شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!

"كم واحد اغتصبچ؟ اغتصبچ بالحديقة هاي؟"... الوجه القبيح للبرامج "الإنسانية" في العراق

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!
Read in English:

Failing to protect the victim: The ugly face of Iraqi ‘humanitarian’ television programs

في الوقت الذي تتعرض فيه النساء العراقيات لشتى أنواع التعنيف والإقصاء والإساءة، من بعض المؤسسات الدينية أو الحكومية أو الاجتماعية، أو حتى من قبل ذويهن، بالإضافة إلى الأطفال الذين لم يسلموا من التعنيف الجسدي والنفسي، يضاعف الإعلام - الحكومي وغير الحكومي - في البلاد، ومؤسساته، تلك الانتهاكات من خلال بثّ برامج تحت عنوان "الإنسانية"، إلا أنها واقعاً ومضموناً تنتهك خصوصية الأفراد في وضعية هشّة بمن فيهم ضحايا الاغتصاب والعنف، والفتيات اللواتي يفترشن الشوارع بلا مأوى، أو ضحايا التفكك الأسري والأخريات المصابات باضطرابات عقلية ونفسية. لا يتوقف الأمر عند هذا فحسب، بل تشارك مؤسسات الدولة في هذه الانتهاكات وتشرعنها، خصوصاً الأمنية منها.

"أنتِ شريفة؟ كم واحد اغتصبچ؟ اغتصبچ بالحديقة هاي؟ أنتِ بنية عذراء لو فقدتِ بكارتچ؟"، هذه أسئلة صريحة وجهها مراسل قناة الرشيد، مصطفى لطيف، لشابة عشرينية تعرضت للاغتصاب، في تقرير ظهرت خلاله الشابة دون إخفاء هويتها مع التصريح بكونها الضحية المغتصبة. لم يكتفِ بهذا، بل أخذ يسألها عن تفاصيل اغتصابها أمام الكاميرا وهي تجيب بانكسار: "آني شريفة والله". علماً أن الفتاة بدت، أثناء حديثها، في حالة من الصدمة وعدم الاتزان بحيث كانت تتحدث بصراحة غير واعية، ما أثار تساؤلات عن الدور الإنساني والأخلاقي وشرف المهنة في الحفاظ على الضحية وحماية خصوصيتها، وتقدير الحالة النفسية لها وعدم استغلالها. العكس تماماً هو ما حصل.

لقطة من تقرير لقناة الرشيد ظهرت فيه فتاة مغتصبة مكشوفة الوجه

"أنتِ شريفة؟ كم واحد اغتصبچ؟ اغتصبچ بالحديقة هاي؟ أنتِ بنية عذراء لو فقدتِ بكارتچ؟"، هذه الأسئلة وجهها مراسل عراقي لشابة عشرينية ضحية اغتصاب في تقرير مصور لم يُخفَ فيه وجه الضحية

تعرض قناة (UTV) العراقية برنامجاً ميدانياً اسمه "من الواقع" يقدمه الإعلامي علي عذاب، الذي يعرّف عن نفسه على أنه معالج للقضايا المجتمعية والإنسانية، وفي إحدى الحلقات التي عُرضت حديثاً بعنوان "أم تجبر بناتها الأيتام أن يرقصون لزوجها الجديد وإذا رفضوا تعذبهم أشد العذاب"، تناول قضية أسرة مفككة، وفتح النقاش مع الأم وبعض أفراد العائلة بحضور سبعة أطفال لا يتجاوز عمر أكبرهم الخامسة عشرة من عمره، دون إخفاء هوياتهم أيضاً، وكانوا يجهشون بالبكاء منذ بداية الحلقة إلى نهايتها بسبب النقاش الحاد والصوت العالي عند تراشق الكبار بالحديث.

