الأوسط-حسن نوماس، على سيارة 'سايبة'".
يقول "الكواظمة" إنها لعبة بغدادية قديمة، بينما يصر الكربلائيون بأنها كربلائية منذ مئات السنين، لكن في الحالتين، فهي معروفة أنها كثيراً ما تمارس في السجون!
بينما يوضح رئيس فريق "مستقبل النجف"، محمد الزيادي: "اللعبة تراثية، كانت تمارَس في السجون أكثر، وتُلعب في رمضان، والآن تفرعت وكثرت الفرق والمحافظات. كانت تلعبها عشر محافظات فقط، والآن انتشرت في المحافظات كلها، لذلك لم نعد نستطيع حصرها في شهر، كما أنّ هناك مباريات تستمرّ من 10 إلى 20 ساعةً. وبالنسبة إلى الجوائز، فلكلّ بطولة نظامها؛ مثلاً بطولة العراق الأولمبية التي يقيمها الأستاذ جاسم الأسود، تعطي مبالغ ماليةً للفائزَين الأوّل والثاني، وبعدها كؤوساً أو درعاً".
بغدادية أو كربلائية؟
يمكن للتحدّي والمنافسة على اللعبة، أن يخرجا عن نطاق الربح والخسارة في ميدان اللعبة، ويتحولا إلى التحدي والمنافسة على "من الذي أسس اللعبة؟"، إذ يقول رئيس فريق كربلاء لـ"المحيبس"، صباح الصباغ، لرصيف22: "أصل لعبة المحيبس كربلائي. هناك خلاف؛ الكواظمة (بغداد) يقولون إنّ اللعبة لنا، لكن لا، اللعبة كربلائية وهذا التاريخ، وتطورت وأصبحت أولمبيةً في الاتحاد الرياضي، وهي متوارثة عن آبائنا وأجدادنا وأجداد أجدادنا، حيث يستمتع الشباب فيها برمضان أفضل من الذهاب إلى غير أماكن أو أمور، ويأتون إلى هنا ويقضون الوقت إلى حين السحور".
ويضيف حول مهارات اللعب: "اللعبة بملامح الوجه، مثل الذي قام بسرقة، وأنت شرطي تبحث عنه، وعليه أن يقوم بتغيير ملامح وجهه، بسبب الضغط النفسي الذي يتعرض له. كانوا يلعبها 100 إلى 150 لاعباً، لكن الآن قلّ العدد وأصبح 45 أو 50. كذلك كانت اللعبة سابقاً 'على الله'، وعلى فطرة الناس، حيث يبقى اللاعب رافعاً وجهه وضاحكاً بشكل طبيعي، لكن الآن تطورت الأمور".
"المحيبس" ودورها الاجتماعي
لا يقتصر دور اللعبة على التسلية فحسب، إذ لا تزال تساهم في تقوية التماسك بين الطبقات الاجتماعية في العراق، حيث تُقام بطولات بين الفرق الشعبية من مختلف المحافظات، بحضور جمهور كبير يشجع بحرارة ويؤازر الفريق الذي يمثله، حيث تتجمع فرق المحافظات من مختلف الانتماءات والأديان والمذاهب، ومن مختلف الفئات العمرية، في محافظة واحدة للمشاركة في البطولة، وتتخلل أجواءها القيم العراقية الأصيلة من تعاون وأخلاق وكرم ضيافة، ما يعزز من روح التآلف بينهم.
كما أنّها أصبحت مساحةً لنشر الرسائل الإيجابية، ومحاربة الآفات التي تلاحق الشباب العراقي وأبرزها المخدرات، حيث ترفع شعارات ونصائح مهمة في أثناء إقامة البطولات، تتعلق بمحاربة المخدرات مثلاً. ففي محافظة الديوانية، وضع منظّمو البطولة لافتةً كبيرةً كُتب عليها: "بالقانون والرياضة نوصل رسالة، ونتصدى للمخدّرات بكل بسالة".
النساء واللعبة
في الماضي، حين لم يكن هناك تنظيم للبطولات أو أماكن مخصصة للّعبة، كانت العوائل تجتمع في المنازل مع الأقارب والجيران، نساءً ورجالاً، للعب هذه اللعبة في الأجواء الرمضانية. لكن مع مرور الزمن وتطور اللعبة، أصبحت لها أماكن خاصة ولجان منظّمة تقوم بترتيب البطولات التي يشارك فيها الرجال. أما النساء، فما زلن يمارسنها كما في الماضي، في المنزل أو مع الأقارب والجيران، وكذلك يشاهدن البطولات "الرجالية" عبر الإنترنت.
