☆☆★★★
بَعد قرابة عقد من انشغاله عن السينما بالعمل على مسلسله الذائع الصيت "بابيلون برلين"، الذي يرصد الحياة الاجتماعية والأحداث التاريخية خلال جمهورية فايمر، عاد المخرج الألماني توم تيكفر إلى عالم الشاشة الكبيرة، مفتتحاً مهرجان برليناله للمرة الثالثة، رقم قياسي، بفيلم "الضوء".
يريد تيكفر لهذه العودة أن تكون صاخبة وكبيرة، وأن يصبح فيلمه حديث المجتمع، ومحط نقاشاته، هذا ما يفسر محاولته، حشر فيلمين أو ثلاث داخل قبعة فيلم واحد. يضم الفيلم "سلطة" من الموضوعات والقضايا الراهنة، التي يتوقف عند بعضها كثيراً ويلامس بعضها الآخر على عجل، فمن الناشطة الشبابية ضد مكافحة تغير البيئة إلى العنصرية والنسوية والإجهاض وإغاثة الدول النامية، وقصة اللجوء.
ويحاول تيكفر جعلنا نتماهى مع شخصيات بأساليب سرد مختلفة، من الأداء الموسيقي إلى الأنيمشن، وتذكيرنا بانطلاقته السينمائية القوية، بمشهد للتسابق بالدراجات، يعيدنا إلى عالم فيلمه "لولا اركضي !".

جفاف أُسري
لكن في قلب السيناريو، هناك المعضلة الاجتماعية للأسرة الألمانية الحديثة العاملة، التي يعلنها تيكفر بوضوح عبر الابن: "أسرة معطلّة"، يعيش أفرادها معاً، لكن بشكل متوازٍ، كلٌ في غرفته وعالمه الصغير، لا يكادون يرون ما يفعل الآخر، ولا يجد أحدهم كتفًا يسند إليه رأسه في لحظة ضعف.

الأب تيم (يلعب دوره لارس إيدنغر) الذي يرى نفسه مثقفاً يسارياً، لكنه يعمل في نفس الوقت في شركة علاقات عامة على حملات شركة تدمر البيئة. الأم ميلينا (تلعب دورها نيكوليت كريبتز)، التي يوحي لنا المخرج بأنها الشقيقة الكبرى لـ "لولا"، تعمل على تمويل مشاريع مسرحية في كينيا من وزارة التنمية في الحكومة الألمانية، وتتنقل من طائرة إلى أخرى لتلحق بمواعيد العمل واجتماعاتها.
فيما تقضي الابنة المراهقة فريدا وقتها مع الأصدقاء في النوادي الليلية وفي تظاهرات الناشطين البيئيين، محتارة بشأن هويتها الجندرية، يعزل شقيقها التوأم جون نفسه في غرفته في عالم ألعاب الواقع الافتراضي، غير قادر على بناء علاقة إنسانية خارجها.
يشتكي التوأمان من جفاف عاطفي وقلّة اهتمام والديهما بهما. كما يشوب جفاف عاطفي العلاقة بين الوالدين نفسيهما، التي لا تبدو قابلة للإصلاح. تشعر ميلينا بأنها قد تغيرت كينونتها منذ أن أصبحت أماً. ومن ثم، هناك "ديو"، طفل ميلينا من علاقة سابقة في كينيا، يحوم في الأجواء وهو يغني "بوهيميان رابسودي".
عندما تموت مدبرة المنزل فجأة، تدرك العائلة بعد مضي وقت طويل أنها ممددة على أرضية المطبخ، وينتبهون للمرة الأولى أنهم لم يكونوا يعرفونها حقًا، رغم أنها كانت تدخل منزلهم دائمًا، كأسرة لا يدري كل فرد فيها ما يجري في الغرفة المجاورة.

مفتاح الصناديق
يفتتح تيكفر فيلمه بلقطة كاميرا "درون" تهبط في غرفة فرح (تلعب دورها الألمانية العراقية تالا الدين)، الشابة الدمشقية، وهي مغلقة عينيها، فيما تتراقص أضواء منبعثة من قرص غامض على وجهها. بينما يدور حديث عن أرواح أموات تتجول في الأرجاء وتأبى الصعود إلى السماء.