لقطة من برنامج من الواقع يُظهر الأطفال مكشوفي الهوية

"إحنا يم (بجوار) بنتنا الطفلة حوراء إلّي تعرضت لعملية بشعة غير إنسانية بالاغتصاب"، هكذا استعرض مدير العلاقات والإعلام السابق في وزارة الداخلية العراقية والمستشار الحالي لوزيرها، اللواء سعد معن، تفاصيل تنفيذ عناصر الوزارة لعملية إلقاء قبض على مغتصب اعتدى على طفلة تبلغ من العمر سبع سنوات. تظهر في الفيديو الذي بثّته وزارة الداخلية وتناقلته وسائل إعلام وصفحات على مواقع التواصل الاجتماعي، الطفلة بوجه ظاهر وهي مستلقية على سرير المستشفى ممسكة بهاتف وبجانبها دميتها الصغيرة، إثر تعرضها لجريمة اغتصاب لمدة خمس ساعات، وبجانبها ضابطة أمنية، وعدد من ذويها بالإضافة إلى معن الذي تحدث جالساً عن الطريقة التي تم بها اختطاف الطفلة وأخيها البالغ من العمر 4 سنوات ثم اغتصاب الأولى، وعن كيف تعامل قاضي التحقيق مع القضية، وأخذ بذكر الفئات الأمنية المشابهة دون رعاية خصوصية الطفلة ووضعها الصحي.

لقطة من فيديو يتحدث به مستشار وزارة الداخلية سعد معن وبجانبه طفلة مغتصبة مكشوفة الهوية

الشرطة المجتمعية تهربت بشكل واضح من التعليق على هذا الموضوع على الرغم من فتح عدة قنوات تواصل مع مصادر مسؤولة فيها، إلا أن مسؤوليها امتنعوا وكان من بين ردودهم: "هاي التفاصيل لازم نأخذ موافقة للإجابة عليها"، وبعد هذه الجملة تهرّب المصدر من الإجابة، ليتبين بالبحث المعمق أنَّ الشرطة المجتمعية نفسها لم تبرأ من هذه الممارسات وأنها من المؤسسات السبّاقة في انتهاك حقوق الضحايا إذ نشرت مراراً وتكراراً عبر صفحاتها الرسمية توثيقاً لنشاطاتها دون حماية خصوصية الضحايا.

ففي عملية "إنقاذ أطفال من تعنيف أهاليهم"، نشرت قيادة شرطة محافظة الديوانية صور الأطفال المعنَّفين بشكل صريح وتداولتها منصات مختلفة قبل أن تقوم بتعديل الصور واخفاء وجوه الأطفال لاحقاً. وفي عملية أخرى: "الشرطة المجتمعية تنقذ فتاة بعد تعنيفها وحلق شعرها من قبل عمتها في كربلاء"، جرى تسريب ونشر الصور مع تغطية وجوه المنتسبين الأمنيين الذين نفذوا العملية، إلا أنَّ هوية الضحية بقيت مكشوفة وكأنها غنيمة أو جائزة تحصلت عليها الفرقة التي نفذت العملية. 

أما هوية الجاني فلا تُكشف، ربما كجزء من تنفيذ قوى الأمن لـ"أخلاقيات مهنتهم" وإعمالاً لمبدأ "المتهم بريء حتى تثبت إدانته" وهنا يمكن أن يُعد الجاني أفضل حالاً من الضحية، التي ستكون فريسته أولاً ثم فريسة قوى الأمن ثم المجتمع، ولربما لا تعلم قوى الأمن والمؤسسات الإعلامية أن الضحية عندما تعنف أو تغتصب يجب أن يحاسب الجاني لا أن يفلت من العقاب، وأن تضع في حسبانها أنَّ الضحية عندما يتم اغتصابها مرة واحدة، ستُنتهك حقوقها لاحقاً بعدد مشاهدات الصور المنشورة لها على وسائل التواصل الاجتماعي.

لم يختلف موقف هيئة الإعلام والاتصالات العراقية عن موقف الشرطة المجتمعية، فقد تهرّب مسؤولون فيها من الإجابة على أسئلة تخص الموضوع أو التعليق عليها، وهي مؤسسة رسمية تملك القدرة على إيجاد حل لهذه المشكلات نظراً للسلطة الممنوحة لها على وسائل الإعلام بموجب القانون والصلاحيات. ووفقاً لمصدر في الشرطة المجتمعية رفض كشف اسمه، فإن المسؤولية تقع على عاتق الهيئة في معالجة هذه المشاكل إذ يقول: "أحياناً تصادفنا هذه المشكلة ونقوم بتشخيصها وإرسالها إلى هيئة الإعلام والاتصالات فهي مسؤوليتها وصلاحيتها".

