شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
التعاونيّات الزراعيّة في فلسطين… اقتصاد مقاوم في وجه الاستيطان

التعاونيّات الزراعيّة في فلسطين… اقتصاد مقاوم في وجه الاستيطان

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

في الساعات المتأخّرة من ليل الخامس من كانون الثاني/ يناير 2025، وبعد أن غادر أصحاب مزرعة "أم سليمان"، أرضهم المنبسطة على رأس جبل بلدة بلعين في قضاء رام الله، اقتحم مجهولون المزرعة، وكسروا الأقفال، وعاثوا خراباً في المكان.

"في أثناء تفحّص الفريق لحجم الخراب، كانت قوّات الجيش الإسرائيليّ متواجدةً في منطقة مقابلة، واستمرت في المراقبة كأنّها تنتظر ردّ فعل معيّناً"، يقول فريق "أم سليمان"؛ إحدى المزارع العضوية في فلسطين، في منشور صدر إثر الحادثة.

آثار الخراب الذي قامت به قوة مجهولة في مزرعة "أم سليمان"، تقابلها مستوطنة "كريات سيفر"

"وعلى الرغم من أننا لا نملك توثيقاً لفضح تفاصيل الهجوم، إلا أنّ هذه العمليّات أصبحت من أبسط أساليب الترهيب التي يقوم بها الكيان الصهيوني لطردنا من أرضنا، وطمس وجودنا في هذا الوطن"، يضيف الفريق.

لا يذهب تفكير العاملين في هذه المزرعة وفي مزارع أخرى، بعيداً عن المستوطنين. فالوادي والشارع الرئيسي هما ما يفصل "أم سليمان" عن مستوطنة "كريات سيفر". ومنذ السّابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، تصاعدت وتيرة الاعتداءات على المزارعين. فكيف برزت التعاونيّات الزراعيّة كنموذج لحماية الأرض من اعتداءات المستوطنين، خاصةً أنّها تسعى إلى تقديم نموذج اقتصاديّ مقاوم يؤسّس للفكاك من الاقتصاد الإسرائيليّ؟

مزرعة "أم سليمان"

كيف أثّرت حرب الإبادة على التعاونيّات؟

لم تكن قرية المغير، في قضاء رام الله أيضاً، في منأى عن هذه الاعتداءات. لكن هذه المّرة، صار الاعتداء في وضح النهار. هاجم مستوطنون من مجموعة "فتية التلال" القرية، وأحرقوا عشرات أشجار الزيتون والأراضي الزراعيّة، بحثاً عن مستوطن شاب فُقدت آثاره.

وتقع المغير في منطقة يُطلَق عليها اسم "مثلث" الضفة الغربيّة، بين جنوب نابلس وشمال رام الله، وهي من أكثر المناطق التي تنتشر فيها البؤر الاستيطانية، والتي يبلغ عددها 151 بؤرةً، بحسب منظّمة "السلام الآن".

عند بزوغ كل فجر، نتجّمع بجانب دكّانة أبو عيسى، نشتري "الهريسة" ونجهّز "دلات القهوة"، والكثير من المياه، لكي نخفّف عنا أعباء التوتّرات والمشاحنات اليوميّة مع عصابات المستوطنين، ونطفئ أيّ نيران محتملة قد تُشعَل في أراضينا

"لقد تعرّضنا لهجوم شبه يومي. فقد أحرق المستوطنون الأراضي وأتلفوا الشتول وخزّانات المياه. فقدنا عشرات أشجار الزيتون. كنّا نعلم بذلك عبر الجيران، إذ مُنعنا من الوصول إلى أرضنا وتفقّدها"، يقول المزارع غسان أبو عليا؛ صاحب تعاونيّة "المغير"، لرصيف22.

وازدادت هجمات المستوطنين على أراضي المزارعين بعد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023 ، حيث بلغ مجموعها 744 عملية اعتداء خلال عام 2024، ونحو 96 محاولةً لبناء بؤر استيطانية، وفق "هيئة الجدار والاستيطان".