فرح، التي لا تستطيع العمل في العلاج النفسي في ألمانيا لافتقادها للرخصة، تختار العمل لدى هذه الأسرة الألمانية كمدبرة منزل. مع دخولها إلى منزلهم، تبدو كأنها مفتاح قادر على فك عُقد صندوق معاناتهم ورميها على الطاولة. وهكذا يبدأون، واحدًا تلو الآخر، في الكشف عما يغطون عليه منذ سنوات، وهي تعرضهم على قرصها الضوئي المعروف باسم "جهاز لوسيا"، الذي اخترعه عالم نمساوي، ويمكن المتعرض لأضوائه من توسيع مدارك وعيه، على النحو الذي يصله المرء في تجارب الاقتراب من الموت، محاكيًا تأثير عقار "إل إس دي" و"دي إم تي".
الأب تيم يسأل فرح عما إذا كانت مدبرة منزل أم معالجتهم النفسية الآن. يريدنا المخرج تيكفر أن نعرف ما بات واضحًا مسبقًا لنا كمشاهدين/ات بأنها معالجتهم.
فرح، اللاجئة المحرومة من ممارسة مهنتها كمعالجة نفسية، تدخل منزل عائلة ألمانية كمدبرة منزل، لكنها سرعان ما تصبح المفتاح الذي يفتح صندوق معاناتهم المغلق، ليكشف كل منهم ما أخفاه لسنوات.
يقدم لنا تيكفر العالم الفوضوي الذي تعيش فيه العائلة على ما هو عليه، في فيلم لا يتبع فيه القواعد الدرامية المعتادة كموضوعات أو كهيكل سردي، وكأنه نسخة من العالم الذي خلقه في رأسه منذ البداية لعالم الفيلم، دون أن يخضع لاحقًا لاقتطاعات أو تنعيم الحواف من قبل المستشارين وشركات الإنتاج.

تحدّي الملل
هذه محاولة جريئة منه، شبيهة بتلك التي قام بها مواطنه ماتياس غلاسنر في فيلم "موت"، الذي عُرض في العام الماضي في مسابقة برليناله، والذي قال تيكفر إنه معجب به للغاية. فيلم على شكل حلقات، لا يلقي المخرج/الكاتب بالاً، عند صناعته، لبنية الفيلم أو عدد دقائقه، 163 دقيقة في حالة تيكفر.
رغم مدته الطويلة، يتحدى تيكفر بفيلمه الملل، ويقدمه بنسق سريع وتقلبات مزاجية، تنتقل من الدراما إلى الموسيقى ثم الكوميديا. وبأنماط سرد مختلفة، يحاول تيكفر من خلالها التقاط روح برلين وإيصالها للجمهور، بطقسها السيء ومطرها الذي لا يتوقف، في إشارة إلى تطهير العائلة من عقد حياتها.
عبر عدة مشاهد، نعرف المزيد عن هذه الشخصية الغامضة "فرح"، فهي الابنة الوحيدة لعائلة دمشقية في الثمانينيات، حيث كانت العائلة تنجب سبعة أطفال في المتوسط، ومتزوجة من كريم، خريج الأدب الألماني (يلعب دوره مضر رمضان)، فرا مع ولديهما إلى حلب، ومنها عبر البحر إلى أوروبا.
يستحضر الفيلم ما يُعرف سينمائياً بظاهرة "الزنجي السحري"، حيث تُوظَّف شخصية نمطية سوداء لإنقاذ الأبطال، الذين يكونون في الغالب من ذوي البشرة البيضاء.
لكن، رغم أن المخرج تيكفر يقدم فرح كشخصية محورية، إلا أنه لا يقدم لنا أكثر مما يحتاجه وجود الشخصية (كاركتر)، ويبرر وجودها في الفيلم. تبدو ضيفة على العائلة وضيفة على السيناريو. ويترك تيكفر فك لغز ما مرت به هي وعائلتها وسر تعلقها بالقرص الضوئي إلى مشهد ختامي جميل، خاطف للأنفاس، بل ربما أجمل ما في الفيلم. ومع ذلك، لا يبدو أننا متأكدون حقًا بأن العائلة الألمانية تلعب دوراً مهماً في حياة السورية فرح، كما يوحي تيكفر.