تبعات خطيرة وممتدة

تقول المحامية والمستشارة القانونية العراقية حنين الطائي لرصيف22: "التأثيرات السلبية لهذا الفعل كثيرة خصوصاً في مجتمعاتنا العربية، ومنها المساس بسمعة الضحية وأهلها، خصوصاً في قضايا التحرش، وله دور في حالات التفكك الأسري والانتحار والقتل وغيرها من ردّات الفعل التي نراها في المحاكم، وأيضاً يمكن أن يتعرض الناجون/ات من الجرائم للخطر في حالة كشف هوياتهم، خصوصاً إن كُشفت هوية المعتدي أيضاً، بالإضافة إلى أن هذا يمكن أن يبني حاجز خوف لدى ضحايا آخرين/أخريات من الإفصاح خوفاً من "الفضيحة" والوصمة، وبالأخص في المناطق التي تسود فيها الأعراف العشائرية. كما أنَّ النشر، وإن كان ليس بهدف تشويه السمعة أو الإساءة، قد تتم إعادته من قبل جهات أخرى وإعادة صياغته بهدف تشويه السمعة والإساءة للضحية".

"توجد تداعيات مستقبلية لهذه السلوكيات، فلو تعرض طفل لاعتداء جنسي وتم تصويره وعرضه على التلفاز، ستبقى هذه المشاهد بعد 10 أعوام والذاكرة الرقمية لا تنسى وستسبب له مشاكل نفسية، لذا يجب أن يتحمل الجميع المسؤولية، وإن لم تحمه المؤسسات الإعلامية، فيجب على العائلة أن تحميه"

يرى الصحافي والباحث في مركز رؤية بغداد لتطوير الإعلام والدراسات، محمود النجار، أن  "ما صدر من وزارة الداخلية شيء غريب ومفاجئ لأن لديها فريقاً إعلامياً كبيراً جداً ومختصاً، وبما أنَّها تتعامل مع حالات الاغتصاب والتحرش وما يُعرف بـ‘جرائم الشرف‘ وغيرها من القصص الحساسة، من المفترض أن تعتمد بطريقة خاصة وأن لا تسقط في فخ الإعلام غير المهني، لأنها جهة أمنية لا قناة إعلامية وتحاول أن تشتهر وتأخذ السبق الخبري لأن مسؤوليتها أهم، وهي أن تعتقل الجناة والمتورطين بانتهاكات حقوق الانسان، وتقدمهم إلى المحاكمة وتعوض المتضررين نفسياً وصحياً ومادياً بالتعاون مع مؤسسات حكومية أخرى، وعليها أن تقوم بمهامها هذه على أفضل والالتزام بها"، على حد قوله لرصيف22.

ويقول رئيس المرصد العراقي لحقوق الإنسان، مصطفى سعدون، لرصيف22: "توجد تداعيات مستقبلية لهذه السلوكيات، فلو تعرض طفل لاعتداء جنسي وتم تصويره وعرضه على التلفاز، ستبقى هذه المشاهد بعد 10 أعوام والذاكرة الرقمية لا تنسى وستسبب له مشاكل نفسية، لذا يجب أن يتحمل الجميع المسؤولية، وإن لم تحمه المؤسسات الإعلامية، فيجب على العائلة أن تحميه. وإن لم يكن للعائلة أي فهم بهذا الموضوع من الناحية القانونية والمبادئ التوجيهية ولا بكيفية التعامل مع أطفالهم، يبرز هنا دور الصحافي في حمايته، وإن كان الصحافي لا يعرف آليات إجراء المقابلات مع الأطفال أو الضحايا فهذه كارثة كبيرة، ومع ذلك تقع المسؤولية على عاتق المؤسسة الناشرة أو رؤساء التحرير بشكل أكبر".