وفي السياق، يقول مؤيد بشارات؛ مسؤول المناصرة في "هيئة العمل التعاوني"، لرصيف22، إنّ "حرب الإبادة على غزّة أثّرت على التعاونيات الزراعية بشكل غير مسبوق، حيث فقدنا أكثر من 50 ألف شجرة زيتون، ولم يتمكن المزارعون من الوصول إلى أكثر من 150 دونماً من أراضيهم. كما أنّ إغلاق مدن الضفة الغربية، حال دون وصول الجمعيات الزراعية إلى مراكز المدن لتسويق منتجاتها. فضلاً عن أنّ ارتفاع تكلفة الإنتاج، أثّرت على استمرارية العمل التعاوني. فأصبحت الجمعيات مهددةً بالإفلاس".

شبكات حماية مجتمعية

لم يقف المزارعون مكتوفي الأيدي، بل سعوا إلى إيجاد طرائقهم البديلة لحماية تعاونيّاتهم. يقول أبو عليا: "عند بزوغ كل فجر، صرنا (أي المزارعون) نتجّمع بجانب دكّانة أبو عيسى، نشتري "الهريسة" ونجهّز "دلات القهوة"، والكثير من المياه، لكي نخفّف عنا أعباء التوتّرات والمشاحنات اليوميّة مع عصابات المستوطنين، ونطفئ أيّ نيران محتملة قد تُشعَل في أراضينا".

ويردف: "صرنا نذهب معاً إلى الأراضي، فاحتمال هجومهم علينا يزداد إن ذهبنا فرادى. وكما يقول المثل "خذ بإيدي اليوم بوخذ برجلك بكرا". هنا تبرز أهمية التعاونيات الزراعيّة، لضمّها مجموعةً كبيرةً من المزارعين والمتطوّعين، الذين يعملون معاً ويداً بيد".

لم تكن بقالة أبو عيسى، هي العنوان الوحيد لتجمّع المزارعين من أجل صدّ هجمات المستوطنين، فهناك آلاف العناوين التي جمعتهم تحت مسمى "العونة" أو "الفزعة"، مشّكلةً جوهر عمل التعاونيات الزراعية.

"إن فلسفة التعاون ليست غريبةً عن الفلسطينيين، إذ إنّها تتقاطع مع القيم الموروثة؛ كمفهوم "العونة" وهو مصطلح أطلقه الفلسطينيون على تجمّع العائلة أو أهالي القرية أو مجموعات خارجيّة من أجل مساندتهم في الإنتاج الزراعيّ. وبذلك، شكّل الفلسطينيّون شبكات حماية لمواجهة أي خطر أو تهديد خارجيّ"؛ يؤكد بشارات.

مشروعنا التعاونيّ في الإنتاج الغذائيّ جاء لتجاوز الصعوبة في الوصول إلى المنتجات الغذائيّة من القرى المجاورة أو المدن، حيث تعتمد جل عملية الإنتاج على خيرات القرية نفسها

تاريخيّاً، شكّلت التعاونيات وسيلةً لمقاومة الاستيطان في فلسطين، وسبيلاً لصدّ السيطرة على الأرض والوجود. ففي كلّ مرحلة ازداد فيها التوغّل الاستيطانيّ الزراعيّ، قابلتها زيادة في عدد التعاونيّات. فعلى سبيل المثال، إبّان النكبة وخلال زيادة الهجرات اليهودية إلى البلاد، شهد عدد التعاونيّات ازدياداً ملحوظاً، فوصل عام 1937 إلى 127 جمعيةً، ثم تضاعف عددها حتى نهاية عام 1946، إلى نحو 244 تعاونيةً.

أما الآن، فيبلغ عدد الجمعيّات التعاونيّة نحو 610 جمعيات، منها 250 جمعيّةً في الضّفة الغربيّة و21 جمعيةً في قطاع غزة في عام 2023، بحسب إحصائيّات "هيئة العمل التعاوني".

