لوغو مش ع الهامش
هزّت صرخات نسرين (اسم مستعار)، خيام النازحين/ ات المهترئة في قرية الزوايدة وسط قطاع غزّة، بعد أن رأت شلالاً من الدماء يتدفق بين ثيابها الممزقة، وراحت تستنجد ألماً وكأنها تتعلق بطوق نجاة تريده أن يوقف إجهاضها الثالث. دوّى صوتها في أركان المخيم وهي تستغيث: "ساعدوني ساعدوني لا أريد أن أُحرم من الأمومة، أو أن يُقال عنّي امرأة ملعونة لا تنبت الزهر والشجر ولا تطرح الثمر ولا تجود بالظلال".
نسرين (25 عاماً)، نزحت من شمال قطاع غزّة إلى جنوبه، بعد أن قام الاحتلال الإسرائيلي بتدمير بيتها، الأمر الذي أجبرها على الإقامة القسرية داخل خيمة متهالكة، كما أنّ منغصات الحياة التي أفرزتها الحرب الجنونية قتلت كل مشاعر الفرح لديها.
وبين فرح عصيّ وأمل مخادع، مرّت الأيام بشكل ثقيل، وباتت هذه الشابة محبطةً وحزينةً كونها أجهضت في كل المرات التي حملت فيها، والسبب يعود إلى حقن الهيبارين الممنوعة من الدخول إلى قطاع غزّة منذ بداية الحرب، ولا بديل لها.
تجلّط الدم
تسرد نسرين، قصتها وهي تمسح دمعةً خجولةً نزلت على وجنتيها. تقول لرصيف22: "تزوجت قبل خمسة أعوام، وبحمد الله كانت حياتي الزوجية سعيدةً إلى أن حملت بطفلي الأول، وكان ذلك قبل السابع من تشرين الأول/ أكتوبر بخمسة أشهر. وبعد مرور ثلاثة أشهر على الحمل أجهضت، وبدأت بزيارة الأطباء والعيادات بحثاً عن أسباب الإجهاض حتى عرفت بأنني مصابة بتخثّر الدم (تجلّط الدم)، وأنه من الضروري عند حدوث الحمل تناول إبر الهيبارين باهظة الثمن. لكن ما الفائدة من تناولها بعدما أجهضت وفقدت جنيني؟".
"على الرغم من متاعب النزوح إلا أنّ الأقدار شاءت أن أحمل بطفلي الثاني وقمت بأخذ الإبر التي كان قد اشتراها زوجي في السابق لكنها للأسف لم تكفِ إلا لثلاثة أسابيع من الحمل، ومن ثم طرقنا جميع أبواب المشافي والعيادات الحكومية والصيدليات الخاصة لكن دون جدوى إلى أن مات الجنين"
يحدث تخثّر الدم في الأوردة العميقة، وهو عبارة عن جلطة دموية تتكون داخل أحد الأوردة في الجسم، وغالباً ما تكون في إحدى الساقين أو في كلتيهما مسببةً انتفاخاً واحمراراً وألماً. وقد تتحرك هذه الجلطات الدوية لتحدث انسداداً في أحد الأوعية الدموية المركزية في الرئتين بشكل مفاجئ. ولمنع حدوث هذه التجلطات في أثناء الحمل، وبعد الولادة، يُنصح بأخذ إبر الهيبارين.
تتابع نسرين حديثها: "بدأ زوجي بشراء إبرة الهيبارين، التي كان سعرها يتجاوز 26 شيكلاً (7 دولارات)، وذلك للاحتفاظ بها حتى حدوث الحمل، ولم يكن في مقدوره، وهو سائق أجرة بسيط، أن يشتري يومياً إبرتين بهذا المبلغ الباهظ، لذا اتفقنا على شراء كمية وتخزينها حتى حدوث الحمل".
وتضيف: "كنت أحتاج في اليوم الواحد إلى إبرتين في حال حدوث حمل، وإلا سيحدث إجهاض مفاجئ، فالمستشفيات الحكومية ليست لديها القدرة الكافية على توفيرها بشكل يومي للحالات التي تحتاجها دورياً مثلي".