يضيف سعدون: "هناك مبادئ توجيهية من قبل اليونيسيف بخصوص نشر صور الأطفال، وهذه المبادئ لا تمنع إجراء مقابلات مع الأطفال لكنها تضع معايير أخلاقية وإنسانية ومعايير أخلاقيات المهنة، ويجب أن تتوفر فيها أهداف نشر هذه القصة وحماية مصالح الأطفال، وأيضاً توضيح لماذا ستنشر هذه  القصة. كما تجب مراعاة أمنهم وعدم تعريضهم للخطر، وعدم تعريض سمعتهم للتشويه، وعدم خداعهم بشأن ظهور صورهم وكشف هوياتهم".

"الميمز" وإدامة الضرر

"گوة عليَّ مو برضاتي"، ربما تكون هذه الكلمات من الأشهر في العراق ولا ينساها أحد، لأنها كانت من أشهر "الترندات" انتشاراً وأكثر مادة تم تقديمها في سياق من التنمر والانتقاص والسخرية من سيدة تعرضت للاختطاف ثم الاغتصاب من قبل شخص مخمور. ردت الضحية بتلك الكلمات على سؤال ضابط التحقيق عن رضاها من عدمه عن عملية اغتصابها.

الفيديو من مركز مكافحة إجرام المسيّب في محافظة بابل وسط العراق - والذي تم تصويره بشكل مرتب، يظهر حواراً بين ضابط الأمن (غ.ح.ع. الجشعمي) وهو يحقق مع السيدة التي اغتصبت تحت تهديد السلاح، وهي تقول لضابط الأمن إنّ المتهم مارس الجنس معها رغماً عنها، ويسألها الضابط عن تفاصيل دقيقة للحادثة وكأنه يمسك علبة بوشار ويستمتع بالحديث، إذ قال لها: "الممارسة من الدبُر چانت؟ بقوة لو برضاتچ؟ كم مرة؟ من وره لو من گدام؟"، وهي تجيب: "گوة عليَّ مو برضاتي" أمام الكاميرا، في مخالفة واضحة لـ"المهنية السرية في التحقيق" كما يصفها العرف الأمني.

مدير مركز مكافحة اجرام المسيّب يتحدث خلال فيديو ظهرت به سيدة مغتصبة وهو يحقق معها

وبعد مرور سنوات على انتشار الفيديو، أجري بحث عن هذه السيدة لمعرفة وضعها بعد هذه الحادثة، لكن لا معلومة دقيقة عنها سوى تكرار إجابات محددة من قبل مصادر البحث تقول تارةً إنَّها انتحرت، وتارةً أخرى إنَّها احترقت في حادث عرضي بمنزلها، بالإضافة إلى اختفاء ابنها ذي الـ24 عاماً دون أي معلومات أخرى عنهما، وبالتأكيد هذا ما تسبب به انتشار الفيديو بشكل غير مسؤول.

التلفيق وارد أيضاً

بالعودة إلى الإعلامي عذاب، وفي حلقة أخرى  - من عشرات الحلقات التي قدمها - حصدت 10 ملايين مشاهدة بعنوان: "أخطر جن في بغداد يأكل القطط ويعتدي على الأطفال ويهجر العوائل"، يتناول قضية شابة تعاني اضطرابات نفسية سببتها مشكلة عاطفية تمثلت باكتشافها أنها الزوجة الثانية لزوجها، وتعيش مع أمها وابنتها في بيت واحد. تظهر زاوية التصوير بأنها أُخذت دون موافقة أصحاب الدار مع تكرار الشابة لمفردات: "اطلع برا، تصويرك برا" ولكن رغم عدم قبولها إلا أنَّه استمر بتجاهل حديثها، وانزعاجها وألمها من الحديث عما يريده هو، ما يعد انتهاكاً لها ولرغبتها، بصرف النظر عن قبولها لاحقاً بالنقاش معه تحت الضغط.

