شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
رمضان في أوروبا... موائد عابرة للقارات على سفرة

رمضان في أوروبا... موائد عابرة للقارات على سفرة "واتساب"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

قيل في الأمثال الشعبية الدارجة: "اسأل عن الجار قبل الدار"، لكن من منّا اليوم يسأل عن جيرانه؟ وهل فرضت علينا ويلات الحروب أن نرضى بجارٍ لا نستطيع حتى نطق اسمه، جارٍ بالكاد نحيّيه صباحاً، وفي أحسن الأحوال نتشارك معه المصعد قبل أن ندخل إلى شقق في مبانٍ شاهقة لا نعلم من يسكنها، نحن الذين هجرنا أوطاننا إلى بلاد نبحث فيها عن دفء منازلنا القديمة، وحنين جارنا العتيق الذي كان يطرق بابنا لسهرة مسائية لطيفة دون الحاجة إلى حجز موعد مسبق يُدوَّن في أجندة مزدحمة.

هنا في الغرب، حيث تناطح الأبراج السكنية السحاب، وتضيق الشقق الصغيرة بجدرانها العازلة، تتقلص العلاقة بين الجيران إلى بضع رسائل نصيّة أو بطاقة معايدة تُرسل عبر صندوق البريد في بعض المناسبات. فهل تلاشت فكرة الجار كما كانت في الماضي؟ أو أنّ الغربة والحياة الحديثة جعلتاها مجرد ذكرى في عالم مليء بالجدران الصامتة والتطبيقات الذكية؟ إلى ذلك، يصبح الوضع شديدة الوطأة مع قدوم المناسبات الحافلة، مثل حلول شهر رمضان.

سفرة "واتساب"

عندما كنت طفلةً في السابعة من عمري، كان أكثر طقس محبّب إليّ فور عودتي من المدرسة، نزع حقيبة المدرسة الثقيلة عن ظهري، والهرولة إلى المطبخ لاكتشاف طعام اليوم. وبرغم انشغال أمّي في الطبخ، إلا أنها كانت تفتح معي، أنا وإخوتي، نقاشاتٍ كثيرةً حول أسرار وصفاتها: من أين جاءت؟ ولماذا تضيف هذا النوع من التوابل؟… إلخ. وفي زحمة الحوارات، قالت فجأةً: "اليوم هو اليوم الأول من رمضان، ولا بدّ لنا من إرسال طبق من الكوسا المحشي لجارتنا أم يزن، فربما تغني سفرتها به، وتزداد بركة دارنا". لم أكن أعلم ماذا يعني شهر رمضان، ولا كيف يمكن أن تزداد البركة في منزلنا إذا شاركنا طبختنا مع الجيران.

يُقال: "اسأل عن الجار قبل الدار"، لكن من منا اليوم يفعل ذلك؟ بعد أن فرضت علينا الحروب جيراناً بالكاد نعرف أسماءهم، نحيّيهم عابرين بتحية فاترة

ما كنت أعنيه هو أنّ الحي بأكمله في ذلك الشهر، كان يتناقل الأطباق من بيت إلى آخر، ومع تلك الأطباق كانت تنتقل الكلمات والضحكات والدعوات الجميلة. ربما هكذا كانت تدخل البركة بيوت الجميع. فلم يكن سكّان حيّنا مجرد أشخاص يسكنون في الجوار، بل كانوا امتداداً حقيقياً لنا.

تبدلت الأحوال سريعاً، فقد انتهت مشاويري بين طوابق بنايتنا حاملةً أطباقاً ساخنةً وشهيةً تفوح رائحتها. اليوم، جارتنا أم يزن في برلين، بينما أمي بقيت في منزلها. لم يعد هناك طَرق على الأبواب، ولا تبادل للأطباق، بل مجرد رسائل عبر "واتساب": "رمضان كريم… شو عاملة اليوم؟"، ثم صورة لطبق شهيّ، يتبعها ردّ من أم يزن بصورة أخرى من مطبخها الألماني: "عملت محشي بس من دون حفر الكوسا، مقطعتها قطع، بتعرفي هون الكوسا مو متل عنّا، كبيرة كتير". نرسل صورنا المتفرقة ونضحك، ونحاول مقاومة الإحساس بالوحدة، ونشارك وصفاتنا كما كنا نشارك أطباقنا، ولكن بسفرٍ رمضانية عابرة للقارات تنقلها هواتفنا الذكية.

جيرة رقمية 

أتنقل يومياً بين منصات التواصل الاجتماعي، وأقرأ مئات "البوستات"، لكن ما لفت انتباهي آخر مرّة هو "بوست" لناشر وهمي يبحث أو تبحث عن جيران يسكنون بالقرب منه/ ا في إحدى مناطق "هولندا". كان البوست على الشكل التالي: "يعطيكن العافية، ممكن نلاقي جيران إلنا هون يجوا لعنّا ويكون عندن ولاد يلعبوا مع ولادنا؟ حنجنّ من الوحدة، اذكرولنا بأي منطقة إنتو".

هل أصبح البحث عن جيران يتم اليوم عبر تطبيقات السوشال ميديا؟ وهل هذا ما يسمّى "الجيرة الرقمية"؟ وهل من الواجب، إن حدث طارئ في حيّك أو منطقتك، أن تهرع مباشرةً لكتابة بوست للاطمئنان عمّن هم حولك؟

هناك مجموعات خاصة لجيران الحيّ على "واتساب"، بدأت تحلّ محلّ الجلسات الليلية على عتبات الأبواب وتناول فناجين القهوة على الشرفات. وأيضاً أصبحت للتطبيقات الحديثة مكانة مرموقة في تقديم مفهوم "الجيران المتعاونين" من خلال توصيل الطلبات وتقديم بعض الخدمات الأخرى. نعم، إنهم يوفرون لنا الرفاهية ودليلاً على التطور الاقتصادي، لكنهم أيضاً جعلونا أشخاصاً أكثر عزلةً، نخشى فتح الباب لمن لا نعرفه.

في عصر هذه التكنولوجيا السخيفة التي قرّبتنا ممّن هم بعيدون، وأبعدتنا عمّن يسكنون بجوارنا، سألت نفسي: هل فقدنا مفهوم الجيرة إلى الأبد؟ أو أننا فقط بحاجة إلى إعادة تعريفه؟ هل يمكن أن تحلّ مجموعات "واتساب" مكان الجلسات الحقيقية؟ وهل تكفي التطبيقات الحديثة لتعويض دفء العلاقات التي كنا نبنيها وجهاً لوجه؟ والأهمّ من ذلك، هل نحن مستعدّون لاستعادة هذا الرابط الإنساني؟ أو أننا ارتحنا لفكرة الجار الذي نراه ولا نعرفه؟

وهذا ما دفعني لسؤال صديقاتي المنتشرات على طول خريطة الهجرة الأوروبية، عن كيف يستعدن بعضاً من سحر شهر رمضان في غربتهنّ؟

روح وبهجة 

"في سوريا، كان هناك إحساس حقيقي بروح رمضان حتى قبل أن يبدأ"، بهذه الكلمات بدأت خولة، المعلّمة المقيمة في هولندا، مقارنتها بين رمضان الذي عرفته في سوريا، وما تحاول الشعور به في أوروبا.

وتقول: "في سوريا، كان الناس يستعدّون لرمضان قبل قدومه، وكانت البهجة تبدأ مع شهرَي رجب وشعبان. كل يوم، كان الشارع يزدان بالأضواء وتزداد الفوانيس على النوافذ، وكان منظر هذه الأجواء يُدخل السرور إلى القلب، ويحفّزنا على شراء الزينة والاستعداد لاستقبال الشهر الفضيل".

وتضيف: "كان جوّ رمضان يظهر في كل تفصيل، من الشوارع المزيّنة إلى البيوت التي تخصص مونةً خاصةً لهذا الشهر، ومن المساجد المضيئة بالهلال إلى أصوات الأغاني الدينية التي تحتفل بالصيام وفضائله. كانت المحال تعرض أجود أنواع التمور والقهوة العربية المرّة، وهذه التفاصيل كلها كانت تسعد الروح".

