لم تُخلق الحواس فينا عبثاً. ربما ربطها الله بروحنا من خلال حبل سرّي، لتعيدنا إلى الحياة لحظة انقطاعنا عن معناها الحقيقي. هكذا أرى حاسّة الشمّ: عملية بيولوجية تحدث بشكل تلقائي وظاهر، لكن باطنها أعمق بكثير مما تذكره كتب علوم الأحياء.
ورمضان، الشهر المشحون بالمشاعر، لا يمكن إلا أن يكون له نصيب كبير في لائحة الروائح المؤججة للمشاعر. لرمضان رائحة طيبة، تقول للناس إنّ الدفء قد جاء، هلمّوا لاستقباله.
في اليوم الأول من الشهر الكريم، توقفت عند رائحة الليمون التي تفوح في الشوارع، وكأنما اتفق الجميع على اعتماده مشروباً رئيسياً على موائدهم. أعادتني الرائحة إلى سنوات خلت في منزل أهلي؛ أمّي التي كانت تعصره بنفسها، ومعه شعور الحب في خلفية المشهد. لم يكن الليمون فحسب، بل كان مجهود أمّي المتعبة، والمُحِبّة برغم كل شيء.
ليس غريباً أن تكون الروائح مرآةً للذكريات، فكل رائحة تحمل في طياتها قصةً قديمةً، لحظةً عابرةً، أو شعوراً لا ينسى. وفي شهر رمضان، تتحول الروائح إلى جسور خفيّة تُعيدنا إلى أيام الطفولة، إلى البيوت المملوءة بأصوات العائلة، وإلى موائد الإفطار التي كانت تجمعنا حول تفاصيل صغيرة لكنها صنعت أكبر الذكريات.
رائحة القهوة التي تلي أذان المغرب، ورائحة الخبز الساخن المدهون بالزيت والزعتر، وحتى رائحة البخور التي تعبق في المساجد قبيل صلاة التراويح… كلها روائح تتسلل إلى القلب لتذكّرنا بما مضى، وتعيننا على ما سيأتي.

حين تتحدث الروائح إلى الذاكرة
علمياً، تُصنَّف حاسة الشمّ على أنها من أكثر الحواس ارتباطاً بالذاكرة والمشاعر. والسبب أنّ الروائح تمرّ مباشرةً إلى الجهاز الحوفي في الدماغ، وهو الجزء المسؤول عن العواطف والتجارب الشخصية. لهذا السبب، يمكن لرائحة واحدة أن تستحضر مشهداً كاملاً من الماضي، وتوقظ شعوراً خفيّاً كان نائماً منذ سنوات. فالدراسات تشير إلى أنّ 75% من المشاعر اليومية تتأثر بالروائح، وأنّ الذكريات المرتبطة بالرائحة غالباً ما تكون أكثر حدّةً ووضوحاً من غيرها.
ليس غريباً أن تكون الروائح مرآةً للذكريات، فكل رائحة تحمل في طياتها قصةً قديمةً، لحظةً عابرةً، أو شعوراً لا ينسى. وفي شهر رمضان، تتحول الروائح إلى جسور خفيّة تُعيدنا إلى أيام الطفولة، إلى البيوت المملوءة بأصوات العائلة، وإلى موائد الإفطار التي كانت تجمعنا حول تفاصيل صغيرة لكنها صنعت أكبر الذكريات
وهذا ما يفسّر كيف يمكن لرائحة طعام أو عطر بسيط أن تعيدنا إلى لحظة من الطفولة أو إلى لقاء مع أشخاص أحببناهم يوماً. الروائح تملك قدرةً خارقةً على فتح أبواب الذاكرة دون استئذان. أما الأشخاص الذين ترتبط ذاكرتهم ارتباطاً وثيقاً بالروائح، فيطلَق عليهم مصطلح "الشمّيين"، وهؤلاء الأشخاص يمكن أن تثير فيهم رائحةٌ معيّنة مشاعر قويةً أو تعيدهم إلى لحظات محددة من الماضي أكثر من غيرهم.