في مقطع مصور للتحقيق مع سيدة اغتُصِبت تحت تهديد السلاح، ألح الضابط في السؤال: "الممارسة من الدبُر چانت؟ بقوة لو برضاتچ؟ كم مرة؟ من وره لو من گدام؟"، وهي تجيب: "گوة عليَّ مو برضاتي"... تحوّل هذا الرد إلى "ميم" انتشر للسخرية والتهكم من الضحية بينما أُخفيت هوية المجرم

ربما يتبادر إلى أذهان القارئ أن هذه الحلقات تمثيل واتفاق مسبق بين الطرفين لإخراج قصص مثل هذه هدفها إثارة استعطاف المشاهد واستغلال مشاعره، وهنا لا بد أن نشير إلى أن وزير الداخلية العراقي الأسبق قاسم الأعرجي، أصدر بياناً في 20 شباط/ فبراير 2018، أعلن فيه عن قيام الوزارة بإجراء تحقيق عن إحدى حلقات الإعلامي علي عذاب ليتبين أنه "تم الوصول إلى المواطنة صاحبة القضية التي اعترفت صراحة بأن مقدم البرنامج قام بالاتفاق معها لقاء مبلغ مالي زهيد من أجل تأليف وتلفيق هذه القصة المفبركة ليحصل على السبق الإعلامي على حساب مبادئ المهنة الإعلامية"، وهذا ما يؤشر فعلياً إلى وجود حالات من الفبركة وتزييف للحقائق. ولم يتوقف عذاب عن دأبه. فعدا عن تزويره الحقائق، يقول ناشطون في قضايا حقوق الإنسان إنه يساهم في المزيد من هذا الاستغلال ويُضعف من مصداقية الضحايا الكثر في المجتمع العراقي. 

"خاف مو آني خاف غيري"، ترند آخر من تريندات العراق التي لا تنتهي، وهي أيضاً كلمات نطقتها امرأة التقى بها عذاب في وقت سابق على قناة "هنا بغداد"، وانتشر هذا المقطع المجتزأ كمادة للسخرية "ميمز" وأخذ الجميع بتداوله بقصد الاستهزاء. وتدور القصة حول امرأة واجهتها مشاكل زوجية أفضت بها إلى الدخول بحالة من الصدمة العصبية وفقدان للذاكرة، وهنا يقرر عذاب زيارتها وبرفقته أخوها ومقربون منها وفقاً لمزاعمهم، ليبدأوا بسؤالها عن ذكريات ربما ترجع إليها ذاكرتها لكنها تجيب باستغراب: "خاف مو آني خاف غيري"، وهنا الحديث ليس عن مصداقية القصة بل عن خصوصيتها وحساسية ظهورها على شاشات التلفاز، والحديث أيضاً عن انعدام القيمة المهنية للبرنامج وعرضه بهذه الطريقة، وحتى إن كانت الضحية قد وافقت مسبقاً - وهذا غير واضح - إلا أن المسؤولية تبقى ملقاة على عاتق الكادر الصحافي في حماية خصوصيتها.

يشدد محمود النجار على: أنَّ "بكل تأكيد لا يتوافق نشر هذه المشاهد مع مبادئ الصحافة والإعلام لأنها تعتبر انتهاك لخصوصية الضحية، إضافة إلى أن ذلك يعتبر تشهير، وأن توسيع نشر هذه المشاهد يدخل في باب السبق الخبري والإعلامي وإظهار أن من يقوم بتغطية هذه القصة هو المنقذ، لكن هو سلاح ذو حدين ولا ينقذ الضحية بل يشهرها ويضع قصتها أمام الاعلام ويشاهدها ملايين الناس، بالتالي لا أعتقد أن هناك مصلحة عامة تبرر تصوير هذه المشاهد بهذه الطريقة، خصوصاً إن كانت الضحية طفلة صغيرة، في الوقت الذي يجب فيه تصوير المغتصب والجاني، وأن تتم تعريته واعلان عقوبته بشكل مباشر أمام وسائل الاعلام، كي لا يكرر آخرون هذا الفعل الاجرامي الذي ينتهك حقوق الإنسان".