"كيلو من عنّا بخسّر كيلو من عندهم"

"كل كيلو بندورة ننتجه في تعاونيتّنا، تقابله خسارة كيلو في إسرائيل"، بهذه المعادلة الاقتصادية بدأ بكر حمّاد، صاحب تعاونية "قمر البلد"، حديثه إلى رصيف22، مفاخراً بدور أرضه في ملء النقص الذي عانت منه قرى ومدن أخرى في المنتجات الزراعية، بسبب ضعف الاستيراد من المستوطنات، خاصةً في بداية حرب الإبادة.

يضيف حمّاد، شارحاً: "قمنا بتأسيس تعاونيّة عام 2015، نتيجةً لوجود تذبذب عالٍ في الأسعار جرّاء التحكم الإسرائيلي في الخضار والفواكه في القرية. أُنشئت التعاونيّة الزراعيّة بالتعاون من 5 أعضاء آخرين، للاكتفاء الذاتي من المحاصيل الأساسية".

وتتوزع التعاونيّة على مساحة 400 دونم، فيها 85 شتلة عنب، و75 شجرة زيتون، و100 شجرة ميرمية، و1،000 شتلة زعتر، وغيرها. "تشكّل شبه اكتفاء ذاتيّ للقرية، بالتعاون مع مشاريع الحدائق المنزلية المتواجدة بكثرة هنا"، يؤكد.

يتجوّل حمّاد في مزرعته، ويشير بإصبعه إلى وسيلة تنقّله، قائلاً: "حتى هذا 'التوك توك' اشتريته كي لا أضطر إلى أن أقتني جرّاراً إسرائيليّاً، كما أنه صديق للبيئة ويعمل بتقنية الشحن".

وتتكامل مساعي حمّاد وسائر التعاونيّات،في زيادة إنتاجيّة السوق المحليّ، مع مساعي حملات المقاطعة العالمية للبضائع الإسرائيليّة وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها. وفي هذا السياق، يشير ناشطون في العمل التعاوني إلى زيادة حصة مبيعات التعاونيات الزراعية في الضفة الغربية، بعد حرب الإبادة، حيث أخذت على عاتقها سدّ النقص الحاصل جرّاء مقاطعة المنتجات الزراعيّة الإسرائيلية. ويشجع هؤلاء على استغلال كلّ متر في الزراعة لتحقيق ما يمكن تحقيقه من اكتفاء ذاتي للعائلات الفلسطينيّة.

منذ بداية حرب الإبادة، لجأت إلينا الكثير من النساء في القرية بعد فقدان أزواجهنّ عملهم، خاصةً من كانوا يعملون داخل الخط الأخضر وأوقفتهم إسرائيل عن العمل

تتميز التعاونيّات باعتمادها على الأسمدة العضويّة، بعكس الزراعة في إسرائيل، التي تسجّل أعلى النسب عالميّاً في استخدام المبيدات الكيميائيّة السامّة في إنتاجها الزراعي، حيث يباع كل سنة ما يقارب 7 آلاف طن من بين 670 نوعاً مختلفاً من المبيدات. كما تستخدم إسرائيل ما معدله 3.5 كغم من المواد الفعّالة السامّة للدونم الزراعي الواحد، ما يعني أنّ المنتجات الزراعية الإسرائيلية هي الأخطر من بين الدول الغربية جميعها، بحسب تقرير لمجلة "آفاق" البيئية.

في مواجهة قطع أواصر الجغرافيا

شكّلت الطرق البديلة والالتفافيّة عنوان المرحلة الحاليّة في الضفة الغربية، بعد أن نصب الجيش الإسرائيلي نحو 146 حاجزاً بعد السابع من أكتوبر، من أصل 898 حاجزاً بحسب "هيئة مقاومة الجدار والاستيطان"، جعلت المواطنين ينتظرون من 5 إلى 6 ساعات حتّى يتنقّلوا بين المدن والقرى، ما أثّر على قدرة المواطنين على الوصول إلى الأسواق والعملاء والموردين بنسبة 51%، وفق تصريح مدير عام غرفة وصناعة محافظة رام الله والبيرة، حول تأثير الحواجز في الحالة الاقتصادية