اللاجيء السحري
يشير تيكفر في مقابلة صحفية بأنه استوحى فيلمه هذا من فيلم "تيوريما"، للمخرج الإيطالي بيير بازوليني، الذي يسرد فيه حكاية غريب يحل ضيفاً على عائلة إيطالية، فيحبه الجميع، لتنهار البنية كلها التي كانوا يجدون نفسهم وحيدين فيها، مجادلاً بأن الأمر مختلف في فيلمه "الضوء “،الشابة السورية تظهر للعائلة الفرصة العظيمة الكامنة أمامهم، عندما يسمح المرء لنفسه بالتفكير بطريقة أخرى، وكيف أن تجاوز الخوف من الأجنبي، يجعلنا جميعا أغنى وأقوى.
في ألمانيا، ليس متوقعاً مراعاة لهجة المشاهد من بلده الأم، كما رأينا في أفلام سابقة حيث يتحدث الأب والابنة بلهجات مختلفة. لكن بما أن تيكفر يقدّم نفسه كجسر بين الثقافات، كان من المنتظر اهتمام أكبر بالجمهور السوري
في الأمسية التي عُرض فيه فيلم الضوء، للصحفيين/ات الذين غطوا برليناله هذا العام، كانت هناك كلمة تتردد على الألسن، ظاهرة "الزنجي السحري"، التي ذكرهم بها الفيلم. وهي ظاهرة سينمائية اشتهرت في الولايات المتحدة مطلع الألفية، بعد أن تحدث عنها المخرج سبايك لي، وهي شخصية نمطية سوداء التي تأتي لإنقاذ الشخصيات الرئيسية، التي عادة ما تكون بيضاء.
يريد تيكفر ، دون قصد إن أحسنا النية، عبر هذه الشخصية الشرق الأوسطية حل أزمة العائلة الألمانية المعاصرة. في فيلمها الألماني الصادر العام الماضي "أيام مع نادرة"، الذي يدور حول علاقة عابرة بين رجل ألماني وأميرة خليجية تزور ألمانيا للعلاج، تحدثت المخرجة جوزفين فريديتسكي كيف أنها تريد تناول وتفكيك أزمة الرجل الألماني في منتصف العمر، عبر عقد مقارنة بينها وبين شخصية امرأة عربية تعيش في مجتمع بطريركية. هي إذن شخصيات قادمة من عوالم ساحرة، تصلح لفك ألغاز الشخصيات الألمانية المعقدة.
لاجئة بلهجتين
قدّم تيكفر ونجم فيلمه لارس إيدنغر فيلم "الضوء" في المؤتمر الصحفي خلال برليناله، على أنه مكاشفة صريحة مع النفس ولوضعهم كألمان، والتأكيد على أنهم مسؤولون أكثر من غيرهم عن مشاكل العالم، عكس ما يعتقدون.
لدى طرحي سؤالين عن رصيف 22 للمخرج تيكفر والممثلة تالا الدين، حول اللهجة السورية لدى شخصية فرح، وإذا ما كانت اللهجة قد لعبت دوراً في اختياره الممثلة المناسبة للدور، وعما فعله لضمان أنها تتحدث بلهجة سورية تجعل الأداء أصيلاً ومقنعاً لقرابة مليون مشاهد/ة سوري محتمل في ألمانيا وحدها، تحدث تيكفر (الذي لا يتحدث العربية) قائلاً: "الشيء الوحيد الذي كنت مهتماً به أثناء بحثي عن من تلعب دور فرح هو أن تكون حقيقية، لا أن تكون ذات شخصية ملائكية، رغم أنها قد تبدو كذلك عندما تبدأ بالتأثير على العائلة. يجب أن تكون شخصية بجذور حقيقية وتاريخ حقيقي، معقولة". مشيراً إلى أنه اقتنع بعد دقيقة أو دقيقتين من لقاء تالا الدين (من مواليد ألمانيا، من أب عراقي، وأم ألمانية) بأنها هي المناسبة للدور، "وأن الكاركتر (الشخصية) قد ثبتت قدميها على الأرض، وأن تالا ليست مهتمة بالجوانب المدهشة للشخصية". فيما أشارت تالا إلى أنها عملت مع مدرب لهجات، وأنه كان هناك ممثلان سوريان معها في الفيلم، وكيف كانت مهووسة بالأمر وطلبت منهما تصحيح اللهجة دوماً.