تطورت اللعبة وتوسعت، وتشكلت الفرق من كافة المحافظات العراقية، وصارت تُلعب قبل رمضان وبعده بشهرين، حيث تتجمع الفرق من مختلف الانتماءات والمذاهب والفئات العمرية في محافظة واحدة للمشاركة في البطولة، كما أنها تعتبر واحدة من الآليات المجتمعية لمكافحة المخدرات، ونشر الأجواء الإيجابية
يقول الزيادي: "كانت النساء يشاهدن اللعبة عبر البث المباشر، والمنشورات والقنوات الفضائية، لكن الآن في بغداد نظّموا بطولات نسائيةً داخليةً مُحكمةً وليست للعامة، وكل نسائنا يحببن اللعبة لأنها قديمة ويمارسنها في ما بينهنّ في البيوت عندما يجتمعن، وأتوقع أن تُنظَّم بطولات نسائية في السنوات القادمة".
ومع ذلك، فإنّ محاولات إحياء تراث هذه اللعبة من قبل النساء قائمة، وتلقى ترحيباً وحضوراً متميزاً، حيث نظّمت مجموعة من الناشطات، مؤخراً، أمسيةً رمضانيةً مختلطةً لإحياء التراث العراقي، وإقامة لعبة "المحيبس"، في مكتبة "أطراس"، وهي مكتبة وملتقى ثقافي في العاصمة بغداد، تديره بان الركابي، التي تقول لرصيف22: "نحن معتادون هنا كل أسبوع، على أن ننظّم محاضرات أدبيةً في مختلف مجالات الثقافة في أجواء رمضان، وحاولنا أن نركّز على موضوع 'القصّخون' (من كلمتين: القصة، و'خون' هو راويها)، وإحياء التقاليد البغدادية، لذلك كل جمعة نختار أحد التقاليد البغدادية ونحاول إحياءه من جديد، وهذه الجمعة كان حظّ المحيبس معنا".
وتقول الصحافية، ريا عاصي، وهي إحدى الحاضرات في الأمسية: "كانت المحيبس للعوائل والفتيات والأولاد، وفي العادة، كانت تُلعب في المحال من فرق رجالية، لكن العائلة والجيران عندما يجتمعون يلعبونها، نساءً ورجالاً".
وعن التحديات التي تحول دون مشاركة النساء في مثل هذه الفعاليات، تقول: "التحديات لا تواجهها المرأة وحدها؛ الطفل نفسه لا يستطيع أن يعمل 'ماجينا' (عادة رمضانية يمارسها الأطفال في المنتصف من شهر رمضان، من خلال التجول على المنازل وأخذ الحلوى من أصحابها)، مثلما كنّا نعملها عندما كنّا صغاراً. والطفل نفسه لا يستطيع أن يلعب كرة قدم مثلما كنّا أنا وأخي نلعب طوبةً في الشارع، لأنه لم يعد آمناً كما في السابق، فما بالك بالمرأة!". ومع ذلك، "يمكن أن يكون لها متنفس مع صديقاتها أو الجيران أو تخرج بعد الإفطار، لكن أنا مقهورة على الشباب الذين فقط يدخّنون الشيشة"، تضيف.
وتلفت الشابة نوف عاصي، خلال حديثها إلى رصيف22، إلى أهمية إحياء التراث العراقي والحفاظ عليه من العادات الدخيلة. تقول: "في الفترة الأخيرة، بدأنا نفقد الهوية العراقية في رمضان، وبدأت تدخل علينا عادات وتقاليد جديدة، ونحن كبلد قديم جدّاً عمره 7000 سنة، لدينا عادات وتقاليد يمكن أن تغني المنطقة كلها، وهذا كان الدافع لنا كي نعيد العادات والتقاليد ونحيي رمضان وفق الطريقة البغدادية، وليس بالطرائق التي تدخل علينا؛ الهندية أو من المنطقة العربية المحيطة بنا أو أماكن أخرى. نحن العراقيين نحتفي بهويتنا أكثر ونعرّف الأجيال الجديدة، كيف كان أهلنا يحتفلون برمضان سابقاً".