لكن كانت لتغريد زيادة؛ صاحبة تعاونية قرية بيتللو، تجربة أخرى، حيث لم تتأثّر بنصب الحواجز حول قريتها التي تحدّها المستوطنات من الجهات الأربع، قائلةً لرصيف22، إنّ مشروعنا التعاونيّ في الإنتاج الغذائيّ جاء لتجاوز الصعوبة في الوصول إلى المنتجات الغذائيّة من القرى المجاورة أو المدن، حيث تعتمد جل عملية الإنتاج على خيرات القرية نفسها. فنحن نحصل على المواد الأوليّة من المزارعين والمزارعات في القرية، ونقوم، نحن عضوات الجمعية، بإنتاج زيت الزيتون والزعتر والمفتول وغيرها، ونوزعه على سكان القرية بسعر أقلّ وجودة أعلى".

وتتابع: "لقد كنا سابقاً نعتمد على السوق الخارجي في مدينة رام الله، لبيع منتجاتنا. لكن بعد الإغلاقات وإقفال الطرق، ظننا أننا قد نُغلق التعاونية لعدم وجود طلب على المنتجات. لكننا فوجئنا بزيادة الطلب عليها والعمالة فيها من قبل مواطنين من القرية، نتيجةً لارتفاع معدلات البطالة لدينا".

وكانت القرية قد شهدت اعتداءات متتاليةً من قبل المستوطنين، آخرها يوم الثلاثاء 18 شباط/ فبراير 2025، حيث دمّرت مجموعة منهم ممتلكات زراعيةً تابعةً للقرية، وأحرقوا مضخّات توزّع المياه على نحو 200 دونم زراعيّ.

آثار اعتداء المستوطنين على قرية بيتللو

فرص عمل للنساء

في ظلّ ارتفاع نسبة البطالة في الضفة الغربية العام الماضي، والتي بلغت نسبة 35% مقابل 31% في عام 2024، شكّلت التعاونيات ملجأ للعاطلين عن العمل. تقول تغريد زيادة: "منذ بداية حرب الإبادة، لجأت إلينا الكثير من النساء في القرية بعد فقدان أزواجهنّ عملهم، خاصةً من كانوا يعملون داخل الخط الأخضر وأوقفتهم إسرائيل عن العمل. قمنا باستقبالهنّ كعاملات، ونتيجةً لذلك ارتفعت إنتاجية التعاونية بشكل ملحوظ".

وبحسب نتائج دراسة أعدّها "معهد مواطن"، نلحظ ضعفاً في الإقبال النسائي على الانضمام إلى التعاونيات الزراعية المختلطة. ويأتي ذلك في ظلّ تهميش النساء في المجتمع، والضغط المجتمعي الذي يتعرّضن له، بالإضافة إلى حرمانهنّ أحياناً من الميراث أو ملكية الأرض. وكذلك عدم تمكنهنّ من التنقّل بسهولة بين مساكنهنّ والمواقع الزراعيّة.

"وعليه، نلحظ أنّ عمل النساء في التعاونيّات يرتكز، في مجمله، على التعاونيّات الحرفيّة، التي تشكّل ما نسبته 2% فقط من مجمل القطاع التعاونيّ. أما في ما يتعلق بالتعاونيّات الزراعية الإنتاجية، فتشكل المرأة ما نسبته 8% فقط.

وفي سياق حديثها عن الصعوبات التي تواجه النساء في مجال عمل التعاونيّات، تقول زيادة: "يجب تفعيل دور النساء من خلال تطبيق سياسات حكوميّة في توزيع الأراضي، خاصّةً الأراضي الوقفية، وتسهيل عملهنّ، وتشجيع انخراطهنّ في التعاونيّات الزراعية. كما من المهم توعيتهنّ من خلال تكثيف الدورات في عمليّة الإنتاج الزراعيّ، والتصنيع الغذائي، بالطرائق الحديثة".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard
Popup Image