كيف تتكوّن الذكريات الشمّية؟
عندما نشمّ رائحةً معينةً، تنتقل الجزيئات الكيميائية مباشرةً عبر الأنف إلى البصلة الشمّية، التي تنقل الإشارة مباشرةً إلى الجهاز الحوفي، وتحديداً إلى منطقتي اللوزة الدماغية والحُصين. يجدر الذكر هنا أنّ حاسة الشمّ هي الحاسة الوحيدة التي تتخطى القشرة الدماغية، وهي الجزء المسؤول عن التفكير الواعي والتحليل، وتنتقل مباشرةً إلى المراكز العاطفية في الدماغ. هذا ما يفسر سبب قوة وتأثير الروائح في استحضار الذكريات والمشاعر بشكل فوري وعميق.
فعلى سبيل المثال، قد تعيدك رائحة خبز التنّور إلى صباحات طفولتك، أو تذكّرك رائحة العطور بأشخاص مرّوا في حياتك. هذه الصلة المباشرة تجعل الذكريات الشمّية أكثر رسوخاً وتأثيراً بالمقارنة مع الذكريات المرتبطة بالحواس الأخرى.

لكل رائحة في رمضان حكاية
كثيرون هم "الشمّيون" في حياتنا، ومنهم ليلى، المعلمة التي تبلغ من العمر 35 عاماً، والتي تجد في رائحة القهوة "ذكرى أمان وسكينة". "لا يمكن أن يمرّ رمضان دون أن تملأ رائحة القهوة زوايا المنزل قبل السحور. هذه الرائحة تذكرني بجلسات عائلتي، بالضحكات التي كانت تملأ البيت، وبقصص أمي التي كانت تحكيها لنا قبل النوم".
هناء: "كلما شممت رائحة البخور بعد صلاة التراويح، أشعر وكأنني أعود إلى بيت والدتي، حيث كانت تحرص على تعطير المنزل يومياً في رمضان. وأنا اليوم أكرر هذا الطقس مع أولادي".
أما نادين، فتبتسم وهي تتحدث عن ذكريات طفولتها في رمضان: "كانت جدّتي تضع ركوة القهوة على النار قبيل الإفطار، وكانت رائحة الهيل تملأ البيت. تلك الرائحة بالنسبة لي ليست مجرد قهوة، بل هي ذكريات الأمان، والحب، وصوت الدعاء الذي كان يملأ المكان قبل أذان المغرب".
في الغالب، يرتبط رمضان بروائح الطعام المصنوعة بحبّ. هذا ما يعتقد به محمد، ويقول إنّ أكثر ما يذكّره برمضان هي رائحة الخبز الساخن: "كنا ننتظر أمي أمام الفرن لنأخذ أول قطعة، تلك الرائحة ما زالت تحمل في قلبي طعم البركة".
وتروي هناء ذكرياتها قائلةً: "كلما شممت رائحة البخور بعد صلاة التراويح، أشعر وكأنني أعود إلى بيت والدتي، حيث كانت تحرص على تعطير المنزل يومياً في رمضان. كانت تقول إنّ البخور يمنح البيت روحانيةً خاصةً، وأنا اليوم أكرر هذا الطقس مع أولادي".

"الأروماثيرابي"… حينما تصبح الرائحة لغة مشاعر
في مجتمعاتنا الشرقية، لطالما كانت للروائح طقوسها الخاصة في رمضان. من البخور الذي يُشعَل مع بداية الشهر، وكأنّه إعلان عن بدء موسم روحاني خاص، إلى روائح الأطعمة التي تعبق في الطرقات وقت مغيب الشمس، ورائحة المساجد التي تختلط بعطر المصلّين وأصوات القرآن.
حتى "الأروماثيرابي"، أو العلاج بالروائح، له مكانته في هذا الشهر. فبعض الأشخاص يجدون في إشعال شمعة عطرية أو استخدام زيت عطري مثل اللافندر أو خشب الصندل، وسيلةً لتهدئة النفس وإعداد الروح للعبادة. هناك من يؤمن بأنّ الروائح قادرة على تخفيف التوتر وإعادة الشخص إلى حالة من الطمأنينة والتأمل.
عبر العصور، عُدّت الروائح وسيلةً فعالةً للتأثير على النفس والمزاج، وهذا ما يُعرَف بعلم الأروماثيرابي أو العلاج بالروائح. تؤكد الدراسات أنّ بعض الروائح قادرة على تحسين المزاج، وتهدئة الأعصاب، وحتى استحضار الذكريات الجميلة. في رمضان، تلعب الروائح دوراً مضاعفاً، فهي ليست فقط جزءاً من العادات، بل هي ركيزة من ركائز طقوس هذا الشهر الفضيل.
وكما يميّز الهلال بداية رمضان، تميّز روائح القهوة والحلويات العربية والبخور روح الشهر وأجواءه.
عندما نشمّ رائحةً معينةً، تنتقل الجزيئات الكيميائية مباشرةً عبر الأنف إلى البصلة الشمّية، التي تنقل الإشارة مباشرةً إلى الجهاز الحوفي، وتحديداً إلى منطقتي اللوزة الدماغية والحُصين. يجدر الذكر هنا أنّ حاسة الشمّ هي الحاسة الوحيدة التي تتخطى القشرة الدماغية، وهي الجزء المسؤول عن التفكير الواعي والتحليل، وتنتقل مباشرةً إلى المراكز العاطفية في الدماغ. هذا ما يفسر سبب قوة وتأثير الروائح في استحضار الذكريات والمشاعر بشكل فوري وعميق
رائحة البخور، مثلاً، ترتبط بالشعور بالروحانية والطمأنينة. أما رائحة القهوة، فغالباً ما ترتبط بالصحبة والدفء العائلي، بينما ترتبط رائحة الطعام بذكريات اللمّة والسهرات الرمضانية. ومن هنا، نجد أنّ الروائح ليست مجرد تفاصيل عابرة، بل هي لغة صامتة تؤرشف مشاعر وأحاسيس يصعب التعبير عنها بالكلمات.

حينما تصير الروائح هويةً رمضانيةً
تتجاوز الروائح في رمضان كونها مجرد عبير يملأ الأجواء، لتصبح جزءاً من الهوية الثقافية والاجتماعية، وركيزةً من ركائز طقوس هذا الشهر الفضيل. فكما يميّز الهلال بداية رمضان، تميّز روائح القهوة والمعمول والبخور روح الشهر وأجواءه. هذه الروائح تخلق طقساً خاصاً لكل عائلة، وتصبح ذكرى متجذرةً تنتقل من جيل إلى جيل.
تقول رنا حمود، وهي كاتبة شابة، عن علاقتها بالروائح الرمضانية:
"رائحة البخور تذكّرني بجدّي، الذي كان يحرص كل مساء على تعطير المنزل بعد الإفطار. أما رائحة الكبّة، فترتبط بجدّتي التي كانت تصنعها بحب وكأنها تصنع قطعةً من قلبها. اليوم، عندما أعيد إحياء هذه الطقوس، أشعر وكأنني أحافظ على جزء من هويتي ومن تراث عائلتي".

روائح رمضان... دفء البدايات التي لا نملّها
في زمن إيقاعه اليومي سريع جداً، تبقى الروائح هي الرابط السرّي بين الحاضر والماضي. الروائح هي أشبه بشيفرات خفية تذكّرنا بما كان، وبما يجب أن يكون. أما رائحة رمضان، فهي ليست عطراً يمرّ وينتهي، بل هي قصة تكتبها الأيام وتحفظها الأرواح، لتعود في كل عام، فتفتح لنا باباً إلى ذكريات قديمة، وتجعلنا نبتسم ونحن نستعيد دفء البدايات.

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
م.هيثم عادل رشدي -
منذ يوممقال رائع وضع النقاط على الحروف فالحقيقة أن النزاعات جعلت أبناء شعوبنا متشردين ولاجئين ومهاجرين...
Zee Hilal -
منذ يومينAlso you have ZERO presence on social media or any search I have done. Are you real? Who is the...
Zee Hilal -
منذ يومينI was dating a gf who was Irish for 8 years and she was an alcoholic. Seriously why are you...
Zee Hilal -
منذ يومينLOVE is the reason we incarnate. Don't blame me because some low income people who are stuck are...
Zee Hilal -
منذ يومينYour druze! You should be ashamed of yourself! Oh. Your going to hear about this when we are...
Zee Hilal -
منذ يومينDon't blame the druze faith when people don't know what it is. If you want to marry someone like...