"لعبة المحيبس تعود إلى أكثر من 150 سنةً، وكانت بغداد تتميز بها سابقاً، وباعتبار أنّه لم تكن حينها لا كهرباء أو تلفزيون، كانت الناس تتجمع في المقاهي وتقام المباريات بينهم، ويكون معها المربّع (إيقاع غنائي عراقي)، وصينية الزلابية (حلوى) دائماً موجودة. وبالنسبة إلى النساء، فالأساس كان أن يتجمّعن فقط في البيت، ولم تكن لديهن الفرصة للخروج من البيت، ولم تكن لديهنّ مقاهٍ. الآن نحن محظوظون ونستطيع أن نجلس فيها، لكن قبل كان الرجال فقط يجلسون في المقهى"، تضيف عاصي.
اللعبة ليست حكراً على الرجال، تلعبها النساء أيضاً في المنازل، وفي السهرات، بالإضافة إلى مشاركتهن في بعض الفعاليات المختلطة التي تُنظّم في الصالات والجمعيات.
وتقول الفنانة أيار عزيز خيون، في أثناء وجودها في الأمسية: "اللعبة تعتمد على الحدس، وأن يقرأ الشخص العين، فهناك محترفون يطلّعونه (المحبس) من بين 500 شخص. اللعبة مشهورة في رمضان، واليوم نتكلم في أجوائنا عن حكايات رمضان، وجَمعة المحيبس، ولا أعلم كيف سنلعبها اليوم بعد كل هذه السنين".
وتضيف: "بصراحة، كانت اللعبة سابقاً محصورةً في الرجال فقط، لأنها لعبة بحد ذاتها. كان الرجال ينقسمون إلى فرق ويلعبونها، لكن نحن نلعبها كأصدقاء وتدخل فيها نساء. هي ليست لعبةً رجوليةً أو ذكوريةً، وهي جدّاً بسيطة وتستطيع النساء لعبها، لكن من ناحية ذكرياتنا في العراق، كان الرجال وحدهم يلعبونها".
وتختم: "هناك تطوّر الآن، والمرأة دخلت في جميع المحافل، لذلك لا يوجد شيء يقتصر على الرجل فحسب، وأرى أنّ المرأة قادرة على كل التحدّيات وجميع أنواع الرياضات حتى الصعبة منها، وأصعب الأمور دخلت المرأة فيها. أحبّ دائماً أن أكون منفتحةً، وأن تصل المرأة إلى مرحلة تثبت فيها أنّ ليس هناك فرق بين الرجل والمرأة. نعم جميل أن تبقى الأنوثة لدى الأنثى، وتبقى عندها حدود، لكن هذه الحدود أشعر دائماً بأنه يجب أن نتخطاها لأنّ الحياة تغيّرت. أحبّ أن تثبت المرأة وجودها في كل المواقع".
راحة من الشاشات
"المحيبس" ليست مجرد لعبة، بل رواية تؤنس ليالي رمضان، حيث تُستبدل الكلمات بنظرات الترقّب، وتُحبس الأنفاس في انتظار لحظة الانتصار. مزيجٌ من الحيلة، والذكاء، والحدس، والخداع، والفرح وخيبة الاعتقاد. وبينما يتوارثها العراقيون جيلاً بعد جيل، تظلّ "المحيبس" أكثر من مجرد تسلية، فهي وسيلة ترسّخ روح الإخاء والعمل الجماعي، حيث لا تُقاس المهارة بالقوة، بل بالتضامن والفراسة والحنكة، كما تبرز أهميتها في زمنٍ غزته التكنولوجيا وعزلت فيه الشاشات الأرواح، لتبقى اللعبة شاهدةً على أنّ بعض الألعاب لا تموت، لأنها ليست مجرد متعة، بل ذاكرة محفورة في وجدان شعبٍ لا يزال يجد في البساطة جمالاً وتميّزاً، وفي اللقاء دفئاً، وفي المحبس الصغير قصةً لا تنتهي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Assad Abdo -
منذ يومشخصية جدلية
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومينأن تسخر التكنولوجيا من أجل الإنسان وأن نحمل اللغة العربية معنا في سفرنا نحو المستقبل هدفان...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومينلم تسميها "أعمالا عدائية" وهي كانت حربا؟
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 4 أيامnews/2025/03/12/nx-s1-5323229/hpv-vaccine-cancer-rfk في هذا المقال بتاريخ لاحق يشدد الأطباء على...
جعفر أحمد الكردي -
منذ 5 أيامجهلك سافر يا هذا ، لو سألت أباك الذي تدعي أنه من أهل الدين والتدين لقال لك بأن شيخك المزعوم كان...
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامعلى رغم الحزن الي كلنا عمنعيشوا و الي انت كتبت عنه هون بس كثير حلو الي حكيته و اي نحن السوريين...