مسؤولية حماية خصوصية الضحايا من الناحية القانونية في العراق توضحها حنين الطائي بالقول: "حق الضحايا في عدم نشر صورهم يعتبر من الحقوق الشخصية اللصيقة بكرامة الإنسان باعتباره حق تقره أغلب الدساتير العالمية، لذلك نجد أن قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969 قد جرّم النشر في المادة 438 منه إذ تقول المادة إنه يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على سنة وبغرامة لا تزيد على مائة دينار أو بإحدى هاتين العقوبتين من نشر بإحدى طرق العلانية أخباراً أو صوراً أو تعليقات تتصل بأسرار الحياة الخاصة أو العائلية للأفراد ولو كانت صحيحة إذا كان القصد من شأن نشرها الإساءة إليهم". 

برأي الطائي فإن "هذا النص تناول النشر المتعلق بنشر الحياة الخاصة والأسرار المتعلقة بالإنسان إذا كانت الغاية منها الإساءة إليهم، ولكي يتحقق القصد الجرمي يجب أن يتوفر (العلم والإرادة) لدى الناشر وهو استغلال واقعة الاعتداء على الضحية أو الغاية في الإيذاء النفسي وإن لم يكن شريكاً في أحداث الجريمة، وبذلك فإن نشر أو كشف هوية الضحية يجب أن يتحقق فيه القصد الجرمي، وأنَّ ما يتم تناوله في معظم القنوات الفضائية ومواقع التواصل الاجتماعي إذا كان بعلم الضحية فإن القصد الجرمي لا يتحقق كونه قد قبل بذلك لأنه كامل الأهلية في اتخاذ قراراته، وهنا المسؤول الأول عن حماية خصوصية الضحية قانوناً هو الضحية نفسها، أما العكس فإن القصد الجرمي يتحقق وينطبق عليه القانون وفق المادة 438 من قانون العقوبات، وكذلك للضحية الحق بالمطالبة في التعويض عن الضرر الذي أصابه وفق أحكام القانون المدني".

اختلفت طرق السخرية من الضحايا وتنوعت مقاطع الـ"ميمز" التي تنتشر بشكل جنوني على الفضاء الرقمي دون دراية بتأثيراتها.

الطفل في عمر 12 عاماً على الأقل، غالباً لا يعرف ماذا تعني الخصوصية، ولا يعرف أيضاً أن هنالك أكثر 4 ملايين مشاهد لبكائه ومشاكل أسرته على منصة يوتيوب فقط ومن مصدر نشر واحد، بصرف النظر عن الناشرين الآخرين والمنصات الأخرى والمشاهدين عبر التلفاز، بالإضافة إلى مقاطع الـ"ميمز" التي تنتشر بسرعة كبيرة على منصات التواصل الاجتماعي ويمكنها خلق "تريندات" تعلق بالأذهان لفترات طويلة لا يمكن أن ينساها المشاهد، ويستحيل أن ينساها صاحب الشأن والمشكلة، الذي يظهر فيها كمادة للسخرية وتسخيف لحياته وخصوصياته. فما شعور الطفل بعد 5 أعوام حين يرى مشاكل أسرته وخصوصياتها منثورة على مواقع التواصل الاجتماعي، كيف سيتقبل فيديوهات الـ"ميمز" التي تسخر من دموعه؟، أو الانتقاص من كرامته، وهو الضحية والذي تعرض لفعل الاغتصاب..

اختلفت طرق السخرية من الضحايا وتنوعت مقاطع الـ"ميمز" التي تنتشر بشكل جنوني على الفضاء الرقمي دون دراية بتأثيراتها، وفي هذه الحالة فإن المسبب الأول هو الوسيلة الإعلامية التي تتخذ من القضايا الشخصية والعائلية مادة دسمة تغذي بها منصاتها، مستغلين بذلك حالة العجز التي تمر بها الضحية، وهنا لا بد من الإشارة إلى أن حل المشاكل المجتمعية لا يجدي نفعاً إن تم بهذه الطريقة، بل يزيد الطين بلّة عبر تحوّل القصة من إنسانية إلى نكتة ورقصٍ على جراح، ودليل هذا أنًّ القصة لم تنتشر من باب الإنسانية بل أخذت صداها لأنها تحولت إلى مادة هزلية.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard