مش ع الهامش
في إحدى غرف مدارس إيواء النّازحين في مخيّم النصيرات وسط قطاع غزّة، تجلس نور متّكئةً على حائط السّبورة. أطفالها يركضون ويلهون حولها، لأوّل مرّة، دون صوت القصف الإسرائيليّ. تستمع نور إلى أصواتهم، لكنّها لا تراهم.
أصيبت نور ياسر (35 عاماً)، وهي أمّ لأربعة أطفال؛ أكبرهم تميم (9 أعوام)، يوم 22 شباط/ فبراير 2024، بشظية قذيفة مدفعيّة استهدفت منزلها في مخيّم البريج وسط غزّة. كانت نائمةً في غرفتها، لحظة دخلت القذيفة، فأصابتها، وأفقدتها حاسّة البصر، وجزءاً من رحمها. ومنذ تلك اللحظة، تحوّل النور في حياتها إلى ظلمة.
"النساء في غزّة، خاصّةً الأمّهات، هنّ ضحيّة الإبادة الجماعيّة. فـ60% من النساء اللواتي قُتلن، ولا يقلّ عددهنّ عن 10 آلاف امرأة، أمّهات. و70% من الجرحى نساء، ويقدّر عددهنّ بـ19 ألف جريحة ومصابة، بحسب وكالة الأونروا. ومن خلال قراءة هذه النسب العالية، نفهم أنّ إسرائيل ارتكبت إبادةً بحقّ النساء وصحّتهنّ الإنجابيّة والجنسيّة"، تقول الاختصاصيّة النفسيّة وئام الكرد، لرصيف22.
التقت الكرد، بعدد من النّساء المُصابات جرّاء حرب الإبادة، ورافقتهنّ في مسار رعايتهنّ النفسيّة والصحّية. "منهنّ من فقدن قدرتهنّ على الإنجاب، وممارسة حياتهنّ الجنسيّة. ومعظمهنّ أصبحن يعانين من اكتئاب حادّ، بعد أن حرمتهنّ الحرب من الأمومة"، تضيف.
نجون بأجسادهنّ فحسب
"هؤلاء النّساء نجون بأجسادهنّ، لكنّهنّ يعشن تحت وطأة الضغط المجتمعيّ والنفسيّ. الأمر يلقي المسؤوليّة المجتمعيّة كاملةً على جميع الأطراف، من أجل حمايتهنّ ودعمهنّ"، تقول الكرد.
"قبل إصابتي، كنت أعمل كالمكّوك، لأسرتي وواجباتي المنزليّة، كأمّ وزوجة وربّة منزل، ولا سيّما في ظروف الحرب التي ضاعفت من الأعباء على النساء والرجال، وفي ظلّ الحصار وانعدام مقوّمات الحياة في غزّة"، تشرح نور.
أخرى قالت مُمازحةً: لو كنتُ مكانك لزوّجت زوجي، حتى أجد من تساعدني في تربية الأطفال. وكأنّ قيمتي مرهونة بهذا الدّور وليس بكوني إنسانةً
وتتابع: "بعد إصابتي، تقلّص هذا الدور، لأنّي فقدت حاسّة البصر. لو كنت في منزلي، ربّما كان الأمر أقلّ سوءاً، لأنّي أحفظ زواياه وأغراضه. ربّما كنت سأُنجز أعمالي المنزليّة حتّى وإن فقدتُ الرّؤية".
لا تزال نور، تنتظر مثل مئات الجريحات والجرحى في غزّة، أن تسنح لها الفرصة للسّفر إلى الخارج لاستكمال علاجها، وهو ما يشكّل بالنسبة لها الأمل الباقي كي تستعيد بصرها.
"إنّ التحدّيات التي تواجهها النّساء أكبر من مجرّد حاجتهنّ إلى العلاج الجسديّ. لقد أثّرت الإصابة على قدرتي على الإنجاب. وأجبرتني على التأقلم مع واقع جديد فُرض عليّ"، تقول نور.
وتشير الكرد، إلى أنّ انهيار المنظومة الصحيّة في القطاع حال دون وجود رعاية صحيّة دقيقة للحالات التي تتعرّض فيها النّساء لضرر في صحّتهنّ الإنجابيّة. لذا يلجأ الأطبّاء إلى الخيارات المحدودة المتاحة.
كيف ينظر إليهنّ المجتمع؟
تقول نور، بصوتٍ مخنوق: "لم يكن ألمي الجسديّ الناتج عن الإصابة، هو الأقسى، بل نظرات الشّفقة التي أراها في وجوه النّاس، ومن دائرتي المقرّبة. لا أزال أسمع همساتهم وهم يسألون عن كيفية اعتنائي بأطفالي وزوجي وأنا فاقدة البصر. آخرون قالوا لي مباشرةً: من الجيّد أنّ ربنا أكرمك بالإنجاب قبل الإصابة. وأخرى قالت مُمازحةً: لو كنتُ مكانك لزوّجت زوجي، حتى أجد من تساعدني في تربية الأطفال. وكأنّ قيمتي مرهونة بهذا الدّور وليس بكوني إنسانةً".
تحاول نور، عدم الاستسلام برغم إقصائها عن المجتمع، كما تقول. "بدأتُ بتدريب نفسي على القيام ببعض الأنشطة المنزليّة. زوجي يدعمني وينصحني بعدم الالتفات إلى نظرة المجتمع القاسية وغير الرّحيمة"، تُردف.
وتلفت إلى أنّها لا تُشارك من حولها، التحدّيات التي تواجهها بسبب الإصابة، كصحّتها الجنسيّة والإنجابيّة. فالحديث، كما تصفه، يتّسم بالتعقيد والحساسيّة.
يوضح الاختصاصيّ المجتمعيّ والنفسيّ عبد الله سلامة، في حديثه إلى رصيف22، أنّ مصابات غزّة، جزء من المجتمع الغزيّ الذي فرضت عليه الحرب ظروفاً معيشيّةً وإنسانيّةً قاسيةً، لكنّ المصابات يعشن معاناةً مضاعفةً، نظراً إلى حساسية وواقع المجتمع الغزّيّ الذي تسيطر عليه العادات والتقاليد".
"أنا رجل وأحتاج إلى أبناء. وأنت تعرفين أنّ هذا من حقّي". "كان وقع الكلمات عليّ أشدّ ألماً من الإصابة نفسها
وللمجتمع، بحسب ما تقول وئام الكرد، دور في مساعدة الناجيات من آثار إصابتهنّ. فالمرأة التي تتلقّى من محيطها الدّعم، تبني قدرةً أعلى على التكيّف من المرأة التي تواجَه بالتّجاهل، وكأنّها تُعاقَب.
وتضيف: "على سبيل المثال، النّساء اللواتي يتزوّج أزواجهنّ زيجةً ثانيةً، بغرض الإنجاب، بحجّة عدم قدرة زوجاتهنّ على القيام بدورهنّ كزوجات، أو النّساء اللواتي يهجرهنّ الرّجال في فترة الخطوبة، هنّ أكثر من يحتاج إلى الدعم النفسيّ والصّحيّ وإعادة التأهيل".
إبادة للأمومة
في السادس من آب/ أغسطس من العام الماضي، تحوّلت زيارة عاديّة لبيت الشّقيقة، إلى مأساة قلبت حياة ولاء (35 عاماً)، رأساً على عقب. يومها، تعرّض منزل شقيقتها في حيّ الزيتون شرقي غزّة، لاستهداف مباشر من قبل الطيران الحربيّ الإسرائيليّ، راحت ضحيته شقيقتها وزوجها وأبناؤهما. أمّا ولاء، فأصيبت إصابةً بالغةً فقدت على إثرها قدمها اليسرى وتعرّضت لكسور في منطقة الحوض. فيما تسبّبت شظية "بحجم ذرّة"، على حدّ وصفها، في تهتّك في أمعائها.
"في بداية الأمر، تقبّلت ما حدث معي، كوني نجوت من الموت بأعجوبة. في الأيّام الأولى بعد خروجي من المستشفى، واستني عائلتي كثيراً وطمأنتني بأنّ كلّ شيء سيكون بخير. حتّى خطيبي، بدا متماسكاً ومؤازراً، لكنّه كان يتحدّث بقلق عن مستقبلنا"، تقول ولاء، لرصيف22.
وتذكر أنّ خطيبها أخبرها بأنّه "يشعر بأنّها تغيّرت بعد الإصابة، ولم تعد كما كانت". "كنتُ أجيبُ بأنّي لم أتغيّر. وأنّ كلّ ما في الأمر هو تعب جسديّ ونفسيّ إثر الإصابة. وبعد السّفر واستكمال العلاج ستتحسّن صحّتي وأعود بطرف صناعيّ. لكنّه كان يصمت أمام إجابتي"، تضيف ولاء.
ولا تنكر أنّها شعرت بالقلق من أن تكون الإصابة قد أثّرت على حياتها الزوجيّة المستقبليّة، وربّما الإنجابيّة. تقول: "لطالما فكّرت في الأمومة وتكوين الأسرة. لكن الآن في بداية العلاج، يبدو ذلك خياراً بعيد المنال، وفق ما أخبرني الطّبيب المتابع لحالتي".
وتتابع قائلةً إنّ خطيبها أكّد لها، من جانبه، حاجته إلى الإنجاب قائلاً: "أنا رجل وأحتاج إلى أبناء. وأنت تعرفين أنّ هذا من حقّي". "كان وقع الكلمات عليّ أشدّ ألماً من الإصابة نفسها"، تؤكّد.
نلاحظ حالات من الاكتئاب ورفض الذّات والواقع الجديد الذي خلّفته الإصابة. وربّما يكون أبرز الاضطرابات الناتجة عنها، اضطراب ما بعد الصّدمة
بعد وقف إطلاق النّار في غزّة، تسجّلت ولاء في دورات تدريبيّة في تصميم الديكور للمنازل والشّركات. وتنتظر سفرها للعلاج وتركيب الطرف الصناعيّ. "هكذا أسير في حياتي"، تقول، وتضيف: "أبدأ من حيث انتهيت".
تلفت الكرد، إلى أنّ بعض النّساء لديهنّ القدرة على التأقلم مع واقع إصابتهنّ والتكيّف مع المجتمع المحيط: "لكن ذلك لا يعني إنكار وجود أخريات، غير مستعدّات للعيش مع فكرة عدم قدرتهنّ على الإنجاب".
حتّى يبنين حياتهنّ من جديد
يوضح الاختصاصيّ المجتمعيّ والنفسيّ عبد الله سلامة، أنّ إصابات النّساء وضعتهنّ أمام ضغوط نفسيّة ومعيشيّة ومجتمعيّة جمّة. نلاحظ حالات من الاكتئاب ورفض الذّات والواقع الجديد الذي خلّفته الإصابة. وربّما يكون أبرز الاضطرابات الناتجة عنها، اضطراب ما بعد الصّدمة، الذي تُدلّل عليه الكوابيس المتكرّرة والعزلة الاجتماعيّة والتوتّر وفقدان الأمن المجتمعيّ، وقلّة الثّقة بالمجتمع وبالنّفس أحياناً.
ويضيف: "وربّما يتضاعف الاضطراب لدى النساء اللواتي يتعرّضن لرفض الشّريك، واللواتي أثّرت إصابتهنّ على صحّتهن الجنسيّة والإنجابيّة. فالمجتمع الغزّي معروف بتفضيله الإنجاب، وربّما تزداد هذه الرّغبة لديه بعد الحرب".
كما يلفت سلامة إلى أنّ إصابات النّساء قد تقلّل من فرص حصولهنّ على مهن ووظائف تناسبهنّ، ومن الممكن أن يواجهن التهميش الوظيفيّ، خاصةً إن تعرّضن لإصابات تركت إعاقات حركيّةً أو بصريّةً لديهنّ.
ويؤكد على أنّ المصابين والمصابات في غزّة يعانون، بالإضافة إلى ضعف الخدمات الصّحيّة في إعادة تأهيلهم جسديّاً ونفسيّاً، من غياب المسؤوليّة المجتمعيّة لتوفير حياة كريمة لهم، تغنيهم عن العمل، وتسّهل وصول المساعدات الإغاثيّة إليهم.
ويختم قائلاً: "أوصي بأنّ يقدّم المجتمع ما في وسعه من دعم نفسيّ وجسديّ للنساء. هذا سيُحدث فارقاً حقيقيّاً في إعادة بناء حياتهنّ، وفي منحهنّ فرصةً أفضل لتخطيط مستقبلهنّ".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
م.هيثم عادل رشدي -
منذ 23 ساعةمقال رائع وضع النقاط على الحروف فالحقيقة أن النزاعات جعلت أبناء شعوبنا متشردين ولاجئين ومهاجرين...
Zee Hilal -
منذ يومينAlso you have ZERO presence on social media or any search I have done. Are you real? Who is the...
Zee Hilal -
منذ يومينI was dating a gf who was Irish for 8 years and she was an alcoholic. Seriously why are you...
Zee Hilal -
منذ يومينLOVE is the reason we incarnate. Don't blame me because some low income people who are stuck are...
Zee Hilal -
منذ يومينYour druze! You should be ashamed of yourself! Oh. Your going to hear about this when we are...
Zee Hilal -
منذ يومينDon't blame the druze faith when people don't know what it is. If you want to marry someone like...