وإبرة الهيبارين من الأدوية المضادة للتخثّر التي تمنع حدوث الجلطات وتقي منها، وتزيد من سيولة الدم، ويتم وصفها من قبل الأخصائي/ ة خلال الحمل أو بعد الولادة ولفترة معيّنة، وتتفاوت نسبة أخذ إبرة الهيبارين من سيدة إلى أخرى، وفق نسبة التخثّر في الدم لدى كل حامل.
تحتضن نسرين بطنها، وتبكي بشدّة وهي تصف حملها الثاني، قائلةً: "اندلعت حرب الإبادة ونزحنا من بيتنا الدافئ إلى خيمة متهالكة باردة، وعلى الرغم من متاعب النزوح إلا أنّ الأقدار شاءت أن أحمل بطفلي الثاني. كنا في قمة الفرح أنا وزوجي، على الرغم من مشاعر الحرب المؤلمة، وقمت بأخذ الإبر التي كان قد اشتراها زوجي في السابق واحتفظت بها في حقيبة مخصصة وحملتها عند النزوح، لكنها للأسف لم تكفِ إلا لثلاثة أسابيع من الحمل، ومن ثم طرقنا جميع أبواب المشافي والعيادات الحكومية والصيدليات الخاصة بحثاً عن الإبرة، لكن دون جدوى إلى أن مات الجنين".
تتابع نسرين حديثها، وهي تتنهد بين الفينة والأخرى، وتحمد الله على ما أصابها: "الحمل الثالث كان بعد مرور عام على حرب الإبادة، حيث تفاجأت بأعراض الحمل المعتادة، ومن ثم توجهت لإجراء فحص الحمل، ولكن هذه المرة لم أفرح بحملي. كيف لي أن أفرح وأنا أعلم أنه سيهلك قريباً؟".
وتختم بالقول: "دعوت الله كثيراً بأن يحفظ لي هذا الحمل، وكأني أطلب حدوث معجزة إلهية لإكمال نموّه بسلام، لكن للأسف هلك الجنين نتيجة عدم توافر إبرة الهيبارين والحمد لله على كل حال".
مناشدة عاجلة
في بهو منزل العائلة العتيق، أخذت غادة (اسم مستعار)، وهي في العقد الثالث من العمر، تمشي ذهاباً وإياباً. كانت مرتبكةً ومتوجسةً من لقاء والدها الذي أصبح يتأفف ويبدي ضيقه وانزعاجه من طلباتها الكثيرة، خاصةً بعد احتراق محالّه التجارية في الحرب، فأوضاعه المادية لم تعد كما في السابق، مع العلم أنه حينها تكفّل بمصاريف علاج ابنته حتى تتمكن من الإنجاب وحاول جاهداً مساعدتها لكي تنجب ابنتها البكر سيلا، التي تبلغ من العمر اليوم خمسة أعوام.
أما زوج غادة، فلم يتمكن في ذلك الوقت من دفع نفقات العلاج الباهظة بعد أن خسر وظيفته ومصدر دخله الوحيد، وهو تصليح الهواتف النقالة، إذ كانت غادة مجبرةً على أخذ حقن الهيبارين طوال فترة الحمل ودون تلك الحقن يموت الجنين.
"الحمل الثالث كان بعد مرور عام على حرب الإبادة، حيث تفاجأت بأعراض الحمل المعتادة، ومن ثم توجهت لإجراء فحص الحمل، ولكن هذه المرة لم أفرح بحملي. كيف لي أن أفرح وأنا أعلم أنه سيهلك قريباً؟"
وبرغم نجاح الأطباء في تشخيص الحالة المرضية لغادة، إلا أنها أجهضت مرات عدة قبل ولادة ابنتها سيلا، جرّاء التشخيصات الخطأ، خاصةً أنّ المشافي العاملة في قطاع غزّة تفتقر إلى الكادر المتخصص والمعدّات المخبرية اللازمة للتشخيص.