يجيب تيكفر على سؤال لـرصيف22 حول اختياره ممثلة عراقية لدور شخصية سورية، رغم وجود لاجئات سوريات في ألمانيا، قائلاً: "بحثت عن روح الشخصية وليس عن اللهجة، أردتُ ممثلة حقيقية، ليست مثالية، بل تمتلك جذوراً وتاريخاً حقيقياً.
رغم أن تالا الدين تتحدث بلهجة سورية لا بأس بها، فقد قلص تيكفر المساحة التي تتحدث فيها بالعربية في الفيلم على حساب الألمانية. وقدمت تالا الدين أداءً جيداً، إلا أن عدم اهتمام المخرج تيكفر بكيفية استقبال المشاهد/ة السوري/ة للفيلم، وما إذا كان سيخاطر باختيار ممثلة لا تتحدث اللهجة، مما قد ينتهي به الأمر إلى أداء غير جدير بالتصديق في عيون السوريين/ات، يتناقض مع ما يحاول الإيحاء به، كبناء للجسور بين الألماني والأجنبي، ورسول انفتاح على اللاجئين/ات. يبدو أن تيكفر معني فقط ببناء الجسور داخل فيلمه، لا في حياته الواقعية التي يدعي أنه كتب الفيلم كمكاشفة للنفس معها، حيث لا أهمية فيها سوى لنظرائه الألمان.
السينما في زمن "اليمين"
في مقابلة مع برادلي كوربيت، مخرج فيلم "ذه بروتاليست"، أحد أفضل أفلام العام، تحدث عن استخدامهم الذكاء الصناعي كوسيلة وحيدة للحصول على فيلم أصيل، وكيف أن تمثيل شعب هنغاريا في الفيلم، الذي ينتمي إليه البطل، كان مهماً للغاية بالنسبة لهم، وأنه أراد أن يشاهد المشاهد الهنغاري الفيلم، ويرى كيف أن الحوارات باللغة الهنغارية دقيقة للغاية، مجادلاً بأنه بوسعك التدرب لعقود على لغة، ومع ذلك قد تتحدث بها مشوبة بلهجة أمريكية مثلاً.
هذا الوعي واحترام المشاهد/ة من البلد الأم ليس متوقعاً في ألمانيا، بالنظر إلى تجارب سابقة كارثية شاهدناها في الأعوام الماضية، حيث أفلام يتحدث فيها الأب بلهجة والابنة بلهجة مختلفة تمامًا. لكن تقديم تيكفر نفسه وفيلمه كرسول عابر للثقافات يجعلنا نتوقع منه اهتمامًا أكثر بالجمهور السوري أيضاً.
إذاً، أراد تيكفر أن يعود عبر "الضوء" إلى الشاشة الكبيرة بفيلم طموح يُدهش فيه الكثير من المغامرة، بعيدًا عن الوصفات المضمونة للنجاح، واثقًا من قدراته على إنجاز ذلك. وعندما يسوم صانع الأفلام نفسه على ذلك، قد يحقق نجاحًا باهرًا إن مضت الأمور كما يأمل، وقد يتحول عمله إلى فشل ذريع إن لم تمض. جاءت النتيجة ها هنا، بين بين.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوملا اتفق بتاااتا مع المقال لعدم انصافه اتجاه ا المراه العربية و تم اظهارها بصورة ظلم لها...
mahmoud fahmy -
منذ 4 أياممادة قوية، والأسلوب ممتاز
Apple User -
منذ أسبوعهل هناك مواقف كهذه لعلي بن ابي طالب ؟
Assad Abdo -
منذ أسبوعشخصية جدلية
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعأن تسخر التكنولوجيا من أجل الإنسان وأن نحمل اللغة العربية معنا في سفرنا نحو المستقبل هدفان...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعلم تسميها "أعمالا عدائية" وهي كانت حربا؟