في مخيمات المهجر الأوروبي، يحاول المهاجرون المسلمون استعادة تفاصيل صغيرة تذكرهم برمضان في بلدانهم، وينتهي بهم الأمر بتصوير الأطباق وإرسالها إلى ذويهم عبر "واتساب"

أما في الغربة، فكانت خولة، تحاول بكل الطرق استعادة "روح رمضان"، كما تقول، فهي بعيدة عن وطنها وعن عائلتها. بدأت بالبحث عن الزينة عبر المتاجر الإلكترونية، ونظّمت جدولاً للإفطار مع صديقاتها حتى يجتمعن على مائدة واحدة. تقول: "أنا وصديقاتي نضع التمر على الطاولة، ليشعرنا بأننا في رمضان، برغم أنه من الصعب جداً أن نجتمع في الغربة. لكننا في هذا الشهر نلتقي لنتذكر أكلات سوريا، ونحاول تحضير أطباقنا المفضلة، وإن لم نعد نعيش في بيوتنا. هنا في المخيم، بذلنا جهداً كبيراً لإعادة تلك التفاصيل الصغيرة التي تعيد لنا بعضاً من روح رمضان، برغم صعوبة الوضع". وطبعاً لا تنسى خولة، أن تصوّر هذه الأطباق لترسلها إلى ذويها عبر "واتسآب"، حتى تطمئنهم بأنها تستطيع الطهو في الغربة، برغم أنّ الطعم تنقصه دائماً… "لمّة العائلة".

طقس وطعم 

هالة، سورية تعمل في مجال هندسة المعلومات وتتجول بين عواصم أوروبية عدة، تروي لرصيف22، تجربتها الرمضانية في أوروبا: "الأجواء الرمضانية التي نعيشها في أوروبا تختلف كثيراً عن تلك التي كنّا نعيشها في سوريا. اليوم، وبعد سنتين ونصف من العيش في أوروبا، وتنقّلي بين بلدان عدة، مثل فرنسا، إسبانيا، هنغاريا، وهولندا، للأسف الأجواء الرمضانية في هذه البلدان لا تشبه الأجواء التي كنا نعيشها في سوريا". 

تفتقد هالة، وقت الإفطار، ترقّب طلقة المدفع معلنةً انتهاء يوم الصيام، وكيف كانت هذه الطلقة ترسم الراحة على قسمات وجوه العائلة الملمومة على سفرة واحدة، تحضر عليها أشهى الوصفات.

هناك مجموعات خاصة لجيران الحيّ على "واتساب"، بدأت تحلّ محلّ الجلسات الليلية على عتبات الأبواب وتناول فناجين القهوة على الشرفات

كما تفتقد بالقدر ذاته، وجبات السحور مع الجيران في الخارج، والشوارع التي كانت مليئةً بتلك الأجواء الرمضانية الجميلة، والناس الذين يشعلون القناديل، والأغاني الهادئة التي كانت تُعزف، وكذلك الأغاني السورية والعربية التي كنا دائماً نسمعها. لكن، للأسف، هنا في أوروبا افتقدنا كثيراً هذه المظاهر".

وتضيف هالة: "هنا في الغربة، نحاول استعادة بعض الطقوس الرمضانية. ندعو أصدقاءنا، وهم يردّون لنا الدعوات، ولكن هذا يحدث في نطاق ضيق ومحدود، وفقاً للأعراف والعادات في المدينة التي أعيش فيها، خاصةً أنني أتجول بين مدن أوروبية عدة. نحاول قدر الإمكان أن نعيش هذه الأجواء، لكن بأسلوب أقلّ وأصغر. ومع ذلك، دائماً ما نشعر هنا في الغربة، بأنها تأخذ منا شيئاً، خصوصاً تلك العادات التي كانت تشعرنا بالألفة مع الأشخاص الذين نعرفهم، فهي ليست فقط عادات رمضانيةً أو دينيةً، بل هي عادات كانت تربطنا بحياة اجتماعية غنية".

وتتفق مع رأي هالة، مواطنتها عفاف المقيمة في ألمانيا، إذ تقول: "رمضان بالنسبة لي هو اجتماع العائلة على مائدة واحدة، ومشاهدة مسلسل بقعة ضوء، والسهر حتى وقت السحور".

وتختم عفاف حديثها: "هنا، لا توجد هذه الأجواء. الفطور هنا مجرد وجبة سريعة، نأكلها على عجل ثم ينتهي الأمر. حتى في الشوارع لا نشعر بروح رمضان. في حارات الشام، كنا نخرج بعد الإفطار لنأكل الناعم (مخبوز مقرّمش يُعدّ من الحلويات). كم أشتاق إليه! ذلك الناعم الذي يُسكب عليه الدبس، ونشرب معه عرق السوس والتمر الهندي. هذه الأجواء كلها غائبة هنا... فكيف يمكن للمرء أن يشعر برمضان؟".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image