تستذكر غادة، كيف كانت سعيدةً بعد أن علمت بنبأ حملها الثاني، ومن ثم كيف بدأت رحلة البحث عن إبرة الهيبارين لتثبيت حملها. تقول لرصيف22: "لم ننزح أنا وزوجي وابنتنا سيلا إلى المحافظات الجنوبية، بل آثرنا البقاء داخل منزلنا القائم في شرق قطاع غزّة في منطقة الشجاعية، وبحمد الله لم يتدمّر".
وتضيف: "عندما شعرت بأعراض الحمل، مشيت على قدميّ مسافةً كبيرةً جداً حتى أصل إلى أقرب مختبر لإعداد فحص الحمل، وعلى الرغم من فرحتي بنبأ الحمل، إلا أنها كانت فرحةً منقوصةً لأنني أعلم أنني بحاجة إلى تكاليف باهظة لإتمام الحمل في ظلّ هذه الظروف الصعبة التي نعيشها".
وبدأت غادة رحلتها الشاقّة للبحث عن الهيبارين في المشافي الحكومية والمستشفيات الميدانية والمنظمات الدولية، وعادت دون نتيجة تُذكر، فإبر الهيبارين، مثلها مثل باقي الأدوية، ممنوعة من الدخول من قبل السلطات الإسرائيلية، وإن سُمح لها بالدخول فيتم السماح بعد فترة طويلة جداً من تاريخ صلاحيتها، لتصبح إبرةً منتهية الصلاحية لا قيمة في تناولها، بالإضافة إلى عمليات السطو المسلّح على الشاحنات عند دخولها إلى قطاع غزّة والتي استمرت طوال حرب الإبادة.
تتابع غادة حديثها: "إحدى صديقاتي نصحتني بإطلاق مناشدة عاجلة ونشرها من خلال الشبكة العنكبوتية، وإرسالها إلى الجهات المسؤولة وذات الاختصاص كافة، حيث ناشدت بضرورة توفير حقن الهيبارين لإتمام حملي ولقيت المناشدة صدى واسعاً لدى الجمهور وتعاطفاً كبيراً من عامة الناس، فيما آثرت الجهات المسؤولة الصمت بعد تقديم الوعود".
وتضيف: "في إحدى الليالي، شعرت بإرهاق شديد وآلام تشبه آلام المخاض. سارع زوجي بنقلي إلى المستشفى حيث تم إجهاضي ثم إرفاق ورقة مغادرة المستشفى بفحوصاتي وأوراقي الطبية للتفرغ لحالات طارئة".
الوضع صعب
يقول الدكتور نعيم أيوب، المدير العام لمستشفى الصحابة الطبي في قطاع غزّة، لرصيف22: "عندما تجهض السيدة، تلجأ إلى أطباء النساء والتوليد للبحث عن أسباب الإجهاض، سواء كانت الأسباب نفسيةً أو جسديةً، لذا يجب إجراء الفحوصات اللازمة لاكتشاف السبب الذي يكمن وراء الإجهاض كفقدان الأدوية والمثبّتات والهلع والخوف وسوء التغذية والنزوح المتكرر والحالة النفسية السيئة التي تعيشها الحامل داخل الخيام أو مراكز الإيواء".
ويضيف: "من بين الفحوصات، يوجد فحص الثرومبوفيليا، حيث تُظهر نتيجة التحليل ما إذا كانت السيدة تعاني من تجلّط الدم ونسبة التجلّط لديها، وبناءً على نتيجة هذا الفحص تتم كتابة روشتة طبية لتناول إبر الهيبارين أو إبر الكليكسان، وهي إبر مضادة للتخثر".
يتابع أيوب حديثه: "هذا التحليل يتم إعداده داخل مختبرين فقط داخل قطاع غزّة، هما مختبر جين ومختبر الجامعة الإسلامية، ولكن للأسف في بداية الحرب تم تدميرهما وإلى الآن لا توجد مختبرات تُجري هذا النوع من التحاليل، الأمر الذي يعيق معرفة ما إذا كانت السيدة قد أجهضت بسبب تخثر الدم أو يعود ذلك إلى أسباب أخرى".
ويشير أيوب إلى أنّ الكثير من حالات الزواج تمت في الحرب، والكثير من النساء أجهضن بسبب الظروف الصعبة وغياب الإمكانات: "إنّ إبر الهيبارين يتم وصفها منذ معرفة الحمل حتى الولادة، فهي تعمل على سيولة الدم لدى الأمّ الحامل، ما ينشّط الدورة الدموية ويساعد في نمو الجنين، لذا من الضروري تناول هذه الإبر، فمن الممكن أن يهلك الجنين، وإن كان في الشهر الثامن أو حتى التاسع، لو حدث اختلال في تناول الإبر".
"تُعدّ السيدات اللواتي أجهضن في أثناء حرب الإبادة، من أكثر السيدات اللواتي مررن بوضع نفسي صعب بسبب فقدانهنّ الأجنّة، وذلك لعدم توافر الأدوية أو لأسباب أخرى أفرزتها حرب الإبادة مثل الهلع والخوف والنزوح المتكرر"
ويتابع: "شهدت غزّة انقطاعاً كاملاً في الكثير من الأدوية والمقوّيات ومثبتات الحمل حتى الرعاية الطبية للسيدة الحامل معدومة للغاية، فالكثير من السيدات يعانين من تسمّم الحمل أو سكر الحمل، كما نشهد الكثير من حالات التشنج والنزيف نتيجة فقدان الأدوية اللازمة، لذلك حتى إن توفرت هذه الإبر، فيجب حفظها ضمن درجة حرارة معيّنة، ولكن مع ظروف الحرب، كان يتم وضعها داخل خيام بلاستيكية مهترئة، وهذا المتوافر، ونحن نعمل قدر المستطاع، فالكثير من الإبر كانت منتهية الصلاحية وهذا بالطبع يؤثر على جودتها وصلاحيتها".
بدورها، تقول وفاء أبو حشيش، مسؤولة صحة المرأة في جمعية تنظيم وحماية المرأة الفلسطينية، لرصيف22: "تُعدّ السيدات اللواتي أجهضن في أثناء حرب الإبادة، من أكثر السيدات اللواتي مررن بوضع نفسي صعب بسبب فقدانهنّ الأجنّة، وذلك لعدم توافر الأدوية أو لأسباب أخرى أفرزتها حرب الإبادة مثل الهلع والخوف والنزوح المتكرر، حيث تدخل السيدة بعد فقدانها جنينها في حالة نفسية صعبة للغاية فتفقد الشغف بكل شيء حولها وتصبح غير مهتمة بنفسها وقد تمرّ باضطرابات ما بعد الصدمة".
تختم أبو حشيش حديثها قائلةً: "يمكن للسيدات اللواتي أجهضن أن يتجاوزن أزمتهنّ النفسية، وذلك من خلال توفير الإسعاف النفسي الأولي وتوفير الدعم الأسري وتعلّم طرائق التعامل مع الأزمات، لكن يكاد يكون ذلك مستحيلاً لأنّ جميع أفراد الأسرة يعانون من ضغوط الحرب المتتالية، ومن النادر إيجاد سند للسيدة المعنية أو دعم نفسي لمحنتها".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومnews/2025/03/12/nx-s1-5323229/hpv-vaccine-cancer-rfk في هذا المقال بتاريخ لاحق يشدد الأطباء على...
جعفر أحمد الكردي -
منذ يومينجهلك سافر يا هذا ، لو سألت أباك الذي تدعي أنه من أهل الدين والتدين لقال لك بأن شيخك المزعوم كان...
مستخدم مجهول -
منذ يومينعلى رغم الحزن الي كلنا عمنعيشوا و الي انت كتبت عنه هون بس كثير حلو الي حكيته و اي نحن السوريين...
Souma AZZAM -
منذ 5 أيامالدروز ليسوا نموذجًا واحدًا في الاعتقاد والسلوك. اما في مستوى العقيدة، فهم لا يؤمنون بالسحر، وإن...
محمد دراجي -
منذ أسبوعأخي الفاضل قبل نشر مقالة عليك بالتحقق خاصة في علم الأنساب والعروش والقبائل فتسمية بني هجرس ولدت...
م.هيثم عادل رشدي -
منذ أسبوعمقال رائع وضع النقاط على الحروف فالحقيقة أن النزاعات جعلت أبناء شعوبنا متشردين ولاجئين ومهاجرين...